لا شكّ أن العالم تغير بعد
أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 م، والتي طالت مركز التجارة العالمي في
الولايات المتحدة الأمريكية، وشكل هذا اليوم منعطفاً في تاريخ البشرية
المعاصر بحيث أصبحنا نقسم التاريخ إلى ما قبل 11 سبتمبر وما بعد 11 سبتمبر،
وبات العالم يعيش في انقسامات وصراعات وحروبٍ فاقت بشدتها الصراعات التي
سبقت هذا التاريخ، بل شطرت العالم من خلال مفاهيم وأيديولوجيات جديدة عنيفة
كل العنف تجاه الآخر المقابل لها، طالت هذه الأيديولوجيات السياسة
والاقتصاد والدين…..
ونحن هنا في هذه السطور سوف لن نتطرّق إلا لمسألة واحدة من بين المسائل
الكثيرة المعقدة والشائكة والتي ليس بوسعنا القبض عليها دفعة واحدة، إذن
المسـألة التي نراها الأكثر جدارة بمناقشتها هنا والتي كانت من مخلفات هذه
الأحداث والصراعات والحروب، هي رواج ثقافة الموت بين الشباب وخصوصاً في
الدول المُنْهكة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والتي تعيش أزمات وقهراً
إنسانياً بكل ما في الكلمة من معنى.
إذ باتت الإيديولوجيات المتشدّدة وخصوصاً الدينية منها،والتي تشكل في
جوهرها عقيدة أصولية تدعو إلى محاربة كل ما هو جديد وغريب عن العقيدة التي
يتم الإيمان بها عن طريق إلغاء أي إيمان آخر مخالف لها، باتت تسعى من خلال
الجماعات المتطرفة والتي هي وليدة استبداد سياسي بالدرجة الأولى وانعدام
الديمقراطية الحقيقية، إلى استقطاب الشباب وزجّه في العمل لصالح العقيدة
التي تؤمن بها.
الشباب كما نعرف هم الشريحة الأكثر حماساً واندفاعاً وفضولا تجاه الحياة
والعالم، لديهم هواجس كثيرة وأحلام وطموحات، ونزعة للتمرّد وخصوصاً في سن
المراهقة، يبحثون عن ذاتهم وهويتهم التي ما زالت طوْر التشكيل، لديهم
الكثير من الأشياء التي يرغبون في صنعها، كما وأن لديهم رغبة جامحة في
اكتشاف المحيط وتغيير العالم……. إلى آخره من السمات التي تطبع هوية الشباب
النزِق الثائر.
ومن المعروف أن الشباب هم محور أية ثورة، فنحن دائماً نصف الشيخ بالحكمة ونصف الشاب بالثورة والحماس.
هذه الصفات هي صفات طبيعية تدخل في نسيج الوجود لدى الشاب أو الشابة، أي
أن هذه الصفات ليست مكتسبة من مجتمع ما، إنما هي موجودة في كل الشباب، في
أي مجتمع وفي أي مكان في العالم.
ولكن ما هو جدير بالالتفات إليه وإعطاءه كلّ الأهمية هو أن هذه الصفات هي
سيفٌ ذو حدّين، فإذا ما تم استثمارها وتوظيفها بأشياء خلاقة إيجابية،
منتجة، راقية، جميلة… فهي حتماً ستكون المناخ الأكثر فاعلية من أجل الخصب
والإبداع والتغيير نحو الأفضل بحيث يصبح من الوارد جداً أن تفرز هذه الصفات
علماء ومفكرين وفنانين وأدباء ورياضيين… ولكن في حال تم توظيف هذه الصفات
في أشياء لا تمتّ إلى العقل والأخلاق والاتزان بصلة ستشكل هذه الصفات
مناخاً هاماً للدّمار والخراب والانحرافات الخطيرة كالجريمة أو المخدرات أو
الانخراط في أيديولوجيات مدمّرة.
وإذا ما توقفنا عند هذه الأخيرة أي ( الأيديولوجية المدمّرة)، سنرى أنها
جديرة بالتحليل مطوّلاً لنكشف أثرها التخريبي والمدمر لشريحة الشباب والتي
هي الشريحة الأكثر فاعلية في الحياة.
