الكاتب اليوم ينشر ما يكتبه.
إنّه ينشر ضدّ النشر، ينشر بفضل الإعلام ضدّ الإعلام. النشر هو التعميم، هو
جعل المكتوب "في يد" العموم، "في يد" الجمهور. يتساءل موريس بلانشو : وما
الجمهور؟ فيحاول أن يحدّده سلبا فيقول: " ليس الجمهور أو العموم مكوّنا من
عدد كبير أو صغير من القراء، كلّ يقرأ على حدة". إنّه ليس حاصل جمع عدد من
القراء. فلا مكان لأيّ شخص معيّن أو بنية معيّنة ضمن الجمهور. " ليس هناك
من ينتمي إلى الجمهور، ومع ذلك فكلّ العالم ينتسب إليه".
ما يميّز الجمهور إذن هو أنّه يظل منفلتا من التحديد. ورغم ذلك
فبإمكاننا أن نرصد أهمّ مميّزاته أو مفارقاته على الأصحّ، وهي تعطشّه
الدائم وقناعته المستكفية في الوقت ذاته. إنّه عطش وارتواء، فراغ وامتلاء.
فهو يتغذّى على ما يقال ويتناقل. إنّه يقرأ قبل القراءة، ويسمع قبل القول،
زاده الأساس هو الشائعة، أي بالضبط ما يقال قبل كلّ قول " إنّه يرى أهمّية
في أيّ شيء، رغم أنه لا يولي اهتماما إلى شيء".
هذه "القوة اللاشخصية" التي ينطوي عليها الجمهور تشكل عقبة ضدّ الكتابة
ومنبعا لها في الوقت ذاته. فالكاتب يكتب من أجل الجمهور، لكن أيضا ضدّ
الجمهور. كتب بلانشو: " يعبّر المؤلف عن نفسه ضدّ كلام وبفضل كلام لا
ينقطع، كلام لا بداية له ولا نهاية.. متوجّها نحو كلام لن يكون كلام
أحد…مخاطبا دوما أحدا آخر مذكّرا من يستقبله بآخر جاعلا إياه في انتظار شيء
آخر…إنما هي حركة كلام لا أصل له ولا مالك، كلام يفضل الامتناع عن القول
بدل الزعم بالإحاطة بكلّ شيء".
تمثّل ضدّية الكاتب إذن في هذه القدرة، لا على الاستباق إلى القول
والسرعة إلى أخذ الكلمة و"الاستحواذ" عليها، وإنما في ما يعبّر عنه بلانشو
بـ "تعيين المستوى الذي ينبغي أن ننزل إلى ما دونه إذا ما أردنا الشروع في
الكلام". فعلى عكس ظمأ الجمهور وتعطّشه وطلب الزيادة الذي لا يكفّ، نحن
أمام رغبة في "النزول" والتراجع والإفراغ. لا يتعلّق الأمر بتواضع أخلاقيّ
وتنازل عن جرأة القول، وإنما بتخفيف من حدّة السرعة والتعطّش وهوى الامتلاء
الذي يتمتّع به الجمهور. فمقابل شساعة الدوكسا و"غناها" هناك "عوز"
الفكرmanque ، ولكن، يعقّب بلانشو :"في بؤسنا الفكريّ يكمن غنى الفكر.
فالبؤس يجعلنا نحسّ أنّ التفكير يعني دائما أن نتعلّم كيف نفكّر أقلّ ممّا
نفكّر، أن نفكّر في الغياب الذي هو الفكر، وأن نحافظ على ذلك الغياب عندما
ننقله إلى الكلام".
ليس المؤلّف وحده هو الذي يرغب في هذا الغياب ويكتب "ضدّ"، وإنّما حتى
القارئ نفسه. فالقارئ أيضا يقرأ "ضدّ" الجمهور. إلا أنه، مثل الكاتب، لا
يستطيع أن ينفلت منه:" ضدّ ولع الجمهور، ضدّ الفضول الشارد الذي لا يقرّ له
قرار، الفضول العامّ والمحيط بكلّ شاذّة وفادة، يقوم القارئ بقراءته
منبعثا بصعوبة من خضم تلك القراءة الأولى التي قرأت قبل أن تقرأ، قارئا
ضدّها، ولكن عبرها بالرغم من ذلك".
ذلك أنّ الاستماع العموميّ الذي سمع كلّ شيء مقدّما وأدركه، يعمل كلّ
جهده لإفشال كلّ فهم خاصّ. من هنا تغدو كلّ قراءةٍ قراءةً مضادّة، ولكنّ
الأهمّ هو كونها دائما قراءة عسيرة، لأنها "تنبعث بصعوبة من خضمّ قراءة
سابقة" لم تقرأ.
من هنا نلفي أنفسنا في حركة الكتابة بعيدين أشدّ البعد عن أيّة ولادة
طاهرة لأيّ عنصر من العناصر الداخلة في هذه الحركة: فلا الكاتب ينطلق من
"لحظة صفر للكتابة"، ولا القارئ يبدأ بلوح "مصقول"، وكلاهما معا يقوم ضدّ
الجمهور، ولكن بفضله. ومن هذا الخلط العجيب الذي "يجعل الكاتب ينشر قبل أن
يكتب، ويجعل الجمهور يشكّل ويتناقل ما لا يسمعه، ويجعل الناقد يحكم على ما
لا يقرؤه ويحدده، ويجعل القارئ في النهاية مضطرّا لأن يقرأ ما لم يكتب
بعد"، من هذا الخلط العجيب تستمدّ الكتابة غناها وفقرها، رفعتها ووضاعتها،
ذيوعها وعزلتها.