2011-11-16 سؤال الذات وحقيقة الهوية
|
| |
يمثل
الشريط* حوارا فلسفيا يتمحور حول مفهوم الهوية. ويتميز الفكر الفلسفي
عموما بكونه فكرا حواريا ينفتح على الأخر الشبيه أو المختلف، الذي يقاسمنا
أفكارنا أو المختلف المعارض. كما أن الحوار الفلسفي لا يهدف إلى نقل
معلومات جاهزة أو تكرار أفكار متداولة أو إصدار أحكام مجانية وبدون سند
نظري بل يتوخى إعادة النظر في مصادر تلك الأفكار وشروط تشكلها ويقصد النظر
في بنية العقل الحامل لها وفي أبعادها ودلالاتها. لذلك يشترط في الحوار
الفلسفي أن يكون تفاعلا نفسيا وفكريا وأخلاقيا وان تحكمه ضوابط فكرية منها
التهيؤ الفكري للحوار والإلمام بموضوع الحوار ومجالاته والاهم من ذلك
الالتزام بالأخلاق الفكرية من حسن إصغاء للآخر واحترام لموقفه ومن التزام
بآداب الاعتراض. ولعل المشاهد للحوار المعروض يستشعر ويرى ويدرك قيمة
الجهد المبذول من طرفي الحوار، المتحاور(اليزماغو Elise Marrou)
والمحاور(رفائيل انتهوفن Raphael Enthoven)* بالخصوص الذي حرص على خلق
فضاء يتلاءم وموضوع الحوار ويتجلى ذلك الجهد في إلمامه بأفكار محاوره
وطروحاته وكذا إعداده لمختلف السندات والوسائط الممكن توظيفها قصد تعميق
الحوار وتفعيله ، ويظهر ذلك العتاد من خلال الانطلاق من الحياة اليومية،
وفي المتن الفلسفي الذي يتم استحضاره، وفي اللوحات الفنية والأشرطة
الموظفة... مما أضفى على الحوار عناصر الإثارة والتشويق ونأى به عن
التكرار والابتذال والسطحية والمشادات الصبيانية التي تعج بها البرامج
الحوارية في القنوات العربية. في حياتنا اليومية يحيل كل واحد منا في
أحاديثه اليومية إلى ذاته باستمرار ويرد الكثير من أفعاله وتصرفاته إلى
ذاته، فمثلا حينما يتكلم في الهاتف ويسأله مخاطبه من تكون يرد أنا، فما
عساه يكون هذا الأنا؟ ومن عساه يكون هذا الأنا؟ وهل توجد هوية ثابتة للشخص
يمكن الإحالة إليها باستمرار؟ وهل هي واحدة أم متعددة؟ حينما يصفك البعض
بأنك مدرس الفلسفة وصاحب سيارة نوع x وتحب كرة القدم هل يكفي ذلك لتحديد
هوية الشخص المعني. هل يختزل الشخص في مجموع الخصوصيات المتعارف عليها
والمتداولة أم أن الشخص يظل يحس بوجود قصور في تحديد هويته خاصة من قبل
الأخر؟ تحمل هوية الشخص مفارقة عميقة وغريبة يمكن التعبير عنها في مقولة
الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه(1844-1900)" إني أشبه كل الأشخاص وأشبه
البعض منهم ولا أشبه أحدا". عبر مراحل الحياة نراكم سلسلة من "
الايتيكيتات بدءا من دفتر الحالة المدنية ومرور ببطاقة التلقيح والدفتر
المدرسي وبطاقة الغياب وحسن السيرة وبطاقة الهوية وجواز السفر ورخصة
السياقة وانتهاء بشهادة الوفاة فكيف يمكن العثور على الهوية الشخصية وسط
هذا الكم وعبر مختلف مراحل العمر وهل بإمكاننا القول انه خلف هذه الكثرة
ووراء ذلك التنوع يظل الشخص نفس الشخص؟ يظهر أن الهوية الشخصية هوية
اجتماعية وان الشخص مرغم على الانطباع والتكيف مع الآلة الاجتماعية التي
تجبره على تغيير الأقنعة وعلى تقمص مختلف الأدوار والتي تتغير بتغير
الظروف والأحوال،وان الشخص مطالب في كل لحظة لا ضرورة التلاؤم مع الدور
الموكل إليه فحسب بل التفنن والإخلاص في تأديته. لذات السبب ينتقد اغلب
الفلاسفة هذه الهوية المصطنعة وينعتها المفكر الفرنسي ميشيل
فوكو(192661984) ب"أخلاق الحالة المدنية" لأنها تؤدي إلى ضياع هوية الشخص
وتفقده أصالته وتميزه وتطوق وجوده وتفرغه من طاقاته وإمكاناته الإبداعية .
