سوف أضرب مثالا بسيطا على المسألة الأساسيّة الحاسمة في عصرنا الراهن :
تاريخية القرآن أو أرخنة القرآن الكريم. والمقصود الكشف عن البعد التاريخيّ
أو الأرضيّ فيه، وليس فقط البعد السماوي الإلهي المتعالي، فهو ذو
طبيعتيْن: لاهوتية وناسوتيّة، أعتقد أنّه آن أوانها بغية فرز ما هو ثانوي
عرضي فيه ممّا هو أخلاقي، روحاني، أبديّ، خالد. وكذلك بغية تجاوز التشريعات
والحدود التي لم تعد مناسبة لعصرنا: كحدّ الجلد والرجم وقطع يد السارق
وللذّكَر مثلُ حظ الأنثيين وضريبة الجزية وتكفير أهل الكتاب، الخ.
والمثال الذي سأضربه شديد الخصوصيّة لأنه يخصّ قضيّة شخصيّة عاطفيّة لا
قضيّة عامّة. ولكنّه يكشف عن تاريخيّة الوحي بكلّ جلاء: أقصد عن علاقة
السماء بالأرض، وكيف كان الوحي مشروطا بظروف النبيّ وضرورات القضيّة. سوف
أضرب، إذن، كمثل على هذه التاريخيّة: قصّة محمد مع زينب بنت جحش.
قد يتساءلون مستنكرين ومندهشين: يا أخي ! نبيّ يسقط في الحب؟ نبيّ عاشق
ولهان؟ هل يعقل ذلك؟ نعم يعقل وأكثر.. وهذا أكبر دليل على عظمة محمّد. فعلى
عكس ما يتوهّم الناس فإنّ قصّته مع زينب بنت جحش لصالحه وليست ضدّه على
الإطلاق كما قد يبدو ظاهريا للوهلة الأولى.
عندما زار بيتها لرؤية زوجها لا هي، وقع عليها فجأة وهي في ثياب المنزل.
لا نعرف كيف كانت ثياب المنزل آنذاك. هل كان يوجد قميص نوم شفّاف يظهر أكثر
ممّا يبطن؟ مستحيل. لا قميص نوم ولا من يحزنون. ولكن هل كانت بحاجة إلى
قميص نوم لكي تغريه؟ يكفي وجهها ونحرها وهذا الثغر المشتهى الذي أصبح فجأة
في متناول اليد، تحت مرمى الهدف. وبهت محمّد. نقول ذلك، ونحن نعلم أنّ
المرأة العربيّة هي أجمل نساء العالم، امرأة لا تقاوم. المرأة العربية
"بتدبح دبح"..ما فيه مزح". نقطة إلى السطر.
"المدام"، إذن، كانت جالسة مرتاحة أو "شالحة" كما يقال بالعامّية ولا
تتوقّع أي زيارة. وبالتالي فلم يتح لها الوقت الكافي لتغطية كلّ مفاتنها
عندما ذهبت لفتح الباب. وبما أنّها كانت من أجمل نساء دهرها فإنّ ما ظهر
منها كان كافيا لإحداث الشرارة الأولى. والنبي كان حسّاسا للجمال. هل
غازلته هي يا ترى؟ هل افترّ ثغرها عن واحدة من تلك الابتسامات الفتّاكة
التي تجعلك تنسى الأرض ومن عليها؟ لا نعرف وإن كنا نرجّح كلّ الترجيح. لم
نكن موجودين آنذاك، لكي نصف لكم حقيقة ما جرى بالضبط. لم تكن، هناك، كاميرة
تصوير(فيديو). ياريت! ولكن هل كانت هي تجهل أنّها تقف أمام نبيّ لا أمام
شخص عادي؟ بالطبع لا. فهل يعقل ألا تكون حسّاسة لجاذبيته هو الآخر؟ نبيّ يا
جماعة! ليس في كلّ يوم يظهر نبيّ على وجه الأرض! ها قد مرّت ألف وخمسمائة
سنة دون أن يظهر نبيّ واحد جديد! ولن يظهر لأنّه لا نبيّ بعد محمّد كما
يقول التراث. حقول مغناطيسية تبثّ حوله ذبذبات إشعاعيّة على بعد خمسين متر
على الأقلّ. هل يمكن لنبيّ أن يترك الآخرين لا مبالين بالهالة النورانية
التي تحيط به من كلّ الجهات؟ ومعلوم أنّه كان يحبّ الجنس اللّطيف حبّا جمّا
على عكس الأصوليين الحاليين المكشّرين عن أنيابهم والذين يعتبرون المرأة
دنسا أو رجسا من عمل الشيطان. لذلك أقول بأنّ محمّد التاريخيّ، أي
الحقيقيّ، غير محمّد الأصولي السائد اليوم. وينبغي أن نبحث عن محمّد
التاريخي تحت ركام العصور.
