تعني الأغورا عند اليونانيين
القدامى كما هو معلوم "الساحة العامّة" بلغتنا اليوم. وقد اتخذت منزلة
مركزية في المدينة باعتبارها مكانا للقاء والحوار المتعلّق بالشأن العام،
وربما كتجسيد حيّ للديمقراطية بمعناها القديم. بل إنّ غياب الأغورا في
مدينة ما اعتبر مرادفا لغياب العدالة والقانون. ورث الرومان الفكرة التي
اتخذت شكل "الفوروم"، قبل أن تستعاد في العصر الحديث وبخاصة في مجال
الفلسفة كرمز للمدينة بمختلف أبعادها. واستطاعت الكلمة الإغريقية القديمة
أن تتّخذ معنى يتعالى به على الزمان والمكان ليرقى إلى مستوى المفهوم.
غير أنّ ظهور الانترنت وتطوّرها المذهل تولّد عنه مجتمع افتراضيّ
كونيّ موحّد بشكل من الأشكال، ممّا يوحي بأنّ الأغورا تجسّدت أو على الأقل
في طور النشوء على المستوى الكوني ولكن بشكل افتراضيّ قد تكون له في يوم من
الأيام انعكاسات على المجتمع الواقعي. ذلك أفق يصعب استقصاء كلّ أبعاده
ولكن يمكن الاقتصار على الجانب الفكري الذي قد يكون المختبر الأولي لما
سيحدث مستقبلا.
أصبح الحوار بمختلف أشكاله يمثل إحدى الوظائف الأساسية للانترنت بين
مستعملين ينتمون إلى بلدان وثقافات مختلفة. تميّز ذلك الحوار بزخم كبير
يمكن أن يؤدي عبر التراكم إلى نشوء تفكير مشترك عابر للحدود، بحيث يشير إلى
تحقق كونية إنتاج الفكر الفلسفي وتجاوز الحدود اللغوية التي تعتبر أحد
شروط التفكير وتجسده في الكتابة.
فالحوار الكوني الحينيّ صار ممكنا الآن سواء عن طريق لغة طاغية مثل
الانجليزية أو بفضل تطور أجهزة الترجمة الالكترونية التي قد تتحول تدريجيا
إلى مترجم ذكي مثلما استطاع الإنسان الآلي والكمبيوتر تنفيذ الكثير من
الأنشطة البشرية. أي إنّ التكنولوجيا قد ساهمت في ظهور التواصل الكوني وكسر
الحواجز الثقافية والسياسية إلى حدّ ما بحيث يمكن التساؤل إن كانت
الانترنت وسيلة محايدة تصل بنا إلى هدف معيّن أم تتحول بدورها إلى شرط
يقولب تفكيرنا التواق بطبعه إلى الكونية. فقد أدت تكنولوجيا المعلومات إلى
دمج الصوت والصورة والحرف في قالب واحد واتخذت شكلا تفاعليا يسمح بمساهمة
المتلقي في صياغة المعلومات مما يجعل الانترنت منطلقا لعالم افتراضي مواز
للعالم المحسوس. ويعني ذلك أنّ التفكير سواء في شكل حوار مباشر (تشات ) أو
ردود مكتوبة أو حتى بحوث ومقالات منشورة تتحدّد بمعنى من المعاني عن طريق
العالم الافتراضي الذي يضعها في سياق معيّن.
من النتائج المترتبة عن ذلك أنّ الحوار الكونيّ بين أشخاص من ثقافات
مختلفة سيزيد مع تطور تكنولوجيا الترجمة الالكترونية على الانترنت. ساعتها
يصبح التفكير المشترك الحيني أمرا واقعا على الصعيد العالمي وقد يسمح
بولادة سقراط جديد في "أغورا" افتراضية تتعالى على المكان. غير أنّ تطوير
الترجمة قد لا يكون كافيا ما لم يرافقه تطوير اللغة لمواجهة مقتضيات
التفاهم الكوني والسعي إلى الاقتراب من روح المنطق الرياضي باعتباره لغة
كونية تسعى إلى الإفلات من الفخاخ التي تنصبها اللغة المتداولة.
أما أهمّ ما قد ينجرّ عن ذلك فهو إخراج الفكر من حدوده الثقافية ودفعه
إلى كونية فعلية وهي حالة ربما تمرّ عبر المقارنة بين الثقافات والبلدان.