في الحقيقة هناك أيديولوجيات أو أفكار فئوية قائمة من أجل تحقيق مصلحة
جماعةٍ معينةٍ تقوم باستهداف شريحة الشباب مستغلة صغر سنهم وحماسهم
واندفاعهم وكل الصفات التي تحدثنا عنها في السطور السابقة ، حيث أن هذه
الجماعات والتي تحمل أفكار أيديولوجية تخدم مصالحها الذاتية تقوم باستغلال
الثورة والرغبة في التغيير وتحقيق الذات عند الشباب من أجل تجنيدهم في سبيل
الفكرة التي تؤمن بها وبالتالي تشجيعهم على التضحية بأنفسهم جسداً وروحاً
من أجل الفكرة التي يتم اعتناقها.
في الواقع إن الصفات التي يتمتّع بها الشباب والتي ذكرناها قبل قليل ويتم
استغلالها من قبل الجماعات التي تحمل طابعاً أيديولوجياً هي صفات طبيعية
كما قلنا، لكن هناك سمات ليست طبيعية إنما مكتسبة تجعل الجماعات
الأيديولوجية تزيد من استغلالها لفئة الشباب وبالتالي زيادة التأثير فيهم
من أجل خدمة العقيدة والاستقتال من أجلها والتي لا طائل منها إلا الخراب
والقتل والدمار. هذه السمات تميّز الشباب خصوصاً في الدول التي تعيش أزمات
سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية، وتشكل هذه السمات جملة الظروف التي
تجعل الجماعات التي تحمل أفكار أيديولوجية متطرّفة تستغلّ الشباب من أجل
استقطابهم وجعلهم ينخرطون في خدمتها.
ومن هذه الظروف السيئة التي تمثل مناخاً مهمّاً لاصطياد الشباب:
أولاً: البطالة، فالشاب العاطل عن العمل والذي يعيش فراغاً لا يعرف كيف
يملأه، ويبحث عما يسدّ هذا الفراغ، سيكون لقمة سائغة إذا ما وقع في قبضة
جماعة أيديولوجية تدرّبه على التفكير بطريقتها ومن ثم تبدأ بتجنيده لصالح
أهدافها وغاياتها.
ثانياً: الفقر، وبما أن الفقر هو النتيجة المنطقية للبطالة فسيكون الشاب
أكثر عدائية تجاه ظروفه، ويزداد قهراً وبحثاً عن وسيلة يقهر بها هذا الواقع
الذي مارس القهر عليه، وهذا الظرف أيضاً سيكون نقطة ضعف تشتغل عليها
الجماعات المؤدلجة المتطرفة من أجل إشعال فتيل النار لدى الشاب.
ثالثاً:التهميش، الشاب الذي يشعر ألا قيمة له سواء في الأسرة التي لا
تدعمه معنوياً وتحقر جلّ اهتماماته، أو في المجتمع الذي يقمع رغبات الشباب
ويحاربها ويسيطر عليها، أو الدولة التي لا تؤمّن استقراراً نفسياً
واقتصادياً ولا تحترم كفاءات الشباب وقدراتهم ولا تعطي مجالاً لإبداء الرأي
وحرية التعبير والتفكير، ويشعر الشاب فيها أنه لا كيان له ولا مكان يستطيع
من خلاله أن يعمل أو يقدم شيئاً مفيداً يشعره بوجوده، هذا الشعور بالتهميش
لدى الشاب سوف تستغله الجماعات المتطرفة أيضاً من أجل استقطاب الشاب وجذبه
بإغرائه بأنه سيحقق ذاته المهمّشة من خلال التضحية من أجل فكرة هي الأفضل
في العالم من وجهة نظرها.
رابعاً: الكبت الجنسي، فالشاب غير القادر على تفريغ طاقته الجنسية بشكل
طبيعي يشعر من خلاله أنه إنسان، وقادر على إقامة علاقة إنسانية متوازنة،
وأن له الحق في الحب والعشق، فهو سيلجأ إما إلى حل يراه علم النفس التحليلي
حلاً إيجابياً من خلال تصعيد الطاقة الجنسية التي لابد لها من التعبير عن
نفسها، تصعيدها على شكل موسيقى أو رسم أو رياضة …..أو سيلجأ إلى تفريغ
الطاقة الجنسية بطرق لا يرضى عنها المجتمع كالانخراط في شلل معينة تشجع على
ارتكاب الجريمة مثلاً، والأكثر خطورة هو استغلال الجماعات المتطرفة لهذا
الكبت وتصعيده ليس في أمور إيجابية وإنما في تكريس العدائيّة تجاه الآخر أو
في زرع فكرة نجاسة الجسد وقهره لدرجة إباحة تدميره وقتله في سبيل فكرة
متشدّدة، غايتها التضحية التامة وإفناء الجسد والروح من خلال عمليات
استشهادية مثلاً، أو القيام بتفجيرات تستهدف الآخر الذي يخالف العقيدة التي
تؤمن بها وتستقتل لأجلها، وتشجّع الشباب على القيام بها من خلال تقديم
إغراءات من قبيل الحصول على مكانةٍ عليا في الآخرة مثلاً.
