أوّل ما يحضرني مع فيلم "البُعد الآخر" للمخرج الأمريكي " John Hancock
جون هانكوك"، تساؤلٌ عن صناعة السينما الأمريكية، وذلك حين تنحاز الصناعة
الهوليودية عن مسارها التجاري إلى مسارات الثقافة وإعادة إنتاجها، وتحديداً
في مستوى صياغة الهوية الأمريكية المعاصرة. الفيلم الذي يعمل حقاً على
تثبيت حقيقة أنّ الفنّ السينمائي وسيلة وليس غاية بذاته. نحن إزاء أحداث
واقعية الصورة المثالية للمواطن الأمريكي المسيحي الصالح، الرسالة التي
تتوجّه بالدرجة الأولى إلى الداخل الأمريكي أكثر منها إلى الخارج، الداخل
المُثقل بحملة الحروب على أفغانستان والعراق، ثمّ بديون الأزمة المالية
الضخمة. نتابع في الشريط إعادة إنتاج لبعض المفاتيح التي تقرأ أيّ هويّة من
خلالها، العائلة، الثقافة الشعبية ممثّلةً هنا بكرة الفوتبول الأمريكية،
العلاقة بين السود والبيض في هذا المجتمع، المرأة/ الأمّ/ الزوجة/ وسيّدة
الأعمال، الاحتفالات السنوية، القيم المسيحية، والانتماء، الذي يُشكّل جوهر
مقولة الفيلم. علينا الذهاب دفاعاً عن انتمائنا إلى الموت حتى ولو كان
قادتنا يدفعوننا خطأً نحو الموت، فكلّ ما يهمّ هو الشرف الذي لا يكون سوى
بالدفاع عن انتمائنا إلى قيمنا ومجتمعنا وعائلتنا.
من جهتنا نحن العرب، يمكننا القول إنّه ليس "إدوارد سعيد" وحده من اشتغل
طويلاً على أزمة الهوية وارتباطها بفكرة الوطن/ الأرض، وهو الذي وجد نفسه
منذ طفولته وحتى وفاته أسير غربته في الولايات المتحدة الأمريكية، بل
تتعدّد الدراسات والأبحاث التي تعاطت ثقافياً وأيديولوجياً مع فكرة الهوية
وتمثّلها المادّي، كما يمكن أن نجد ذلك في كتابات الأدباء وأحاديث
المفكّرين والنقاد والسياسيين. لكن إن نظرنا بشكل أقرب قليلاً إلى الشارع
وأحاديثه اليومية، حيث توجد اللغة مُعبّرا رئيسيّا عن الهويّة، فإننا نلتقط
أبسط الأشكال- ظاهرياً- لفكرة الهوية، ولكن ربما أشدّها تعقيدا فكرياً
ووجودياً.
في الأحاديث اليومية للعابرين بهذا المقهى أو ذاك، نسمع الكلمات البسيطة،
الفراعنة أصل المصريين، الفراعنة أولئك البناؤون سادة الأهرامات وعلماء
الفلك وفنّ التحنيط. أمّا التونسيون فهم أبناء قرطاج، ونحن السوريين سادة
الأرض التي انبثقت منها الحضارة والأبجدية الأوغاريتية، وهم الفينيقيون
بناة أوّل أسطولٍ بحريّ في التاريخ. وأيّ خلاف ينشأ اليوم بين هذا البلد
وذاك، حتى لو كان خلافاً من أجل كرة القدم، فإنّه يتحوّل إلى صراع على
الهويات والانتماء الماضوي، كما حدث بين مصر والجزائر، حيث قرأنا صيغته
الدعائية في الصحف كصراعٍ بين الفراعنة والجزائريين، في تأكيدٍ رسمي على
قوّة البربوغاندا ومباركتها الأبوية لهذه الصيغ الإنشائية.
الأزمة الحقيقة ليست في سيطرة الصيغ الإنشائية على حديث الشارع فقط، وإنما
في سيطرتها على المناهج الدراسية والآليات الإعلامية والإعلانية، كما في
سيطرتها على الخطب السياسية، كأهم الروافد التي تغذّي حديث الشارع وتدفّق
الحياة فيه. إنّنا محكومون بعقم اللغة الإنشائية منذ عقود كلغة رسمية
لأمّة، تحيط بنا وتنهش بعدم جدواها حتى قاع المجتمع، لم يسلم منها حتى
البسطاء والأمّيون، ففي مستوى (حبّ الذات) لا نجد اختلافاً بين قوى سياسية
وقوى معارضة، بين مفكّرين علمانيين أو سلفيين أو أصوليين، إذ أنّ الجميع
يبحث عن ذاته في صورة القطيع وفي قوّة لوحة تمّ رسمها في الماضي السحيق.
لأنّ الجميع يُدرك مدى واقعية وحقيقية اللا فعل الذي نعيشه اليوم، في
المستويات المختلفة الرسمية منها والحياتية، السياسية كما الثقافية
والفكرية.
