هل ثمة تغيير في الخطاب
الإسلامي تجاه بعض السياسات الأوروبية التي تمس بعض مظاهر الدين الإسلامي
الخارجية؟ يلح علي هذا السؤال بعد دراسة ردود فعل المسلمين والإسلاميين في
العالم الإسلامي وفي أوروبا تجاه نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي جرى في
سويسرا وقضى بحظر بناء المآذن في ذلك البلد الأوروبي.
وإذا ما قارننا ردّة الفعل الإسلامية بردّات الفعل السابقة تجاه الرسوم
الكاريكاتورية في الدنمرك، أو قرار حظر الرموز الدينية في فرنسا، لوجدنا
أنّ ثمّة تغيّرا في لهجة الخطاب الإسلاميّ تجاه القرار الأخير.
لقد جاءت أقوى ردود الأفعال هذه المرة ليس من المسلمين وإنما من مناصري
الديمقراطية في الدول الديمقراطية المتقدّمة عموما. وبدأ النقد الجادّ
الرافض لنتيجة الاستفتاء من داخل سويسرا: من الحكومة السويسرية والبرلمان
ومن أوساط سياسية واقتصادية وثقافية سويسرية بالدرجة الأولى، دعت قبل
التصويت إلى رفض مشروع حظر المآذن الذي دعا إليه اليمين الشعبوي، وعبرت بعد
النتيجة عن سخطها لهذا الأسلوب الذي يهدّد السلام بين المجموعات الدينية
في سويسرا.
وتوالت الردود الغاضبة في فرنسا والسويد والفاتيكان. وقالت صحيفة "دير
شتاندارد" النمساوية، إن المشهد الحالي يبعث على الخوف والقلق من صعوبة
التعايش بين اليمين المتصاعد ضدّ الوجود الإسلامي ورغبة المسلمين في أداء
فرائضهم داخل المساجد. ولفتت الصحيفة إلى أنّ المعماريّ النمساوي ريتشارد
لوجنر هو من صمّم مئذنة مسجد ضاحية فلوريدسدورف بالعاصمة فيينا، وبلغ
ارتفاع المئذنة 32 مترا، ولم يقابل الأمر آنذاك بالاحتجاج والمظاهرات.
ردود الفعل في العالم الإسلامي جاءت متباينة، ولكنها لم تصل إلى المستوى
العنيف الذي وصلت إليه ردود الفعل على الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة، أو
قرار الحكومة الفرنسية بمنع الرموز الدينية في المدارس الحكومية الفرنسية.
أكثر الردود عقلانية جاءت من المسلمين داخل سويسرا. فقد رفضت الجالية
المسلمة في سويسرا أيّ ردّ فعل إسلاميّ غاضب ماثل لردود الفعل السابقة تجاه
حالات مماثلة. وقال اتحاد الجمعيات المسلمة في فرايبورج، في بيان نشره
موقع سويس أنفو السويسري، إن المسلمين في سويسرا يأسفون لأن أصحاب المبادرة
تمكنوا "بفضل حملتهم الدعائية المشوهة من تعبئة جزء كبير من الشعب من خلال
إثارة مخاوف معظمها لا علاقة له بالمسلمين في سويسرا". وأكّد البيان أنّ
المسلمين الذين يعيشون في سويسرا "يعترفون بدستور سويسرا وبنظامها
القانوني. وهذا الاعتراف يكرّس شعورهم العميق بأنّ حقوقهم الدستورية تتعرّض
للانتهاك".
