في بيوت الصعيد التي بنيت في
القرن الثامن عشر، تظهر رسومات الحُجّاج بوضوح حيث تظهر الملابس التركية
والعثمانية. فعلى مقربة من مدينة الوقف بمحافظة قنا - والتي اُشتقّ إسمها
من الوقف الذي أوقفه محمد على لبلاد الحجاز- تبدو الرسومات واضحة في احتفاء
بهذا الفنّ الشعبيّ ..المستشرق الانجليزي إدوارد لين، والذي اختلط
بالمصريين في الفترة من 1835 إلى 1883يذكر في كتابه "المصريون المحدثون"،
أنّ المصريين كانوا يقومون بتزيين بيوتهم برسومات الحجّ. فقبل عودة الحاجّ
بثلاثة أيّام يقومون بتلوين الباب والحجارة باللونين الأبيض والأحمر بطريقة
بدائية، وقد يوجّه الحاج كتابا مسبقاً إلى ذويه يطلب منهم إعداد هذه
الترتيبات قبل مجيئه ..يؤكّد المؤرّخون أنّ جذور الحضارة الفرعونية
وتأصّلها في نفوس المصريين هي التي أدّت إلى هذا الفنّ، حيث تحوّل البيت
الجنوبيّ إلى صورة مصغّرة من معبد فرعونيّ. فالمصريّ القديم كان يستخدم
الأدوات البسيطة في الرسم على المعابد، من ريشة وجبس وألوان وجير، وهى
الأدوات نفسها التي يستخدمها الفنّان الشعبيّ في الرسومات الآن، وهي رسومات
استُلهمت في الحقب التاريخية الماضية مثل العهد المملوكي والعهد العثماني
..
الاستطلاع الميدانيّ عن رحلة الحج يقودنا أيضا إلى جذور تلك الفريضة،
وقد أراد الإنسان الجنوبيّ أن يجعلها عابرة للأزمنة والأمكنة معاً، وراصدة
لروح العصر والقيم والظواهر التي تميزه، إلى جانب المعتقد الشعبيّ الذي
يحدّده رمز الرسمة التي وضعت له، فالرسومات التي رسمت قبل القرن العشرين
تزخر برسومات الرحلة؛ النخيل، والسّفن، والجِمال.. إلى جانب الحرم المكّيّ
والحرم النبويّ. أمّا الرسومات اللاحقة، فهي تظهر التطوّرات الّتي عرفتها
الرحلة: القطار، والطائرة، والسيّارات، إلى جانب الأشكال النباتية
والحيوانية.. والملفت للنظر في رسومات الحجّ، أنّها احتوت - تماما
كالرسومات الفرعونية - على شفرات معيّنة لا بدّ من حلّها أو الوصول إلى ما
تعنيه، فرسمة الثعبان الذي يلتفّ على شجرة مثلا، يعكس المعتقدات الشعبية؛
فالثعبان شبيه بالإنسان المسلم الذي عاد من رحلة الحجّ كما ولدته أمّه،
نظرا إلى أنّ الثعبان يبدّل جلده، أمّا الجمل فمع أنّه أداة للسفر إلا أنّ
القيم الشعبية تجعله الحيوان المسلم الذي نطق بالشهادتين أمام النبيّ
محمّد عليه الصلاة والسلام، ممّا يجعل الرسومات تنقسم أمام أعين الرائي
والمشاهد إلى صور تعبيرية وصور رمزية لا بدّ من حلّ شفرتها كي نصل إلى عمق
وجودها على البيت أو المنزل.. هذا إلى جانب أنّ الرسومات لا تحتوي على
الرسومات فقط بل تحتوي أيضا فنونا أخرى، كفنّ الخطّ والمنمنمات، إذ ينبغي
أن يكون الفنّان الشعبيّ ملمّاً بالرسم والخطّ معاً، وأغلب الكتابات كما
هو معروف لا بدّ أن يكون متناسقا مع المعنى الذي تعبّر عنه الرسومات، ففوق
رسمة السفينة أو أداة الرحلة يُكتب "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"،
فتكون الكلمة معبّرة عن الرحيل من أجل ذلك الجزاء. بينما في رسمة الحجّ
وهو بملابس الإحرام يكتب تاريخ حجّه والتاريخ هنا مهمّ جدّا؛ فالفنّان
مهتمّ بتوثيق التاريخ للرحلة. أمّا في بعض الرسومات الأخرى وخاصة في رسمة
مسجد النبيّ محمّد أو غار حراء، يُكتب (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وذلك
لمعرفة الفنّان أنّه ليس من قواعد الحجّ زيارة قبر النبي عليه الصلاة
والسلام.. كما أنّ الفنان الشعبيّ يراعى التقاليد وقيم المجتمع الذي يعيش
فيه، فالحاجّ إذا كانت امرأة مثلاً يرسم رسمة رمزية لها، وفي بعض الأحيان
يكتفي بالاسم فقط الملحق باسم زوجها أو أحد أبنائها ..