لكن لنعد إلى القصة: ماذا يفعل؟
هل يدخل؟ هل يخرج؟ هل يتقدّم؟ هل يتأخّر؟ هل يتلعثم؟ يقال بأنّهم سمعوه
يتمتم بكلام غير مفهوم، وهو راجع إلى بيته في حالة من الاضطراب لا توصف.
كان يهمهم بشيء لم يفهموا منه إلا هذه العبارة: سبحان الله العظيم، سبحان
مصرف القلوب.. وهذا يعني أنّه وقع في الفخ، وقع في الحبّ.. ربّما لأوّل
مرّة في حياته. لقد لعبت بعقله "الست" زينب حتى دوّخته:
مقادير من جفنيك غيرن حاليا..
نعم. على عتبة الباب داخ محمّد ودارت برأسه الدوائر. لقد مادت الأرض من
تحت قدميه.. من يعرف متى تحصل لحظة الحبّ؟ متى "يجيء أجلك" على يد إحداهنّ؟
من يعرف متى تحصل الشرارة الكهربائية؟ وربما داخت هي الأخرى؟ ربّما لم تكن
تحبّ زوجها. ربّما كانت هناك خلافات بينهما. من يعلم؟ أو على الأقلّ هذا
ما يقوله التراث لتبرير ما سيحصل لاحقا. لكأنّ الحبّ عيب أو بحاجة إلى
تبرير. أحيانا يقع المرء غصبا عنه في حبّ امرأة متزوّجة..ماذا نستطيع أن
نفعل والدهر غدّار؟ لكن دعونا نتخيّل أكثر بل ونشطح في الخيال..ماذا فعلت
هي بعد أن حصل ما لا تحمد عقباه؟ هل تأسّفت؟ هل ندمت؟ أم أنّها أغلقت الباب
خلفها وهي "تضحك في عبّها" بعد أن جرحته وأصابت منه مقتلا؟
شخصيّا أرجّح الاحتمال الثاني. نحن نعرف بنات حوّاء وما هن قادرات عليه..
نحن ضحاياهنّ بشكل من الأشكال. نحن "الجنس الضعيف" وليس هنّ على عكس الوهم
الشائع. أمّا سيّدنا محمد فقد "تخربط" بالفعل ووقع في حيص بيص. فـ"المدام"
ليست، فقط، متزوّجة بل وزوجها ابنه بالتبنّي! مصيبة، معضلة حقيقيّة. ولكن
لا شيء يستعصي على الوحي. فهل الله سبحانه وتعالى عاجز عن حلّ هذه المشكلة
البسيطة؟ قلت بسيطة، وأنا ألقي الكلام على عواهنه في الواقع. ذلك أنّها
ليست بسيطة على الإطلاق. وإنّما تهدّد الدعوة كلّها لأن النبي أصبح مشغولا
"بالحبيبة الغالية" أكثر ممّا يجب بدلا من التفرغ لقيادة الأمّة في مرحلة
حرجة وحساسة. أصبح يفكّر فيها ليل نهار. أصبح طيفها الملائكي يسيطر على
أقطار نفسه إلى درجة أنه لم يعد يرى، حيثما جال ببصره، إلاّها. أصبحت كلّ
نساء الأرض في جهة، وهي في الجهة الأخرى. وهذا هو الحبّ: إنّه استبدادي،
توتاليتاريّ، لا يعرف المساومات ولا أنصاف الحلول. الحبيبة تشترك مع الله
بصفة واحدة: وهي أنه لا يُشرَك بها شيء! لقد سحرته بالفعل ولم يعد قادرا
على التركيز على أي شيء. وهذا هو معنى الحبّ بالضربة القاضية. إنّه يطرحك
أرضا. إنّه يستلبك استلابا: أي يشلّ إرادتك ولا يترك لك أي مجال للتملّص أو
التخلص. تحاول أن تصرف خاطرك عنها؟ مستحيل أن تعشق غيرها؟ أعوذ بالله:
مستحيل أكثر. وعندئذ تصبح مستعبدا كلّيا من قبلها. يحصل ذلك كما لو أنّها
سحرتك أو نوّمتك مغناطيسيا. الحبيبة ديكتاتورة، فرعونة حقيقيّة. كلّ من عاش
تجربة الحبّ الولهان يعرف ذلك. قلت الحبّ الولهان ولم أقل الحبّ العادي أو
الجنس. هذه قصة بسيطة. وبالتالي فالحالة أصبحت حرجة جدّا: فإمّا أن يصل
إليها و"يدق في ربها" ويشبع منها، وإمّا أن "القضية" كلها أصبحت في مهبّ
الرياح. عندما شعر الله عز وجلّ بأنّ الأمور وصلت إلى هذا الحد من التفاقم
والتأزم قرّر التدخل فورا لإنقاذ نبيّه العزيز. فكان أن نزلت الآية الكريمة
وانحلت العقدة التي أرقت نبيّ الإسلام ووصلت أصداؤها إلى السماوات العلى :
"فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها".
