مقدمة:غالبا ما تبنى كل فلسفة على علوم عصرها، سواء كانت رياضية أو منطقية أو[1] طبيعية. وفي هذا الصدد يقول
جون بياجي1:
"يظهر أنه ممالا جدال فيه أن أكبر المذاهب في تاريخ الفلسفة تنحدر من
تأمل، إما في الاكتشافات العلمية لأصحابها أنفسهم، أو في ثورة علمية خاصة
حدثت في زمانهم أو قبله بقليل، هكذا كان الأمر عند أفلاطون مع الرياضيات
وديكارت مع الجبر والهندسة التحليلية، وليبنتز مع حساب اللامتناهيات"،
وكانت مع العلم النيوتوني، وصولا إلى المنطق الرمزي مع فيرجه وراسل."إن المذاهب الفلسفية في مجملها تبنى على علوم عصرها وتتشكل في ضوء
المعارف العلمية السائدة، فلا فلسفة تظهر إلا لأن علما جديدا قد ظهر، ولا
فلسفة تنهار إلا بانهيار دعامتها العلمية، لهذا يستدعي الأمر ظهور فلسفة
جديدة كلما ظهر علم جديد، لأن إعادة تنظيم الأفكار العلمية تستدعي إعادة
تنظيم الفكر الفلسفي. ويظْهر هذا التوازي بين الفلسفة والعلم في عدة محطات
مر منها تاريخ العلم، كما هو حال مرحلة
العلم الما بعد النيوتوني،
التي شهدت انهيار مقولات العلم الحتمي، قبل أن يثبت للفلاسفة أنفسهم أنه
لم يعد ممكنا الحديث عن معرفة مطلقة اليقين ، لهذا بات الأمر يتطلب ظهور
فلسفة جديدة ذات أطر ومناهج تتماشى والتطورات العلمية الجديدة، ولهذا فإنه
ما إن خمدت شرارة الثورات العلمية المعاصرة التي شهدها القرن العشرين، حتى
بدأت تروج عدة تساؤلات في الخطاب الفلسفي حول القيم الإبستموولوجية التي
أفرزتها تلك الثورات العلمية، خاصة منها تلك المتعلقة بطبيعة التطور العلمي
ومناهجه، من هذا المنطلق يمكن القول أن كل الأنساق الفلسفية لم تكن وليدة
الصدفة أو العطالة الاجتماعية، أو الترف الفكري، بل كانت هناك إشكالات
وهموم نظرية هي التي استدعت ظهورها.
هكذا نصل إلى أن الحديث عن أي تصور فلسفي يستلزم ضرورة الوقوف عند أصوله
وامتداداته وحدود رؤيته، ولما كان موضوعنا سيدور حول تصور كل من
كارل بوبر Karl Popper و توماس كون khun Thomasلمنهج
العلم وطرق تطوره، فقد وجدت أن من غير الممكن الحديث عن هذين التصورين
بمعزل عن السياق الفلسفي الذي أنتجهما، وكذا الإشكاليات الفلسفية التي كانت
مستأثرة باهتمام المفكرين والعلماء والفلاسفة حينها، إذ أن غايتي من هذه
المحاولة ليست هي عرض أفكارهما المتوفرة في كتبهما بشكل أفضل وأدق. بل إن
ما استوقفني عند هذه المحطة الكبرى هو الثورة الإبستمولوجية التي خلفتها
وقيمتها المعرفية، من جهة أولى، ومن جهة ثانية - وهي الأهم -
بعدها النقدي الذي تسعى إلى تكريسه، والذي يتجلى في غرس درجة عالية من
الشجاعة تفرض على العلماء الاعتراف بالخطأ وقبول النقد والبحث عن حل بديل،
يكون أكثر قدرة على التفسير من ذلك الذي يتمسكون به استنادا إلى مبررات
واهية، والذي يدفع المجتمعات القهقرى إلى الوراء، كما يحصل في مجتمعنا
العربي اليوم.
إن ما تكشف عنه المقولات البوبرية سواء تعلق الأمر بالعلم أو الفلسفة،
أو بالمجتمع والحياة اليومية، هو حرصه الشديد على حرية الإنسان باعتباره
كائنا خلاقا ذا قدرة عالية على الخلق والتطور، فالمعرفة العلمية كما تصورها
ما هي إلا سعي متواصل لتجاوز الخطأ وتطوير لقدرات الإنسان وتوسيع لمجال
فهمه للواقع، لهذا كرس بوبر نفسه لمهاجمة كل نزعة دوغمائية تسعى لتكريس
الفكر التبريري، وأيضا لانتقاد كل مجتمع منغلق يخنق الأفراد ويقتل فيهم
ميلهم الإنساني إلى الخلق والإبداع والتحرر.