فالكثير من المسائل التي تشغل الفكر في البلاد العربية كالعلمانية والدين
والصراع بين الأصالة والحداثة مثلا، تبقى أسيرة نظرة معينة تتأرجح بين
الانكفاء على التراث والاحتكام إلى ما عرف أو اشتهر لدينا من الثقافة
الغربية وخصوصا ما ورد علينا من فرنسا أو من العالم الانجلوساكسوني.
فالحديث عن العلمانية على سبيل المثال يكاد يقتصر على استحضار تلك
المرجعيات في حين أنّ الإطلاع على تجارب مناطق أخرى من العالم مثل الصين أو
اليابان أو الهند يبقى ضروريا للاقتراب من صياغة نظرية كونية. كما أنّ
حوار الثقافات إن كان لهذه الكلمة من معنى يمكن أن يتجسد في هذه الأغورا
الكونية الافتراضية واقعا حيّا يساعد على صياغة المسألة بشكل صحيح.
تبدو الشبكة العنكبوتية في حقيقة الأمر بمثابة البنية الأساسية للحوار
الفكري الكوني الذي بدأت بوادره تظهر ولا يحتاج الأمر إلاّ إلى الوعي به
وتجذيره. صحيح أنّ العولمة -والانترنت أحد مظاهرها- أنتجت في ذات الوقت
نزعة انكفاء ثقافي لدى الكثيرين. ولكن ذلك الانكفاء ليس سوى ردّ فعل
انفعالي وربما مؤقت ولا يعني في حدّ ذاته قطيعة بين الثقافات.
أما النتيجة العملية للحوار على الشبكة العنكبوتية فهي تأكيد فكرة
المجتمع المدني الكوني الذي يعتبر التجسيد الأمثل للأغورا. فالحوار بين
أطراف المجتمع المدني الدولي يساعد على زيادة التأثير على الدول والمنظمات
الدولية ومن ثمة تطوير فكرة الديموقراطية الكونية. فانتشار الديموقراطية
على المستوى الدولي قد لا ينفصل عن مبدأ الديموقراطية بين الدول. وربما
يكون المساران متوازيين لا يتوقف الواحد منهما على الآخر بالضرورة. صحيح
أنّ فكرة ديموقراطية العلاقات الدولية لم تتجاوز مستوى الشعارات التي
رفعتها سابقا بلدان العالم الثالث مثلما أنّ فكرة نشر الديموقراطية في
مختلف أنحاء العالم لا يمكن الدفاع عنها باعتبارها لم تتخلص من العقلية
التبشيرية ومن نزعة انتقائية فرضتها مصالح الدول الغربية المؤثرة.
إنّ الزخم الذي نتج عن ثورة تكنولوجيات الاتصال هو بصدد تدعيم المجتمع
المدني الدولي. ذلك أمر تؤكده الشبكات الاجتماعية العالمية على الانترنت
مثل فيس بوك وغيرها وهي شبكات حوار وتبادل آراء وعلاقات اجتماعية وهي تساهم
بذلك في صياغة وعي كوني جديد قد يؤثر اليوم أو غدا في صناعة القرار على
المستوى الدولي. والحوار الدائر على الشبكة العنكبوتية لا يكرّر بالضرورة
الأفكار المتداولة بل قد تنتج عنه أفكار جديدة تولدها فرادة السياق الدولي
من ناحية والذي تميزه العولمة، ثم الأهمية الكبرى للمقارنة بين الدول
والثقافات من خلال تبادل معلومات حينية. كما أنّ وجود تحديات أو تهديدات
كونية مثل تدهور البيئة أو خطر الحروب المدمرة والأوبئة من شأنه خلق أشكال
جديدة من الاستجابات ذات الطابع العالمي.
لا شكّ أنّ الحوار المفتوح في هذه الأغورا الافتراضية الكونية قد يعكس
انقسامات موجودة وقد لا يفلت من الأفكار المسبقة فضلا عن كونه قد يقع تحت
هيمنة الآراء الشائعة.
كلّ تلك افتراضات قد تتحقق لأنّ المجتمع لن يقبل الفوضى بشكل أبدي ولو
كانت على الشبكة العنكبوتية، فهو مثل الطبيعة يخشى الفراغ وسينتهي الأمر
في يوم من الأيام إلى شكل من أشكال النظام.
يبدو أنّ الأغورا الكونية الافتراضية قد انطلقت فعلا أما مآلها أو
اتجاهها العام فلا يمكن تحديده سلفا إلاّ من باب المخاطرة بركوب متاهات
التخمين. ولكّن المتاهات التي ولدتها الشبكة العنكبوتية تشير إلى اقتراب
ساعة ميلاد تفكير كوني جديد.