وتباينت ردود الفعل في العالم الإسلامي بين ردود فعل انفعالية شبّهت
نتيجة الاستفتاء "بالعودة لعصور الاضطهاد الديني وتفتح أبواب التطرف،"
ووصفت – على غرار جبهة العمل الإسلامي في الأردن الاستفتاء بأنه "عمل غير
أخلاقيّ"، وهدّدت الحكومة السويسرية بأنّ عليها إعادة النظر فيه "إذا أرادت
الحفاظ علي علاقتها مع العالم الإسلامي"، إلى ردود أكثر عقلانية من مثل
قول المجلس العلمي الأعلى بالمغرب إن هذا الحظر "مناقض للصورة الحضارية
التي لدى المسلمين عن سويسرا"، معربا عن أمله في أن "يبتكر الحكماء في هذا
البلد أسلوبا يؤدي إلي إبطال هذا المنع".
أشدّ الانتقادات جاءت من رجال دين ليست لهم علاقة بأوروبا، لكنهم
يمارسون تأثيرا هائلا على بعض المسلمين المقيمين في الغرب عموما. الشيخ
الراديكالي حمَّل القرضاوي الحكومة السويسرية مسؤولية النتائج المترتّبة
علي الاستفتاء، رغم رفضها له. على أنّ مفتي الديار المصرية الذي أعرب عن
قلقه "البالغ" بشأن هذه "السابقة الخطيرة"، دعا جمعية مسلمي سويسرا إلى
استخدام "الحوار" والآليات القانونية والدستورية لمواجهة مبادرة حظر
المآذن.
وساهم مدوِّنون مسلمون في السجال. مدوِّن طالب السويسريين بإعادة تقويم
ما حدث، وقال إن الخطأ فادح ويستدعي إطلاق صفارات الإنذار لعدم السقوط في
مستنقع الجهل. مدوّن مصريّ آخر يدرك عقيدة “المسجد هو المسجد”، لكنه يأسف
على خسارة جمالية المساجد في سويسرا بهذا الحظر.
على أنّ أشد ردود الفعل جاءت على أحد المواقع الإلكترونية من عضو في
المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق الذي علّق على خبر نتيجة الاستفتاء السويسري،
في موقع العرب أونلاين، بعبارة: "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ
أظلم. يجب على المسلمين عدم السماح بتشييد الكنائس للمسيحيين وأنا أوّل من
سأعمل على ذلك".
ولعلّ من الغريب أنّ مشايخ القاعدة وشركاءهم من مفتيي المحطات
التلفزيونية الفضائية لم ينزلوا إلى ميدانهم المفضل بالقوّة نفسها هذه
المرّة. وبالمقارنة مثلا مع استعراض القوة والمقدرة على الكراهية التي
أبدوها عند نشر الرسوم الكرتونية المسيئة للنبي، والتي أدت إلى دفع ملايين
البشر للتظاهر احتجاجا على رسوم لم يروها في باكستان وأفغانستان ومصر
والأردن وحتى في دمشق وفي عدد كبير من العواصم الأوربية، ممّا أدى إلى مقتل
العشرات، وأيضا بالمقارنة مع التهديد الذي أطلقته منظمات قاعدية متطرفة
مثل "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الذي هدد بالانتقام من فرنسا
وباستهداف مصالحها في كل مكان، ردًا على تصريحات الرئيس الفرنسي نيكولا
ساركوزي التي هاجم فيها النقاب الإسلامي واعتبره غير مرحب به في بلاده، نجد
أن الخطاب الإسلامي تجاه حظر بناء المآذن كان أقل تطرفا وأكثر اعتدالا.(1)
هذه المرة آثر الإسلاميون الراديكاليون الصمت، وحتى وكلاؤهم في
الفضائيات لم يسارعوا كالعادة إلى صيغة التهديد والتكفير وتحريض البشر
المغلوبين على أمرهم للخروج إلى الشوارع والموت، تعبيرا عن الاحتجاج. بل إن
شيخا كالقرضاوي مثلا أو محمود السرطاوي طلبا من المسلمين التزام الهدوء
واللجوء إلى القنوات القانونية في سابقة تحسب للرجلين وأصحابهما من فرسان
الفتاوى في الشاشة الصغيرة.
