لا تنتهي أزمةٌ تتعلّق
بالإسلام إلا لتتحفنا وسائل الإعلام المختلفة بأزمةٍ أخرى تتغذّى على
سابقاتها. تأتي ضمن هذا السياق الاحتجاجات الإسلامية على تصويت الشعب
السويسري لصالح حظر بناء مآذنَ جديدة في البلاد. ويبدو أن حجر الزاوية لما
يسمّى "الإساءة للإسلام والمسلمين" والذي يُعاد التذكير به عند كلّ "أزمة"
جديدة بات متمثلاً بقضية "الرسوم المسيئة للرسول"، والتي بدأت قبلَ أكثر من
عامين مع صورٍ نشرتها صحيفة دانمركية بريشة رسّام دانمركيّ واعتبرها
المسلمون مسيئةً لهم وللنبي محمد، وتبعتها عدّة صحف غربية حذت حذوها
تضامناً مع الصحيفة ضد ما واجهته من هجوم وانتقادات.
تتالت عشرات الصور في الظهور بعدها على المواقع الإلكترونية وغيرها.
والبقية معروفة حول ردود الأفعال العنيفة لبعض الغوغاءِ من المسلمين
ومتعصبيهم، وما نتج عنها من قتل وتدمير وإحراق سفارات ومصالح غربية حول
العالم، وسجالات إعلامية متلفزة وإلكترونية وغيرها لا تنتهي.
تباينت وجهات النظر في المسألة بين مؤيد للرسوم احتراماً لحرية الرأي
والتعبير، وبين معارض لها احتراماً لعقائد الآخرين ومقدّساتهم. هناك من كان
موقفهم رمادياً أو "بينَ بينْ" كما يُقال، لم يعترضوا على مبدأ الرسم أو
الاحتجاج عليه وإنما "شكل" كلٍّ منهما والطريقة التي ظهرا بها. طبعاً
وكعادتهم في هكذا مناسبات لم يغِبْ صوت أصحاب "نظرية المؤامرة" عن المشهد،
وكان تحليلهم القديم الجديد للموقف جاهزاً فما جرى "يندرج ضمن إطار الحملة
المنظّمة التي تقودها الصهيونية العالمية وأعوانها للنيل من الإسلام
والمسلمين".
ومازال الجدل مستمراً.
في روايته (البوّابة*) والتي صدرت طبعتها الأولى بهدوء ومن غير ضجّة
إعلامية بعد أزمة الرسوم مباشرةً، تنقلنا مخيّلة الكاتب والشاعر السوري
فاروق حَمّاد إلى مقاربة مختلفة وغير مسبوقة.
تجري الرواية على امتداد صفحاتها ضمن سياق حلمٍ أو منام للكاتب دار فيه
حوار بين شخصيتين لا يوجد غيرهما ضمنها خلا صوت الكاتب في "بديل عن
المقدمة" حين يضعنا في أجواء الرواية/الحلم.
أما الشخصيتان المتحاورتان فهما: الرسام الدانمركي صاحب الرسوم المسيئة
للرسول، والنبي محمد بن عبد الله، الرسول الذي أساءت الرسوم إليه!
لا يدري فاروق حمّاد ـ كما يخبر القرّاء ـ إذا كان حلم يقظة أو مناماً ما سيرويه:
" فقد رأيت رسول الله (ص) بهيئة بهية، ووجهٍ نورانيٍّ جميل يحاور رسّاماً
وسيماً متواضعاً، فتساءلت في نفسي: ما دام هذا الرسام ليس قبيحاً، فلماذا
رسم رسولَ الله (ص) بتلك الطريقة التي لا تليق أبداً بمقام نبيٍّ حكيم؟!
وقد أصغيت إلى ما دار بينهما من حوارٍ سأرويه لكم بكلّ أمانة، ولكن بقدر ما
تسعفني ذاكرتي الخمسينية التي نادراً ما تسعفني"(صفحة12) والحوار أشبه
بمناظرة فكرية ثقافية تتناول الرسوم دون أن تقتصر عليها، ولا تخلو من
السياسة والتاريخ. تدورُ بين الرسام والنبي بلباقةٍ واحترامٍ متبادلين..
وندّية أيضاً!