خامساً: انعدام التثقيف والرغبة في المعرفة، إن توجه الشباب صوب المسائل
الاستهلاكية التي لا تنمي ثقافتهم ومعارفهم كي يستطيعوا التفكير بطريقة
منطقية قائمة على التحليل والتركيب، والتمييز والقراءة فيما بين السطور
بالنسبة إلى ما يقرؤونه ويسمعونه من أخبار وروايات، وانعدام ثقافتهم حول ما
يجري في العالم سياسياً واقتصادياً وعلمياً، بل وعدم وجود الرغبة في
المعرفة حول ما يدور في العالم، كل هذه الأمور تجعل الشباب يعيش في جهلٍ
يستغله الآخر، وبالتحديد الجماعات المتطرفة من أجل تعبئة رأس الشاب الفارغ
من أية معرفة، تعبئته بالأفكار التي تخدم مصلحتها فقط.
كل هذه الظروف وأكثر تجعل الشباب عرضة لاصطيادهم من قبل جماعات أيديولوجية
تقوم بتجنيدهم في خدمة أفكارها التي ترى الحياة كلها من خلالها، ولعل من
أشدّ وأخطر الأيديولوجيات التي تحاصر الشباب هي الأيديولوجية التي تقوم على
التكفير وإلغاء الآخر المختلف عنها في العقيدة الدينية التي تؤمن بها،
بحيث يصل تشدّدها وتطرّفها إلى حد أنها لا ترى في أية عقيدة أخرى عقيدة
صالحة، فالأيديولوجيات التي تقوم على العداء الديني والمذهبي والطائفي هي
من أخطر الأيديولوجيات على الإطلاق، وتطرفها هذا قد يصل إلى حد تشجيع
الشباب على قتل أنفسهم من أجل العقيدة، ذلك أن الأيديولوجية دائماً تتمركز
حول ذاتها وترى الحياة من زاويتها الضيقة، ولا يكون هناك إلا بعدٌ واحد،
ولا تعترف بالآراء المتعددة ولا بحرية الرأي والتعبير ولا بالتنوع، فقط ترى
أن الحياة يجب أن تكون على شاكلتها ومطابقة لفكرها بحيث لا مجال للحوار مع
الآخر ولا الإنصات له.
فالإيديولوجي ضيق الأفق لا ينصت أبداً، ولعل الخطورة الكبرى تكمن في زرع
ثقافة الموت والتضحية بالروح والجسد من أجل العقيدة، والعنف ضد الآخر في
المناهج الدراسية، وفي خطابات التربويين للطلاب ودعوتهم إلى التضحية
بأرواحهم وأجسادهم من أجل فكرة ما، بحيث يكون الموت هو السبيل للإخلاص
للوطن أو الفكرة أو العقيدة أو أو…. ويصبح الموت بديلاً عن الحياة، والقتل
بديلاً عن العشق، والبندقية بديلاً عن الآلة الموسيقية، والسكين بديلا عن
ريشة الرسم، والحزام الناسف بديلاً عن شريط حريري تلفه فتاة جميلة حول
خصرها، والكتب المؤدلجة التي تحمل أفكار التكفير وإلغاء الآخر ومصادرة
الرأي والحريّات وتكريس العنف تصبح هذه الكتب بديلاً عن الكتب التي تحمل
معارف إنسانية علمية، فنية ، أدبية، ترقى بالإنسان وتحثّ على السلام
والمحبة بين جميع الناس.
ما هو أكيد أننا يجب أن ننتمي إلى أوطاننا، ولكن يجب على أوطاننا أيضاً أن
تنتمي إلينا، فنحن نكبر بأوطاننا وأوطاننا تكبر بنا، وإخلاصنا للوطن لا
يكون من خلال موتنا إنما من خلال حياتنا، من خلال تقديم ما يرتقي بنا
وبأوطاننا من علم وثقافة واحترام للإنسان ومحبة وسلام