وبالعودة إلى ما كنت بصدد الحديث عنه، فقد وجدت نفسي مضطرا قبل الحديث عن
إبستومولوجيا بوبر وكون، أن أتوقف عند مدرسة
الوضعية المنطقية التي كانت تمثل الفلسفة السائدة حينها، والتي كانت بحق منعطفا غير مسار
الفلسفة واهتماماتها وفرض عليها التنكر لإشكالاتها القديمة، والخوض في أخرى
كانت إلى الأمس القريب حكرا على الرياضيات والمنطق، وهذا هو ما سيشكل
مضمون المبحث الأول .
غير أن تناولي للوضعية المنطقية لن يكون غاية في ذاته، بقدر ما هو ضرورة
أملتها طبيعة الإشكالات التي سأتوقف عندها، وأيضا سعيي إلى خلق سجال بين
الأفكار، لهذا سأقتصر على بعض المبادئ التي تضمنها
"الفهم العلمي للعالم "، أو ما عرف في الأدبيات الوضعية بإعلان "
حلقة فينا"، والتي مثلت دعامات قام عليها التصور، كما هو حال
مبدأ التحقق، واستبعاد الميتافيزيقا، وتضييق مجال اختصاص الفلسفة، باقتصارها على تحليل مفاهيم العلم فقط.
أما في المبحث الثاني فسأتطرق إلى مرحلة جديدة عرفت تحولا كبيرا على
مستوى تصور فلسفة العلم، وهي التي دشنها كارل بوبر، عندما قدم منظورا
للمنهج العلمي مغايرا لمنهج القابلية للتحقق الذي قدمته الحلقة، ويتعلق
الأمر بمعيار القابلية للتكذيب، مِؤداه أن الخاصية المميزة للنظريات
العلمية هي قابليتها الدائمة للتكذيب، مخالفا بذلك تعاليم الوضعيين
المناطقة، ومنتقدا في نفس الوقت لأهم مبادئهم، فكان بذلك رائدا لفلسفة
العلم المعاصر، كما كانت فلسفته تعبيرا قويا عن سلسلة التطورات التي عاشها
العلم منذ بداية القرن العشرين.
على أن أختم هذه المحاولة بالحديث عن تصور توماس كون لطبيعة تطور العلم،
والذي يكشف عن نفسه كاستمرارية لرؤية بوبر، وذلك من خلال تأكيده على
الطابع الثوري والتقدمي للعلم، وفي ذلك رفض للمبادئ التي كرسها الفكر
الوضعي التبريري.
1- الفصل الأول: حلقة فيناتأسست الوضعية المنطقية على يد جماعة من العلماء والفلاسفة والمناطقة
الذين كانوا رغم تنوع آرائهم واختلاف منطلقاتهم يجمعون على ضرورة تقديم فهم
علمي للعالم، وقد التف هؤلاء حول
موريس شيليك الذي كان يشغل كرسي الفلسفة والعلوم الاستقرائية بجامعة
فينا([2])، وعلى الرغم من أن أصول رؤى الوضعيين تمتد في التاريخ لتصل إلى أسلاف تقليديين كعالم الاجتماع
كونت، والتجريبيين الكلاسيكيين خاصة
ديفيد هيوم وستيوارت ميل، إلا أن انطلاقتهم الحقيقة، كانت من خلال البيان الذي تم إصداره في سنة 1929، والذي عرف بإعلان "
حلقة فينا".
لقد ظهر هذا التصور الفلسفي كاستجابة للروح العلمية التي ميزت بدايات
القرن العشرين، إذ دفعت أعضاء الحلقة إلى إعلان انتفاضتهم ضد التقليد
الفلسفي الذي كرسته الأنساق الفلسفية الكلاسيكية، والمثاليات الألمانية،
التي دأبت على الانشغال بالبحث في قضايا الميتافيزيقا كالوجود والنفس
والروح، ولهذا حملوها مسؤولية التردي الذي تهاوت فيه الفلسفة حينما انساقت
وراء سراب الحقيقة ووهم العقل، فالمؤتمرات العلمية والندوات التي كانت تعقد
آنذاك، كانت تكشف عن تقدم هائل في ميدان الفيزياء، يوازيه جمود مستمر في
الفلسفة، لهذا اعتقدوا أن مهمتهم هي إنهاء هذا الزن
(*) الفلسفي الميتافيزيقي الذي استمر لقرون، والخروج بالفلسفة من التيه في
أوهام الميتافيزيقيا، والحد من البحث في التساؤلات التي تسعى إلى استكناه
أسرار العالم، لأن هذه مهمة العلم، أما مهمة الفلسفة فهي الانكباب على
لغة العلم لتوضيحها أو تحليليها اعتمادا على المنهج التحليلي ومستثمرة
لنتائج التطورات المتواصلة التي عرفها المنطق الرياضي.