ليس جديداً في الأدب أسلوب المحاورات المتخيّلَة فهو معروفٌ منذ زمن
الإغريق كما ازدهر في عصر النهضة الأوروبية. لكن أن يكون النبي محمد طرفاً
في حوار مع شخصية معاصرة "شيطَنَها" المسلمون، وبقلم كاتب عربيّ ومسلم ،
فتلك هي الجِدّة بل والجرأة. عرض الكاتب فاروق حمّاد أفكاره وتصوراته على
لسان بطليه محاولاً إضاءة مناحٍ عدّة في السياسة والفكر وتصحيح بعض
المعلومات التاريخية أو التشكيك بصحة بعضها الآخر. وقد أفلت ببراعة من مقصّ
الرقيب من خلال وضع الرواية في قالب "الأحلام والمنامات" وهي ما لا يمكن
لأحد أن يُحاسبه عليها، إضافة إلى استخدام لغة بسيطة يمكن بواسطتها تمرير
أفكاره إلى قرّائِهِ من المؤمنين، بعيداً عن اللغة الأكاديمية المتعالية أو
الصنعة الأدبية المبالغة.
من الصعب اعتبار النص "رواية" بالمعنى الفني للكلمة وربما تكون التسمية خاضعة لاعتبارات النشر.
في موضوع الرسوم يسأل النبيّ الرسامَ عنها ويوضح الأخير موقفه:
- ألا تظن أن رسومك تسببت ببعض الأذى لمن لا يستحقون؟
لا أظن ذلك . . فالعمل تحت سقف قانون عادل لا يؤذي أحداً إنّ تناولي
الكحول ولحم الخنزير لا يؤذي أحداً فلماذا رسومي فقط هي التي تؤذي؟!" (ص
15)
في موضع آخر نجد تلميحاً أقرب إلى التصريح في استنتاج يشير إلى وجود من افتعل الأزمة:
- كم لوحة نشرت في الصحيفة؟
اثنا عشر لوحة.
- منذ متى؟
أربعة أشهر تقريباً.
- كم لوحة رأيت في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية؟
عشرات وربما أكثر.
- وما قولك بالرسوم الزائدة ؟
كانت بائسة ومنفّرة على المستوى الفني ومستويات أخرى.
- "هؤلاء الغيورون جداً على رسول الله لم يستطيعوا رؤية الرسوم قبل أربعة
أشهر.. لو نُقلت هذه الرسوم على ظهر حمار لاستغرق وصولها إلى العرب وإلى
المسلمين زمناً أقلّ بكثير من هذه المدة خصوصاً أن العرب والمسلمين يعيشون
بينكم ويقرؤون الصحف كل يوم كما تقرؤونها أنتم ويستطيعون إيصالها إلى كل
الدنيا في لحظة واحدة. . ألم تستنتج شيئاً ألم تقرأ بين السطور؟!" (ص 45)
وفي معرض نقده وتشكيكه ببعض المسلّمات يبين الكاتب خطأ الاعتقاد الشائع في
أذهان أكثرية الناس حول جهل محمد بالقراءة والكتابة. ذلك الخطأ الذي
رسّخته حكاية الغار عند نزول سورة العلق (اقرأ باسم ربّك الذي خلق) حيث
يبادئ جبريل ملاك الوحي محمداً بقوله (اقرأ) ويجيبه محمد (لست بقارئ) إلى
آخر القصة التي لم يرد لها ذكر في نصّ القرآن. يوضح لنا الكاتب الأمر على
لسان النبيّ العربيّ في ردّه على أسئلة الرسّام:
- هل كنتَ أمّياً؟
- كنت أمّياً متعلّماً . . . كنت مطلعاً على العرباء والسريانية ولغات أخرى.
- كيف ذلك سيدي؟!
- أنا من فرع نبيّ الله اسماعيل أخ نبي الله اسحق وقد أرسل الله النبيين
في فرع اسحق، فكانوا يلقبونا بالأمّيين الذين لم يبعث الله فيهم نبيّاً
يعلّمهم الكتاب والحكمة.. لم يكن هذا معيباً بل توصيفاً، وحين اصطفاني الله
جلّت قدرته، لقّبوني بالنبي الأمّي، أي من فرع إسماعيل.
- لكنّ المسلمين يظنّون أنك أمّيٌ فعلاً!