ولعل ذلك أن يكون نتيجة للتراجع الذي تشهده الحركات الأصولية والتكفيرية
والجهادية في مختلف أنحاء العالم. إن قلة فقط من المتمترسين وراء أوهامهم
لا تزال تماري في أن القاعدة وأخواتها لا تزال على قوتها، ولا تزال قادرة
على مواجهة العالم العاقل والمسلح بالعلم والمعرفة، كما كانت قبل سنوات. إن
استخدام النساء والأطفال والمختلين عقليا في العمليات الانتحارية ليس إلا
دليلا على التردي المتواصل لهذه الجماعات التكفيرية. وليست العمليات
الأخيرة في العراق وباكستان وأفغانستان دليل قوة بل دلالة انهيار وأفعال
تقوم بداعي اليأس أكثر منه بداعي استعراض القوة، كما كانت الحالة قبل
سنوات.
أما أعمال العنف التي تخوضها حركات إسلامية عدة في مختلف البلدان فمن
الواضح أنها تتراجع لمصلحة الحوار وربما المُصالحة مع أنظمة الحكم، أو
لمصلحة أفكار مختلفة وبرامج سياسية مغايرة تنحو نحو الاعتدال والعمل
السياسي. وقد يعود ذلك إلى أن الدول التي كانت تقدم الدعم المادي والمعنوي
لهذه الجماعات قد أدركت أنها لن تكون بمنأى عن أعمال هذه القوى، ومن هنا
نرى تراجع دول كالسعودية عن إيواء هذه الجماعات ودعمها.
وإذا نظرنا نظرة عجلى إلى حال الإسلاميين في العالم لوجدناها في حال
تقهقر وتراجع، من إندونيسيا أكبر الدول الإسلامية تعداداً، التي تراجعت
الأحزاب الدينية المحافظة فيها في الانتخابات الأخيرة من 38% في الانتخابات
الماضية عام 2004 إلى 26% هذا العام، إلى الكويت التي دفعت إلى ندوتها
البرلمانية بأربع سيّدات دفعة واحدة لأوّل مرّة في تاريخ الخليج العربي،
على الرغم من كل الحشد الذي قامت به الجماعات الإسلامية هناك، إلى البحرين
التي سبقت الكويت في ذلك.
ولا بد أيضا من تذكر نتائج الانتخابات اللبنانية التي لم تحقق فيها
القوى الإسلامية نصرا بينا، وكذا نتائج الانتخابات الإيرانية التي دفعت
بمئات ألوف الإصلاحيين إلى الخروج إلى الشوارع طلبا لاستعادة الديمقراطية
الحقيقية بعيدا عن ولاية الفقيه واستبداد مشايخ الثورة.
تبقى بالطبع باكستان وأفغانستان الساحتين اللتين لا يزال الإسلاميون
يتمتعون فيها ببعض القوى، ولكنها تتراجع من حال الهجوم إلى حال الدفاع عن
النفس.
كل ذلك دفع برجال الدين المتشددين إلى اللجوء إلى العقل في مواجهة
الاستفتاء السويسري، ولعل ذلك أن يكون بداية في انعطافة حقيقية في الخطاب
الإسلامي المتطرف نحو الاعتدال والموضوعية، التي يمكن أن تكون إرادية للبعض
وإلزامية للبعض الآخر. وسيكون علينا أن ننتظر لنرى.
هامش:1- قال أمير التنظيم "أبو مصعب عبد الودود" في بيان نُشر على شبكة
الإنترنت: "في تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، عاهدنا الله على أن لا
نسكت على هذه الاستفزازات والمظالم، وسننتقم لأعراض بناتنا وأخواتنا من
فرنسا ومن مصالحها بكل وسيلة تحت أيدينا وفي كل مكان تيسر لنا الوصول إليه
متى واتتنا الفرصة لذلك، حتى تكفَّ فرنسا عن ظلمها ورعونتها وتنتهي عن
عدوانها وصلفها."