لاحظ العبارة الإلهية. لاحظ الشحنة "الإيروتيكية" المتضمّنة فيها. يمكن أن
نكتب عنها مقالة كاملة دون أن نوفيها حقّها. الشيء الملفت هو أنّ الله
المشغول عادة بالكليات لا بالجزئيّات، بالقضايا الإستراتيجية الكونية لا
بالتفاصيل الصغيرة، لم يتردد لحظة واحدة عن التدخّل في قضية غرامية لإنقاذ
سيّدنا محمّد.
شيء مذهل. شيء رائع. الله ينتصر للحبّ! الله جميل يحبّ الجمال. ماذا
تريدون أجمل من ذلك يا جماعة؟ إنّها صفحة رائعة من صفحات الوحي. قد يقولون:
ولكن "انتهازيّة محّمد" واضحة للعيان هنا.إنّها فاقعة. وهذا ما ردّده بعض
المستشرقين الأغبياء أو المغرضين. قالوا بأنّ محمّدا يوجّه الوحي بحسب
رغباته ويتلاعب به كما يشاء حتى لحلّ مشاكله الجنسية أو العاطفية. ويحهم.
أفلا يفقهون! محمد انتصر للحبّ، لقانون القلب الذي لا قانون بعده. شريعة
الحبّ فوق كلّ الشرائع. ثمّ صدّق ربّه على ذلك تصديقا. هنا تكمن حداثة
محمّد والوحي القرآني أيضا. إنه وحي براغماتي وليس انتهازيّا. والأجمل من
كلّ ذلك ما قالته زينب بعد أن أصبحت زوجة النبيّ. قالت تفتخر على كلّ نسائه
الأخريات : زوّجكن أهاليكنّ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات! رائع. شيء لا
يكاد يصدّق. لأوّل مرّة يتدخّل الله في التاريخ ليس من أجل قضية عامة كبرى
وإنّما من أجل قضية عاطفية بحتة: لأوّل مرة يخطب امرأة لرجل، ويبارك
زواجهما شخصيّا، ويكون شاهد العدل. ماذا تريد زينب أكثر من ذلك؟ برافو
عليها وألف مبروك! زواج سماوي وليس بشريّا.
ما معنى الوحي؟
الوحي حبّ، والحبّ وحي.
ما هو الوحي في نهاية المطاف؟ إنّه انفجار داخلي يهزّ الأعماق والأقاصي.
إنه انفجار ذرّي، انفجار سيكولوجيّ، انفراجات بعد الانسدادات! هذا هو الوحي
: أضواء وبساتين وشلاّلات نور تنفتح أمامك على مدّ النظر. ومن عاش تلك
اللحظة لا ينساها. إنّها تنافس لحظة الحبّ، وربما تتفوّق عليها. الحبّ،
نفسه، نوع من أنواع الوحي وبخاصّة ذا ما وقع عليك كالصاعقة: أي بالضربة
القاضية.
كبار الأدباء والشعراء لا يجيئهم الوحي إلا عن طريق إحداهنّ : ربّات
الجمال. شرارة الحبّ أو شرارة الوحي سيّان. ومن لا يعشق أو لا يحبّ، بل
ويتعذّب في الحب و"يتمرمر" لا يمكن أن يكون نبيّا.