إذا كان اختزال الهوية في المعطيات الاجتماعية يؤدي إلى تفتيت الهوية
وتشظيها فان المحاولات التي يتم الارتكاز عليها اليوم والتي هي نتاج
الطفرات التي تحصل في مجال العلوم في البيولوجيا وعلوم الوراثة أو ما يمكن
الاصطلاح عليه "بالبيومتريات "، تؤكد أن لكل فرد بصمته الخاصة وشفرته
الجينية الفريدة والمتميزة والتي يستحيل نسخها أو مسخها أو التلاعب بها.
والسؤال الذي يفرض ذاته ألا تؤدي البيومتريات إلى اختزال الهوية الشخصية
في نزعة طبيعانية تجرده من كل مقوماته الإنسانية من مقومات نفسية وفكرية
وأخلاقية وتحوله إلى مجرد رقم تائه في شبكة الحقول الرقمية والى رقم سري
تتحكم فيه أجهزة الرصد وتخضعه للرقابة والوصاية مثلما يحصل اليوم في
الطفرة الرقمية ومثلما يمارس اليوم في عالم السياسة وداخل اللعبة
الانتخابية حيث تحول إلى صوت والى مجرد رقم !
الحقيقة أننا نتغير باستمرار ويشكل التغير جوهر هويتنا، يصيب أبنية
أجسادنا وصورتها وشكلها ويطال بنى أحاسيسنا ومشاعرنا ويعيد صياغة
منظوراتنا وأفاق أوهامنا وأحلامنا أو بلغة هايدغر(1976-1889) يطال علاقتنا
بالعالم. وبالتالي فان كل محاولة للامساك بالذات وبالهوية الشخصية توقع
تلك الذات في مآزق انطولوجية وميتافيزيقية، وتجسد أسطورة اونارسيس تلك
العلاقة بوضوح، حيث يحاول اونارسيس أن يوقف الصيرورة والزمن ويتماهى مع
تلك الذات العميقة والحقيقية والفناء في تلك الهوية وتأبيدها. يمثل هم
انتشال الهوية الشخصية من كل ما يهددها سواء من داخل الذات من نزوعات
بهيمية وانفعالات ورغبات جشعة أو من مصادر التزييف التي تخترقها من خارج
الذات من المحيط والمجتمع ومن مختلف منابر الضبط والتوجيه والرقابة هما
أرق الفلاسفة خاصة، ويجسد فيلم "المدينة المظلمة" dark city" ذلك بوضوح،
وهو فيلم استرالي لمخرجه "الكس بروياس"Alex proyas" يحكي الفيلم قصة شخص
يستيقظ فجأة ليلا ليجد نفسه قد فقد ذاكرته وليكتشف وحده حقيقة الوهم
والخداع الذي يتخبط وسطه ساكنة المدينة والتي يمكن تشبيهها بلعبة الأقنعة
حيث يتم تبادل الأدوار وان ثمة وراء ذلك السيرك أيادي خفية تتحكم في مصير
الساكنة وقدرهم بحيث يبيت الواحد منهم فقيرا ويصبح غنيا ولا احد يدرك كيف
تم ذلك ومتى حصل، أو يفطن للكيفيات التي يتم بواسطتها مسخ الذاكرة ومحوها
وتزييف للتاريخ والحقيقة وطمس لمعالم الهوية. ووحده جون مردوك بطل الفيلم
الفاقد للذاكرة سيتمكن من فك لغز التزييف الممارس من خلال إعادة بناء
للهوية والذاكرة بتعقب بصماتها وأثارها وإعادة بناء علاقتها بالزمن. لقد
سبق للفيلسوف الانجليزي جون لوك(1632-1704) أن ربط الهوية الشخصية بالوعي
بالذات المقترن بالذاكرة، إلا أن هذه الأخيرة لا تكفي لتحديد الهوية بحكم
أسباب القصور التي تصيب الذاكرة من تحريف ونسيان أو نتيجة المرض كفقدان
الذاكرة بسبب الإصابة في الدماغ.
يتبين مما سلف أن سؤال الهوية يظل راهنيا ويحمل خلفه إرثا تاريخيا وثقافيا
ويشكل عبئا فلسفيا لا يزال يجثم على كل ناظر ينشد الحقيقة منذ ان دفع
سقراط ضريبة تقفي اثر تلك الهوية بقوله "يا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"
والفكر الفلسفي ما يفتآ يعيد مساءلة تلك الهوية خاصة في ظل التحولات
الاجتماعية والسياسية التي نعرفها اليوم وما يشهده عالمنا العربي من تصاعد
لمختلف النعرات الطائفية والمذهبية والعصبيات العرقية والقبلية والدموية.
وحده الوعي النقدي المسلح بالوعي التاريخي كفيل بإعادة بناء للهوية
الشخصية فردية كانت أو جماعية او حضارية أو إنسانية.