يختزل الإسلاميون الإسلام في بُعد واحد، هو الدّين، ثمّ يقولون: نحن الإسلاميين!
يختزل السلفيون التراث في بعد واحد، هو أصول الدين، ثمّ يقولون: نحن السلفيين!
يَختزل أهل السنّة الهوية في السنّة، ويختزلها القرآنيون في القرآن،
والجهاديون في الجهاد، ثم تنتهي الأمور إلى اختزال الجهاد في السيف،
والأخلاق في الشرف، والفضيلة في الخوف، ويمعن الكثيرون في اختزال ممكنات
النهضة في مناهضة العلمانية واستعداء العلمانيين.
في مقابل تقزيم الذات واختزال دورها في مجرّد ممانعة بالوكالة
للعلمانية، يتوهم الكثيرون بأنّ العلمانية، هي بالبداهة واليقين، أعزّ ما
يَطلبُه الغرب منّا ويرجوه، فهي قيمته الرّاسخة فيه، والتي لن يتردّد أو
يتلكّأ في ترسيخها فينا، كُلّما أمكنه ذلك وأسعفناه، إمّا تعميماً للحداثة
والتنوير أو تطويعاً للتّطرف وتطويقاً للإرهاب العالميّ، في حين أنّ
العلمانية في المُجتمعات الإسلامية، صعْبٌ منالها، عصيّ إدراكها، وأنّها في
المُجتمعات الغربية، راسخة جذورها قويّ بنيانها.
والحقيقة المنسيّة في حروب الأفكار، أنّ العلمانية في المُجتمعات
الغربية، باتت تعاني من ضيق حادّ في التنفس، وتُكابد تراجعاً يَفوق
أحياناً، ما تكابده داخل بعض المُجتمعات الإسلامية.
وإذ يتفق بعض العلمانيين مع الكثير من الإسلاميين، في القول بأنّ
الإسلام له جوهر مُعادٍ للعلمانية، وأنه عامل أساسيّ من عوامل انتكاستها
وانحسارها، فإنّ الحقيقة الغائبة، هي أنّ الإسلام، في أساسه الأنطولوجي،
وبخلاف ما يعتقده راغبون فيه وراغبون عنه، لا يعارض العلمانية ولا يعترض
على تجديد أفقها الكونيّ والإنسانيّ، طالما كان الإسلام، في أساسه
الأنطولوجي، يقوم على الفصل التامّ بين مدينة الأرض ومدينة السماء.
هناك أيضاً، من يعتقدون بأنّ وضعيّة الإسلام والمسلمين في العالم،
ستغدو أحسنَ حالاً وأفضل مآلاً جرّاء تدهور العلمانية في كافّة أرجاء
المعمورة، ما يعني أن الهُجوم على قيم العلمانية هو معركة المُسلمين أيضاً،
بل هو أمّ معاركهم، والواقع أنّ المسلمين هم أوّل ضحايا عالم تنهار فيه
قيم العلمانية، إذ أنه ومع تدهور الوعي العلمانيّ وانحساره عن الحقل
السياسيّ الرّاهن وعن مجال العلاقات الدّولية، لم تزدد وضعية المسلمين إلاّ
سوءاً وتردّياً، وفي كافّة جبهات الحراك الاستراتيجي.
ويعتقد الكثيرون بأنّ الأصوليات الإسلامية تتفوّق على الأصوليات
الغربية، في القدرة على تهديد العقلانية والعلمانية، والواقع أنّ الأصوليات
الإسلامية لا تملك من القدرة على تهديد مستقبل العلمانية، أكثر ما تملكه
الأصوليات الغربية، فالأصوليات الدينية الإسلامية لم تكد ترى النّور، منذ
سنوات الحرب الباردة، وأجواء العدوان الاستعماري على مشاريع النهضة
العربية، وعلى حركات التحرّر الوطني، حتى أمست جزءاً لا يتجزّأ من نزعة
أصولية وظلامية غربية وغير تقليدية تحتويها وتتجاوزها في نفس الآن.
فالظلامية الغربية تمتلك من الإمكانيات العلمية والسياسية
والفنية، ما يجعل قدرتها على تهديد قيم الحداثة والتنوير، تتجاوز قدرة
الظلامية الإسلامية، والتي لا تتخطى، في معظم الأحوال، حدود تبذير الأموال،
والانتحار المجّاني وإثارة الفرجة أمام الأضواء الكاشفة لوسائل الإعلام.
يمتلك الظّلاميون المَسيحيّون، في الولايات المُتّحدة الأمريكية وفي
دُول الاتحاد الأوروبي، جُرأة قلّيلاً ما يَتمتّع بها الظلاميون
الإسلاميون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فالظلاميون الغربيون، يخوضون
في كافّة التفاصيل العلمية والمدنية، من العازل الطبِّي والإجهاض، إلى
نظرية داروين والتجارب حول الخلايا الجذعية الجنينية، مروراً بالصّلاة في
مَدارس التعليم العُمومي وانتهاءً بمشروع الدّستور الأوروبي ومُساعدات
الدُّول الفقيرة، يمتلكون مِئات المحطّات الإذاعية والجامعات والمدارس
والمراكز الاستشفائية والشركات العابرة للأوطان، وهي وسائل تكفي لتأمين
تعديل شامل في مَجرى الحضارة المُعاصرة، من داخل الانتماء إليها، ومن دُون
دَوِي يثير أضواء الفرجة والإثارة.
في حين أنّ الظلامية الإسلامية، وإن ساء ذِكْرُها وعظُم صَخَبُها،
فإنّها ليست أكثر من مُقلّد، دون مفعول يستحقّ الذكر، لظلاميّات أخرى؛
ظلاميات ذات أجندة كبرى ولها رهانات بمفعول كونيّ وأفق استراتيجيّ بعيد
المدى، وقدراتها الذاتية أشدّ تأثيراً على مصير الحضارة المعاصرة.
ومسارها.