رغم ما سلف من قول حول الوضعية وهدفها إلا أن توضيح رؤيتها ورسم معالمها
الكبرى، لن يتم بمعزل عن المؤثرات الخارجية التي تبلورت تصورات الوضعيين
في ضوئها، وفي هذا المضمار لا بد من الإشارة إلى أن "حلقة فينيا" استفادت
إلى حد كبير من نتائج التطورات التي عاشها المنطق الرمزي بفضل أعمال
المنطقي الألماني،
جوتلوب فرجيه[4]،
الذي أثرت أعماله كثيرا في إعلان فينا، ليس فقط من حيث استخدامهم لمنطقه
الرمزي لصياغة لغة فلسفية علمية خالية من الثغرات المنطقية، بل أيضا من حيث
إثارته لبعض المشاكل التي ستلاقي رواجا كبيرا في الأوساط العلمية، وستصبح
محط اهتمام فيلسوفي الذرية المنطقية،
برتراند راسل ولودفيج فتجنشتاين، وأهمها مسألة قصور اللغة العادية عن أن تكون لغة علمية ومنطقية لما تمارسه من تستر على البنى المنطقية الأساسية للفكر
([5])، هذه المشكلة ستجد توضيحا وتوسيعا في أعمال
فتنجنشتاين، خاصة كتاب الرسالة المنطقية الفلسفية، التي عرض فيها لفلسفة الذرية المنطقية وللنظرية التصويرية اللغة.
لقد سلم الوضعيون بأغلب ما ورد في الرسالة، واستلهموا منها ما يخدم
توجهاتهم العلمية، وكانت نقطة البداية في هذه العملية عبارة وردت في رسالة
فتجنشتاين، يعتبر فيها أن
"معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن
أمور فلسفية، ليست صادقة ولا كاذبة، وإنما خالية من المعنى، لأنه لا وجود
لمشكلات فلسفية أصلا، وظهور هذه المشكلات ناتج عن فهم سيء لمنطق اللغة"([6]). ويضيف ما معناه أن الفلسفة ظلت طريقها حينما حشرت نفسها داخل إشكالات
وهمية باطلة بطبيعتها ولا تستحق عناء البحث حتى، وإن أليق سبيل للنهوض بها
من سقطتها التي طالت هو تخليصها من ربقة الميتافيزيقيا، وتقويض دعائم هذه
الأخيرة وإعلان إزاحتها من عالم لا مكان فيه إلا للعلم، وتحويل الفلسفة نحو
وجهتها الجديدة المتمثلة في الانشغال بمهمة وحيدة هي التحليل المنطقي
لمفاهيم العلم، إذ أن الفلسفة ليست واحدة من العلوم الطبيعية كما يؤكد
فتجنشتاين،
بل هي " نشاط نتيجته ليست عددا من القضايا الفلسفية، بقدر ما هي جعل القضايا واضحة " ([7]). أ- استبعاد الميتافيزيقا: انطلاقا
مما سبق نصل إلى أن الوضعية المنطقية استلهمت روحها من رسالة فتجنشتاين،
وخاصة فيما يتعلق بتنكرها للتساؤلات الفلسفية ووقوفها من الميتافيزيقيا
موقف المعاداة، هذا الموقف الذي سيجد أبهى صوره في إعلان الحلقة، لقد كان
التساؤل حول الجدوى من الميتافيزيقا في زمن العلم هاجسا يؤرق الوضعيين،
لهذا ذهبوا إلى رفض كل محاولة يراد بها الوصول إلى أسس علمية
للميتافيزيقيا، لأن البحث في هذا المجال سيقود حتما إلى مشاكل تستعصي على
الحل، ببساطة لأنها خالية من المعنى
([8]).
