[1]
ما يزالُ رامبو حاضراً بَيْنَنَا. أو هو بالأحرى لم يَتَوَقَّف عن الحُضور.
ثمَّة أعمال تصدُرُ عن هذا الشاعر؛ كتابات وقراءاتٌ، ما تزالُ تُلامِسُ
تَجْرِبَةً شِعريةً، لم يَتِمُّ بعدُ اسْتِنْفَادُ جَمْرِها، أو
اسْتِغْرَاقُ شِعريتها، التي يَبْدُو أنها أَوْسَع من أن تُسْتَنْفَدَ، أو
يَتِمَّ وضعُها في أُفُقِ رُؤْيَةٍ نَمَطِيَّةٍ، تَحْصُـرُها في قوانين، أو
معايير مُحَدَّدة، وثابتة.
خلال هذه السنة (2009)، أصدرت سلسلة لابْلِيَادْ طبعةً جديدةً للأعمال
الكاملة لرامبو. ومن الأعمال المُهِمَّـة التي صدرت خلال هذا العـام أيضاً،
كتـاب "حاجتُنا لرامبو" للشَّاعر إيف بونفوا. وهو من الأعمال التي لها
طابع خاصّ في الاقتراب من تجربة هذا الشَّاعر، فهو أوّلاً، عَمَل لشاعرٍ
صَاحَبَ رامبو منذ خمسين عاماً تقريباً، وهذه الكتابات هي ثانياً، "نوع من
يوميات محبّتي لهذا الشاعر"، كما يقول بونفوا نفسُه.
ما يعني أنّ كتابات بونفوا عن رامبو، ليست من قبيل الكتابات الأكاديمية،
التي تَنْشَغِلُ عن الشاعر بالنظرية، بقدر ما هي مِرْآةٌ، فيها يُحَاوِلُ
بونفوا رُؤيةَ نفسه ذاتها، أو الاقتراب من تَجْرِبَةٍ، هي نوع من
"النِّداء"، التي لا يمكن لأيِّ شَاعرٍ مُنْشَغِلٍ بالقيمة الشعرية، بتعبير
ميشونيك، أن يتجاهَلَه، لأنه نداءٌ مُوَجَّهٌ لكل الذين يُقيمُ الشِّعر في
نُفُوسِهم، أو ما يمكن ترجمتُه بـ"النفوس الكبرى" وليس "العقول"، نظراً
لما تَكْتَسِيهِ طبيعة المُقاربة الشِّعرية، في مثل هذه الحالة.
[2]
حين اختارَ بونفوا الاكتفاءَ بمُقاربة "المَرْكَب السَّكْـران" و"فصل في
الجحيم"، فهو وَضَعَ يَدَهُ على عَمِلَيْن أساسيين في تجربة رامبو.
فبونفوا على معرفة جّيِّدَةٍ بما يَخْتَزِنُهُ العَملانِ من طاقات شِعرية
كبيرة، وما يَحْفَلانِ به من اختراقاتٍ transgressions أو "تجديدٍ في
الوسائل"، أو في الإمكانات، كما يُسَمِّيها ماكسيم روفير، مُنَسِّق الملفّ
الخاصّ برامبو ضمن عدد شتنبر 2009 من "المجلة الأدبية" الفرنسية.
صَدَاقَةُ شِعر رامبو، أو مُصَاحَبَتهُ خلال كُل هذه السنوات، هي
"مشـروعُ تَعَلُّم". "أن نقراَ شاعراً كبيراً .. هو أن نطلُب
مُسَاعَدَتَهُ"، كما نطلبه "أن يقودَنا". بهذا المعنى كان بونفوا يقرأ
تجربة رامبو، ولا يتوقَّفُ عن الإنصات لِخَلَجَاتِها.
[3]
هذه العودة لرامبو ليست رهينةَ نِسْيَانٍ حَدَثَ، في حَقِّ شاعرٍ، أو كاتبٍ
طَالَهُ النسيانُ، أو هي نوع من إعادة الاعتبار، كما يَحْدُثُ عادةً عندما
نَنْشَغِلُ عن تجربة ما، بغيرها. فرامبو ظلَّ حاضراً في الوَعْيِ
الشِّعْرِيِّ العالميِّ، ولم يَغِب عن وَعْيِ الشُّعَراء، ولا عن
القِراءَات التي كان الشِّعرُ موضُوعُها.
في هذه العودة إشارةٌ واضحة لطبيعة تجربة رامبو، باعتبارها إحدى
التَّجارب الشِّعـرية الكُبرى، التي لا تفتأ تُساعِدُنا، بتعبير بونفـوا،
علـى تَعَلُّمِ الشعر، وعلى الاقتراب من مَضَايِقِه، لأنَّ ليس ثمَّة مسالك
في الشِّعر.