- أنا مسؤول عمّا قدّمته لهم، لا عمّا يقدموه لكم (..) إنها حكاية وُضِعت
لإثبات فكرةٍ أو نفيها، لكني لست مسؤولاً عنها ولا هي واردةٌ في كتاب الله
(..) ولا أساس لها (ص 33 ـ 34)
إشارةٌ هامّة في نقد ونقض (تعدد الزوجات) نقرأها في إجابة النبي حول سؤال
يتناول الموضوع وأنّ الآية وجواز التعدد الذي تتضمنه يتعلّق بحالة خاصة هي
وجود يتامى (ص 36(
(وإن خفتم ألا تقسطوا باليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث
ورباع). حتى أنّ واو العطف في مطلع الآية الكريمة تشي بما قبلها: (وآتوا
اليتامى أموالهم، ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب) يمكنك الاطلاع على سورة
النساء، وأنت تستنتج بعقلك وهذا حقّ.. لا بعقول الشرّاح الذين يدّعون
امتلاك الحقيقة، فإنّ كلاّ منهم يشرح بعقله وهذا حق، لكن ما لا يجوز له أن
يفرض شرحه على الآخرين على أنّه القول الحقّ .".
يتطرّق الحوار للعلاقة بين العقل والغريزة والجسد والحواس وكيفية تلك
العلاقة في مناخ الحرية وتميّزها عن كيفيتها في الحالة القطيعية.
ويعرّج الكاتب على مسألة المواطنة والانتماء، كوجود مواطن دانمركي من أصول
عربية أو مواطن دانمركي الأصل ويعتنق الإسلام وكيف يُنظر لكل منهما.
ويتناول مفهوم الأمة والدولة بالمعنى الحديث والارتقاء الحقوقي والسياسي
والحضاري نحوهما. يجري على لسان البطلين حديثٌ في السياسة يشخّص مشكلات
العرب بعد أن يسمّيهم الكاتب بلسان النبي "السوريّون" في ما يظهر أنّه
استعادة للتسمية القديمة للعرب، أو ربّما لأنّه سوريّ ويشير إلى أنها
مشكلات وطنه. يتلخّص جذر المشكلة كما نتبين من الحوار في الاستبداد بكافّة
أشكاله.
نشير هنا إلى براعة الكاتب في الإفلات من الرقابة مرّة أخرى حين استعاض عن
كلمة "الاستبداد" والتي تسبب حساسية عالية للرقابات العربية لكثرة ما تزخر
بها أدبيات المعارضات السياسية وبياناتها، بكلمة "التعسّف" ذات الوقع
الأخفّ وطأة مع إيصالها للمعنى المقصود:
- "لا يُبقي التعسف على زرع ولا ضرع، فقد أَسَرَ السوريينَ وأوصدَ دونهم
أبواب العلم والمعرفة حتى طبَعَهم بطابعهِِِ، فراحت النخبة الدينية تكفّر
المؤمن، والنخبة السياسية تكفّر السياسيّ، والنخبة الفكرية تكفر المفكّر..
إنها حرب الجميع على الجميع! . . أول ضحايا الحرب الحق والإنسان، فاستراح
المتعسّفون، وتمادوا في غيّهم وفسادهم وإفسادهم." (ص76). ويخلص الكاتب إلى
أنّ العرب أو "السوريون" حسب تعبيره "موزعون بين فاسدٍ ومفسِدٍ ومهدور".
موضحاً الفرق بينهم.
لم ينسَ فاروق حمّاد أن يمرّر لنا في ثنايا "حلمه" تصوّره لمَواطن الخلل
في العلاقة بين العرب والمسلمبن وبين الغرب التي يتحمّل الطرفان مسؤوليتها.
ونلاحظ تأكيده على مسؤولية الغرب الأخلاقية والحضارية في التعامل مع العرب
والمسلمين من زاوية فهم مشاكلهم وضرورة مساعدتهم لا النظر إليهم كأعداء
ومتوحشين أو بشر من الدرجة الثانية، فهم كانوا أصحاب ريادة وفضلٍ بشكلٍ ما
على الغرب في دورةٍ من دورات الحضارة الإنسانية، وهو بتطوره وتفوقه الآن
مسؤول عن إعادتهم إلى سياق تلك الحضارة. كما يشير إلى التساوي في المشكلة
بين من يعاني عقدة نقصٍ أو عقدة تفوّق.
لعلّ في بعض ما قدّمه لنا "حلم" الكاتب نقاطاً جديرةً بالبناء عليها. يمكن
أن تكون الفائدة في ترجمة كتابه مساهمةً في حوارٍ موضوعيّ بات ضروريّاً.
قيامُهُ قد ينزع فتيل أزماتٍ كامنةٍ قادمة. لكن المؤكَّد أن في غياب هكذا
حوار سببٌ إضافي لتلك الأزمات. وعلى رأي فاروق حمّاد : "جميلٌ أن تحلم
بالأنبياء.. لكنّ ما ليس جميلاً أن تستفيق على كابوسك الأزلي