***منذ فترة في الصعيد، نشأت ظاهرة عاطف زكي مقار، القبطي المسيحيّ الذي
يرسم رسومات الحجّ كأحد المتخصصين فيها.. وكنتُ أنا ضمن مكتشفيه حيث
وجدته يقوم بالرسم فجأة على أحد بيوت نقادة، وبيننا تمّ هذا حوار عفويّ
أمام رسمة البراق، وقفت أتأمّله، ثمّ رفعت صوتي عاليا له حين انتهى من رسمة
براق الإسراء والمعراج :" هل تعرف أنّ الذي قام بإصلاح الكعبة قبل بعثة
النبيّ محمد بخمس سنوات كما ذكر ابن هشام في سيرته كان قبطيا مثلك، واسمه
باقوم القبطي، وكانت مهنته النجارة؟" ..التفت إليّ وقال:" أنا أعتزّ به،
وأعتزّ أكثر بأنني حفيده، وأنني أيضا أوّل قبطيّ بعد أبي يرحمه الله يمتهن
هذه المهنة في مصر كلّها.. ثم يمسك فرشاته ويوجهها للرسومات ويحدثني:"
إسمي الكامل عاطف زكي يعقوب، 42 عاما، مهنتي مدرّس للعلوم، ولكنني أرسم
رسومات تعبّر عن رحلة الحجّ منذ 25 عاما، وورثت مهنة الرسم هذه عن أبي،
الذي عمل بها في أخريات حياته ورسم بيوت أهالي نقادة، التي جعلها صلاح
الدين الأيوبي وقفا في العصر الأيوبي لبلاد الحجاز، وحين شاهد وزير الأوقاف
السابق الباقورى أبي، وشاهد رسمة رسمها له على أحد البيوت، دخل بيتنا
وتحدّث معه، وتوثّقت صلته به إلى وفاته..ثمّ يسترسل؛ إخوتي المسلمون لا
يقبلون فنّانا غيري، وحين سافرت لمدّة وجيزة قام أحدهم بطرد الفنّانين
المسلمين بحجّة أنّهم ليسوا مثلي"… سألته عن ابتكاراته في رسم رحلة الحجّ
قائل له: وجهك يعبر أنّك من سلالة لوحات الفيوم الأثرية؟ شكرني ثمّ أجاب:
رسومات الحجّ القديمة كانت زحمة، كانت عبارة عن كعبة، ورقص وطبل وحيوانات
وبراق، وكتابات، بجانب رسوم لشخصيات إسلامية مقدّسة ليست لها صور شخصية في
الحقيقة، وقد قمت أنا بوضع الرحلة على البيوت مع كتابة الغرض منها، ثمّ
قمت بوضع رسمة بورتريه شخصية لكلّ من سافر للحجّ، لأنّني أؤمن بأنّ هذه
الرسومات هي رسومات فرعونية، وأنّ الفنّان الصعيديّ جعل بيته معبدا مصغّرا
لرسومات تعبّر عن مشاهد الحياة اليومية التي يعيشها في عصره، مثل الطائرات
والسيارات وغيرها بجانب تدوين أفعاله وإظهار تديّنه واتّصاله بالله الواحد
الأحد.. وأعطيت الحرية لأصحاب البيت أن أطاوعهم في رسم أيّ شكل آخر
يريدونه، خاصة إذا كان بعضهم عاشقين للخيل أو عاشقين لمهنهم التي يعملون
بها ويتعايشون بها في الحياة ويريدون إظهارها.
سألته عن مصير هذا الفنّ، فقال إنّه في انقراض، لكنه هو الحرية الكاملة،
تعجبني رسمة البراق ووصفه، وأرسمه كما جاء في الأثر في الكتابات القديمة،
ومن كثرة كتابتي للأحاديث النبوية أكتبها بسهولة، مثل (من زار قبري وجبت له
شفاعتي)، إلى جانب الآيات القرآنية الشريفة، كما أنّ هذا الرسم يحرّر
الخيال ويساعد على تنميته، لذلك أصطحب ابنتي مريت -التي أسميتها بهذا الاسم
اعتزاز بابنة الإله الفرعونيّ آمون - وهي تساعدني كثيرا في هذا الرسم، بل
تعشقه جدّا خاصة أنّها تعشق يمام الغار والعنكبوت، وفي بعض الأحيان تصر على
إمساك الفرشاة بدلا منّي وتلوّن بنفسها.
سألته عن بيوت الطين والاسمنت وعن أغرب المواقف في مهنته، صمت ثمّ ضحك؛
بيوت الطين؟ لأنّني اعشقها أستخدم معها الورق الملفوف لملء التعرّجات، ورغم
شاعرية بيوت الطين إلا أنني أشعر بحزن لإيماني أنّ هدم البيت سيزيل تاريخا
ورسومات في غاية الرقّة ..أمّا أغرب المواقف: أنّ أحد الصعايدة الفقراء
طلب منّي أن أرسم على بيته أنّه حاجّ، فقلت له الحجّ ضدّ الكذب، والرسم لو
كان كاذبا لن ينفع، إلا أنّه أصرّ، فقمت برسم البراق والكعبة وصورته،
لكنني لم أستطع أن أكتب له حديث الرسول (من حجّ ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم
ولدته أمّه)، ولم آخذ أجرا منه، وتمنيت من الله أن يمنحه لقب حاجّ.