عموماً تتميّز مجتمعاتنا العربية بأصولها القبلية، حيث القبيلة والانتماء
المُطلق إليها، فأنا القبيلة والقبيلة أنا، وعلى الجميع أن يخضع لقوانين
القبيلة/ الجماعة/ القطيع، مع مراعاة أنّ سيد القبيلة هو رمزها وقدوتها،
وتمثّل قوانين القبيلة يكون في أحد أشكاله بتمثّل وطاعة سيّدها الذي يحدّد
هذه القوانين ويضعها. استمرّ هذا الحال حتى التاريخ الحديث والمعاصر، فمن
أجل خير الجماعة "الأمّة" لا مشكل أن يَفنى الفرد، الفكرة التي لاءمت سادة
السياسات العربية المعاصرة، الذين عملوا بدورهم على ترسيخها يوماً بعد يوم،
وبمختلف الوسائل. حتى فقد الأفراد فاعليتهم الاجتماعية والفكرية واستسلموا
لسلبية التلقّي تجاه ما تقدّمه الدولة لهم، على نسق ما يُقدّمه الراعي
لقطيعه. إلاّ أنّ استسلامهم هذا لم ينجح في إلغاء وعيهم بعجزهم، ومن ثمّ
إدراكهم لعجز الجماعة بأكملها أمام الآخر، وهنا نشأت الأزمة. يقول "أمين
معلوف" في الفصل الأوّل "هويتي وانتماءاتي" من كتابه "الهويات القاتلة":
(يحدث الاحتماء بعنصر ما من عناصر الهوية تلتف حوله الجماعة كالدين أو
اللغة عندما يتهدد هذا العنصر وتتهدد الجماعة ذاتها في وجودها، فإذا ما
نعمت الجماعة بالهدوء والسلام، وإذا ما عاش الأفراد في داخلها متساوين في
حقوق المواطنة، فإنّ كل دعاوى التعصب والتوترات الإثنية والعرقية والدينية
واللغوية، ستزول).
من هنا، ارتدّ الفرد منا، ولاحقاً قادة الجماعة، إلى الماضي بحثاً عن
مشروعية تغطي على فقدان مشروعية السلطة الحاضرة، ولو بوهم اتفق الطرفان،
الفرد وقادة الجماعة، على قبوله كحقيقة وليس وهم، وهم التفوّق في لحظة
ماضية فاقدة الأثر والفاعلية في زمن الحاضر. فحين نقول أنا سوريّ وسوريا
مهد الحضارات، أنا مصريّ وأجدادي هم الفراعنة، تتماهى الأنا بالجماعة،
ويغرق الفرد أكثر فأكثر في فكرة القطيع، لأغدو أنا الفرعونيّ الذي بنى
الأهرامات، وأنا السوريّ الذي خطّ اللغة الأوغاريتية، وأنا وأنا.. ممّا
يهبني أحقيّة البقاء دون الآخر، يهبني تفوقاً على الآخر، وبالتالي سلطةً
عليه. حتى وجدنا أنفسنا غارقين في تاريخنا، دائمي الانتشاء بمجد سلطتنا
الغابر عبر إعادة اجترار فضائل هذا التاريخ، في سبيل الابتعاد عن الحاضر،
الذي ربما نخاف التفكير فيه، أو لعلّنا نخشى الاعتراف بعجزنا أمام مقوماته
الجديدة التي همشّتنا حتى خارج الدائرة، وليس إلى حدودها فقط.
وعليه تنجح الصيغ الإنشائية في ملء فراغ سؤال الهوية بشكلٍ مباشر وربما
كافٍ، كمحاولة لإشباع نقص الذات عبر البحث عن عوامل تسدّ هذا النقص، وذلك
بواسطة إبراز تفوّق أحد العوامل الأساسيّة المشكلة للهوية الذاتية، عوامل
من قبيل الدين والتاريخ واللغة، وسواها. والهدف من هذا الإبراز رسم شكل
سلطويّ تستمدّ منه الذات "الجماعية أو الفردية" فاعليتها.
من جهة ثانية، يقول "معلوف" في الفصل الثالث "زمن القبائل الكونية" من
كتابه الذي سبقت الإشارة إليه : (إن تجاوز الانتماء الديني بمفهومه التعصبي
المتزمت، لا يكفي تحقيقه بفصل الدين عن الدولة، بل بفصل الدين عن الهوية،
وبمعنى آخر نزع الألغام المزروعة في هذا العنصر المتجذر في الهوية، وليس
نزع العنصر نفسه الذي يعتبر حاجة أساسية في البناء الإنساني).