قصّة محمّد مع زينب بنت جحش دليل على نبوّته. لقد وقع في هواها. اشتهاها،
في لحظة خاطفة: لحظة اللّحظات. نبيّ يشتهي. نبيّ يحبّ. نبيّ يموت في الحبّ.
نبيّ ينغّصه الحبّ. أليس هذا وحيا؟ أراهن على أنّ الصورة الشائعة عن محمّد
حاليا لا علاقة لها بمحمّد الحقيقيّ. لقد كان عاشقا من الطراز الأوّل.
عندما رآها فجأة وهي في ثياب النوم أو تحت "الدوش" ربّما، شعر بانخطاف لا
مثيل له. وجه الحبيبة نور، إطلالتها وحي! قلبك ينتعش عندما تتذكّرها. دمك
يشتعل. الكون كلّه ينفتح على مصراعيه. ما هو الوحي، إذن؟
هذا ما حصل للنبيّ داوود قبله. ينبغي ألاّ ننسى ذلك. ولكنّه على عكس
داوود، لم يرسل زوجها إلى الجبهة لكي يُقتل ويخلو له الجوّ فينطّ عليها في
نفس اليوم. وإنّما اكتفى فقط بتطليقها من زوجها: أو قل إنّ الله ذاته هو
الذي تكفّل بالعمليّة. محمّد لوحده كان عاجزا عن حلّ المشكلة، كان يخشى
القيل والقال. ماذا؟ نبيّ يطلّق امرأة من زوجها لكي يتزوّجها هو؟ وزوجة
ابنه علاوة على ذلك! من هنا التمزق الداخلي الذي عاشه محمّد لفترة طويلة
قبل أن تنفرج القصّة والذي تعكسه الآية القرآنية المذكورة سابقا.
لنستشهد بها كاملة هنا:
"وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله
وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه، فلمّا قضى
زيد منها وطرا زوّجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم
إذا قضوا منهنّ وطرا وكان أمر الله مفعولا.." (سورة الأحزاب.37)
عندما عرف زيد أنّها وقعت في قلب النبيّ، جاءه وقال له: يا رسول الله سوف
أطلّقها. لماذا قال له ذلك؟ لأنّه يعرف أنّ رغبات الأنبياء أوامر. ولكنّ
النبيّ في كلّ مرّة كان يردعه قائلا: أمسك عليك زوجك يا زيد. كان يقول هذا
من رؤوس الشفاه في الواقع. أمّا في قرارة نفسه فكان يقول: يا إلهي متى
سيطلّقها لكي أحظى بها؟ متى سيخرج من طريقي هذا "التعيس" لكي يخلو لي الجوّ
؟ لذلك قال له الله: وتخفي في نفسك ما الله مبديه. لماذا كان يخفي مشاعره
الحقيقيّة لأنّه كان يخشى القيل والقال. فأعداؤه يتربّصون به، وسوف يستغلون
أي هفوة لتشويه سمعته والانقضاض عليه. كانوا سيقولون حتما: العمى عيب!
يجبر ابنه على تطليق زوجته ويأخذها منه؟ الخ.
تقول الرواية التراثية:"أثار هذا الزواج أحاديث همز ولمز وأقاويل كثيرة من
قبل المشركين واتخذوه ذريعة للطعن في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
ولذلك، أنّبه الله قائلا: وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه. تروي لنا القصة
التراثية ما يلي عن كيفية انحلال العقدة:
فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس يتحدّث مع عائشة، إلى أن أخذت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غشية، فسري عنه وهو يبتسم وهو يقول : من
يذهب إلى زينب يبشرّها أنّ الله قد زوجنيها من السماء؟ وتلا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: وإذ تقول للّذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسكْ عليك
زوجك، الآية.
لاحظ كيف يحصل الوحي. أخذته غشية، أي نومة طفيفة أو غياب عمّا حوله وربّما
رعدة وذعر، فجاءه الوحي فسرّي عنه أي عادت إليه الطمأنينة والبهجة وزال
عنه الذعر. في مثل هذه الحالات يحصل الوحي أو الاتصال: إنّها حالة من
الاسترخاء والغياب عن الوعي. وعندئذ، يحصل شيء يشبه التنويم المغناطيسي
والتواصل مع العقل الباطن. وبالتالي فالوحي هو عبارة عن آلية سيكولوجية
عميقة وتفاعلات داخلية مرهقة قبل أن تنفرج القصّة.