[4]
في نفس الاتجـاه يَسِيرُ ملفّ "المجلة الأدبية" الفرنسية. ملفّ يُعيـد
فتـحَ "قضية" رامبو الشِّعرية، أو هو نوع من البحث في، "قواعد الاستثناء"،
عند هذا الشَّاعر الذي يَسْتَحِقُّ، بامتيازٍ، صِفَةَ l’auteur agiteur .
لم يأتِ رامبو لِيَسْتَعِيدَ تجربةَ الرومانسيين، أو الشُّعَراء
السابقين عليهم، فهو اختارَ أن يبدأ من أراضٍ أخرى. أن يبدأ من رؤية أخرى
مُغايِرَةٍ لما هو سائد في الكتابة الشِّعرية في زَمَنِهِ. أراضي رامبو
ستكون أراضيَ مفتوحة على أفق أوسع، أو على المجهول بالأحرى.
الاختيارُ الشِّعريُّ الذي قادَ تجربة رامبو، كان نوعاً من الْبَدْءِ،
طبعاً ليس في كُلِّ ما كتبه، بل في النَّصَّيْنِ الذين اختارهُما بونفوا في
كتابهِ، ونصوص أخرى تبقى قليلة الأهمية قياساً بهذين النصين.
في هذين النصين، وتحديداً في "فصل في الجحيم"، تبدو بَلْبَلَةُ رامبو
لمفهوم الشِّعر، ولنظام الحواسِّ الذي كان من المَهامِّ الكُبرى التي
نَذَرَ نفسه للقيام بها. لم تكن مثل هذه الاختراقات الكبرى مُمْكِنَةً، في
الشِّعر خصوصاً، كونُه آنذاك، كان خِطاباً له ثوابته، وله رموزه
المُؤثِّرَة التي لم تكن تسمح بمثل هذا النوع من الاختراقات، أو لا تعترف
بها، في أقصى الحالات.
رامبـو، كما فـي إحدى رسالتـيْ "الرَّائـي" عبّـَر بوضوح عـن هـذه
"الخُروقات" التي كرَّسَ لها كُلّ إِمْكَانَاتِهِ الشِّعرية. فـ "فصل في
الجحيم"، إبَّانَ كتابته، كان رامبو يعرف أنَّه مُقـْدِمٌ على كتابةٍ، لن
تجدَ قبـولاً واسعاً، أو قد تكون في نظر الآخرين، نوعاً من الهلوسة، كما
حدث في رَدِّ فعل والدته، حين قرأت هذا النص.
"قواعد الاستثناء"، ليست نظاماً، أو قانوناً عَمِلَ رامبو على تثبيته،
أو وَضْعِهِ كشرطٍ شعريٍّ، فهي دائماً تتجدَّدُ، وفق طبيعة الشروط، أو
"الـ"إمكانات" التـي تقتضيها التجربـة. فـي الاستثناء تتحقَّقُ استقلالية
الشكـل الشعري، وفَرَادَته. ليس كُلُّ نصٍّ صَدًى للآخر، أو استعادة
لـ"قَواعدِ"ـهِ، كلّ نصّ هو تجربة، تتحدَّد قواعدها، من خلال طبيعة، أو أفق
التجربة ذاتها. لاشيءَ سابق على النص.
[5]
هذا الحضور الْأَبَدِيّ لرامبو، رغم أنَّ ما تركه من نصوص، كان قليلاً،
قياساً بما تركه عدد من شُعراء زمنه، هو تعبير عن استثنائية هذا الشاعر،
وعن البُعد الاسْتِشْرافِيِّ الذي طبع رِسَالَتَيْهِ، كما طبع نَصَّه
العميق "فصل في الجحيم". إننا في ضيافة الشَّاعر "الرَّائي". الشاعر الذي
نحتاج دائماً لاستشارته، كما نحتاج لصداقته، التي هي صداقة شِعرية، أو ما
سمَّاه رامبو نفسه بـ "الأُخُوَّة الشِّعرية".
هل يمكن، وفقَ هذا الحضور، وهذا الاهتمام المُتزايِد بأعمال الكبار، أن نعتبر الشِّعرَ غير ذي جدوى في زمننا ؟!
ثمَّة دائماً ما يجعلُنا نشُكُّ في مثل هذه الأحكام القاسية، وهي أحكام
لا تنتبه لما يجري في أراضي الشَّعْرِ اليوم من اختراقات، وهو ربَّما ما
يحتاجُ إلى زمَنٍ آخر، هو هذا المستقبل البعيد، الـذي منه دائماً، كانت
تأتي النصوص، والتَّجارب الكُبرى