ففي الواقع لا يُمكن اقتطاع مرحلة وعي الذات- وإن كان وعياً تراجيدياً- إن
أمكننا الاستعارة من "هيغل"- من سياق سيرورة أيّة أمّة، فكيف بنا ونحن
بلادٌ قفزت- في غالبيتها- من الاستقلال إلى الحلم العربي الكبير، دون أن
تمهل نفسها أو شعوبها الوقت لإدراك ذاتها والامتلاء بفكرة الوطن وما يمكن
أن يُمثله من كافة أشكال الهوية. اليوم، وبعد تعثّر، ولن أقول سوى تعثّر،
الحلم العربي الجميل في رومانسيته حيث اللغة الواحدة والتاريخ المشترك،
نعود إلى التاريخ بحثاً عن ذاتنا في صورة الوطن، وبحثاً عن هويتنا الذاتية
في تأكيد هويته، التي تأخذ شكل التأكيد على تفوّقنا مقابل سحق الآخر وتأكيد
دونيته وإن كان هذا التأكيد ضمنياً وغير مُعلن. فأنا السوري أفضل من
الآخرين جميعاً لأنني من الأرض التي انبثقت منها جميع الحضارات، وذاك يرى
أنه الأفضل لأنه سليل العلماء والأطباء، سليل الفراعنة، وهكذا.
المؤلم في غمرة نشوتنا الإنشائية هذه، على أهمّية أرضيتها البحثية
وحتميتها، أننا نعيد إنتاج صورٍ وحشيّة من صور التاريخ، لكننا هنا نُعيد
إنتاج وحشيّة الآخر التي نرفضها، حين ننسى أنّ الألماني النازي كذلك كان
يرى نفسه الأحقّ بالحياة لأنه أفضل الجميع حيث أنه ابن العرق الصافي،
والإسباني الفاتح لأمريكا اللاتينية أعتقد أنّه حامل كلمة الله الحقّ إلى
تلك الشعوب الكافرة، ومن هنا أعطى نفسه حق استباحتها ومحاولة تدجينها كعبيد
في خدمته وخدمة كلمة الله، وهو البريطاني الذي غابت الشمس عن إمبراطوريته
العظيمة لكنه يرفض رؤية المغيب، وتتوالد الأساطير التي تؤكّد تفوّق كلٍّ
منا على الآخر، بمبرّراتٍ تاريخية أو دينية أو ميتافيزيقية لكنّ النتيجة
واحدة، وهي تأكيد دونيّة الآخر.
إنّ كل هويّة محكومة بالضرورة بعامل التغيّر والتبدّل، رغم أصالة بعض
المقوّمات والعناصر التي تشكّل بُنيتها الجوهرية، لكن ومع اختلاف مفردات
كلّ عصر تتبدّل أشكال الهويّة لتحقّق حاجة الجماعة إلى البقاء والاستمرار،
وجمود الهوية كم نقرأها في الشعارات العربية المُتحجّر بعضها منذ ما ينيف
على الخمسة عقود من الزمن، لا يمكن سوى أن ينفي الهوية خارج مساحة الفعل
الإنساني. تاريخٌ طويل مرّ كالغيم فوق البلدان الأوروبية حتى امتلأت بذاتها
حدّ الطوفان، وبدأت تنظر من حولها. اليوم نرى تمثّلا واقعياً وفاعلاً
للاتحاد الأوروبي على مختلف المستويات الداخلية لبلدانه أو الخارجية في
علاقته مع العالم، اليوم نرى اتحاداً أوروبياً تُلغي دوله عملتها الخاصة
بكلّ صور رؤسائها وصروحها لصالح عملة واحدة. اليوم لم يعد الآخر ينفض
الغبار عن كتب التاريخ بحثاً عن هويته الضائعة، بل يصنع واحدة، فلم نقول
إنّ أجدادنا كانوا بناة وفاتحين، حين يغدو بإمكاننا أن نكون نحن البناة
والفاتحين!
أؤمن أننا نحتاج ردحاً من الزمن كذلك قبل أن نبدأ النظر من حولنا نحو
الآخر، هذا البحث عن الآخر الذي لن يكون سوى بحثٍ منقوصٍ إن لم نكن مدركين
لهويتنا وهوية الآخر. كما أؤمن بحتميّة الحاجة إلى التقاط هويتنا، لكنني
أتساءل : ألم نكتفِ من الجعجعة فوق رؤوس أجدادنا والأسلاف، ألا نستطيع
التوقّف ولو قليلاً بحثاً في حاضرنا عن مقوّمات بناء هوية وطنية جديدة،
تكون هي وسيلتنا الأكثر تماسكاً نحو بناء مستقبل جديد، متخطّين مطبّ
الانغماس السلبيّ المُطلق في الذاتية، والذي يُلغي أيّ حضورٍ للآخر؟!
"البُعد الآخر" فيلم لا يهتمّ بتقديم تبريرات أو اعتذارات، وإنما يلملم
التفاصيل الصغيرة القديمة وينفض عنها الغبار ولو بحيلة فنية تؤكّد جمال
الحلم الأمريكي، وقوّته الدائمة، وكلّ هذا طبعاً دون أيّ إنشائية لغوية أو
بصرية، وأكثر ما يمكننا قوله هو سذاجة بصرية وفنية من حيث قيمتها
السينمائية، سذاجة تناسب أيّ تمثيل ليوتوبيا المدينة الفاضلة، ولكنها تحفة
ودرس لتعلّم كيف نصنع صورتنا الدعائية الخاصة.