عندئذ، كان النبيّ يرتفع الى أعلى ذروة ممكنة ويتّصل بالملإ الأعلى في
لحظات سماوية خارقة. في تلك الغيبوبة الرائعة، كان يتوصّل الى حلّ المعضلة
في كلّ مرّة. وهنا تكمن عبقريّة محمّد وعظمته والبرهان القاطع على نبوّته
ورسالته الإلهيّة. وبالتالي، فالتفسير السيكولوجيّ الحديث للوحي لا يتعارض
مع التفسير اللاهوتيّ، وإنّما يضيئه ويكمّله.
بالطبع فإنّ الروايات التراثية تلحّ كثيرا على وجود خلافات بين زيد وزينب
لكي تبرّر للنبيّ فعلته، ولكن لا يوجد أي دليل في القرآن على هذا. يحصل ذلك
كما لو أنّهم يريدون أن يصدّوا الشائعات وينفوا أن يكون النبيّ قد وقع في
قصّة حبّ تتجاوزه. ففي رأيهم أنّ النبيّ لا يمكن أن يعشق. عيب. ولو؟ هذا في
حين أنّ القصّة كلّها هي قصّة حبّ واشتهاء وقد أرقت نبي الإسلام كما تؤرّق
قصص الحب كلّ العشّاق، وبخاصة الحبّ الولهان الذي يأخذ عليك بأقطار نفسك.
لكن، لنعد إلى قصّة الوحي. بالطبع هناك القصة التقليدية العذبة التي
تربّينا عليها منذ الصغر والتي تقول: بأنّ الملاك جبريل سقط من السماء وحوم
بجناحيه حتى وصل إلى محمّد وراح ينقل له الوحي الإلهي. الخ. أسطورة رائعة
وجميلة جدا. وهي أوّل ما تربّيت عليه في طفولتي الأولى. وأنا لا أهدف إلى
نقضها، ولكن أهدف إلى إضافة التحليل النفسي إليها. أنا مصرّ على القول بأنّ
الوحي لدى الشخصيات الاستثنائية هو عبارة عن تجربة سيكولوجية من الأهمية
والخطورة بمكان. وقد درستها لدى جان جاك روسو عندما جاءته اللّحظة فجأة وهو
سائر على طريق غابة "فانسين" فطرحته أرضا وغاب عن الوعي. لن أدخل في
التفاصيل هنا. كلّ ما أريد قوله هو أنّ هناك تفسيرين للوحي: الأوّل لاهوتي
تقليدي، والثاني سيكولوجيّ حديث.
ثم قد يتساءلون بعد كلّ ذلك: ولكن، هل يعقل لنبيّ أن يهتزّ للحبّ ويفقد
توازنه؟ ألا ينفي ذلك نبوّته؟ على العكس إنّه يؤكّدها. إنّه يؤكّد على
هشاشته وإنسانيته وعظمته. لا أحد كبير على الحبّ أيّها السادة. إنّه نور
السماء وملح الأرض. لا شيء عظيم على وجه الأرض يحصل بدون حبّ. ومحمد أنجز
شيئا عظيما. لا أحد بمنجاة من الإصابة بهذا الفيروس الخطير: أجمل مرض في
العالم.
اللهمّ زدني مرضا على مرض، وغراما على غرام. اللهمّ غطّسني أكثر فأكثر.
اللهمّ أحرق أنفاسي! حتى نابليون الذي فتح العالم كلّه كان يرتجف كقشرة
بصلة أمام جوزيفين! فما بالكم بنا نحن؟ الله يساعد، الله يستر.
يضاف إلى ذلك أنّه يحقّ للأنبياء ما لا يحق لغيرهم. القادة الكبار بحاجة
إلى الحبّ أكثر من سواهم لكي ينفّسوا عن أنفسهم بسبب ضغط التحدّيات
والمواجهات واتخاذ القرارات المتلاحقة. يلومون النبيّ على كثرة زوجاته
وعشيقاته ولكنّهم لا يفقهون شيئا. فلو لم يكن فاتحا هنا لما كان فاتحا
هناك.
والواقع أنّه يمكننا أن نؤلّف كتابا كاملا عن العلاقة بين "الفتوحات
الفكريّة والفتوحات الغراميّة". كلّ شيء له علاقة بكلّ شيء في هذا العالم.
فإمّا أنْ تكون فاتحا في كافّة المجالات أو لا تكون!