ولما كان استبعاد الميتافيزيقيا وتحطيم أسسها أمرا ضروريا لدى الوضعيين
المناطقة، فإن هذا فرض عليهم ضرورة البحث عن حد فاصل يكون بمقدوره
الحيلولة بين الميتافيزيقا والعودة مجددا إلى ميدان العلم، ويتيح إمكانية
التمييز بين ماله معنى وما ليس له معنى من الكلام، لهذا وجدوا ضالتهم في
مبدأ التحقق الذي ظهر لهم أنه يستطيع القيام بهذه المهمة بشكل صارم وتام،
ومؤدى هذا المبدأ، أن
"معنى القضية هو طريقة تحقيقها، فليس في وسع القضية أن تثبت إلا ما يمكن التحقق منه بالنسبة لها"([9]). هكذا تأسس الفهم العلمي للعالم كرؤية علمية لا تقتنع إلا بالقول العلمي
الذي تم اختزاله في منهج التحقق الوضعي، حيث تم اعتماد هذا الأخير كمنهج
اعتقد في أنه سيكون ولا شك قادرا على كشف الأقنعة الميتافيزيقية التي تتخفى
وراءها المفاهيم ذات الطابع الفلسفي، وبالتالي منعها من التسرب مجددا إلى
حظيرة العلم، وإلى جانب مبدأ التحقق، اعتمد التصور الوضعي على منهج التحليل
المنطقي الذي يستثمر آليات المنطق الرمزي وفلسفة التحليل، للوصول إلى
الهدف الأكبر المتمثل في صنع فلسفة علمية خالصة من الشوائب الميتافيزيقية،
لهذا سيكون مبدأ التحليل المنطقي بأدواته التحليلية قمينا بأن يكشف
الالتباس الذي يلف القضايا الفلسفية، لأن غايته هي أن يرد كل قول أو قضية
إلى أبسط موادها الاختبارية، وكل ما لا يقبل الاختبار سيكون مآله الإبعاد
والإقصاء.
من هنا اعتقد الوضعيون المناطقة أن مغامرة الميتافيزيقيا الفلسفية التي
استمرت طويلا بين أحضان الفلسفة سيتم إنهاؤها، وأن الإشكالات والتساؤلات
القديمة التي رانت على صدر المعرفة البشرية وضللتها ستظهر حقيقتها بعد أن
تخضع لمبدأ التوضيح والتحليل، وسيظهر أنه لا وجود لمملكة من الأفكار فوق
الخبرة الحسية أو وراءها.
خلاصة القول، أن ما انتهى إليه التصور الوضعي هو الاستمرار على الطريق الذي رسمه
فتنجنشتاين،
والذي يتمثل في اقتصار الفلسفة على الخوض في إشكاليات المعنى وتمييزه من
الميتافيزيقيا، والتسليم بأن المنزلقات التي تعج بها اللغة العادية، والتي
أدت إلى مفارقات لغوية كبرى لأكبر دليل على قصورها وما تعانيه مفرداتها من
غموض ونقص، إذ أن هناك كلمات لا إحالة لها أو لا يمكن ردها إلى الخبرة
الحسية، بينما توجد كلمات أخرى تتداخل مدلولاتها، هذا الخلط الحاصل في
اللغة الطبيعية هو الذي فرض أن تصبح إشكالية الفلسفة البارزة هي إشكالية
المعنى، وهذا أيضا هو ما استدعى الحديث عن لغة رمزية صورية تتلافى مواطن
الزلل المعششة في اللغة العادية، والتي تمنعها من أن تكون لغة العلم.
قد نسلم مع الوضعيين أنه فعلا تتضمن اللغة العادية مشاكل من هذا القبيل،
وقد نقبل معهم رفضهم لبعض القضايا الميتافيزيقية المتهمة بتعطيل دوران
عجلة العلم، لكن أن يقصى تاريخ الفلسفة ومشكلاته هكذا بجرة قلم واحدة
وبتهمة كتلك التي ألصقتها الوضعية بالفلسفات السابقة، ففي هذا القول مغالاة
قد تكون محط إجماع جل المطلعين على الإشكال، لهذا لن يكون في وسعنا إلا أن
نسائل التصور الوضعي ونختبر مدى قدرته على الصمود أمام الانتقادات التي
وجهت له من معاصريه، خاصة من طرف كارل بوبر.
كارل بوبر2- المبحث الثاني: انتقادات بوبر للوضعية المنطقية : أ: رفض المنحى اللغوي: خلصنا مما سبق إلى أن المشكلة التي باتت مؤرقة للوضعيين المناطقة هي
مسألة المعنى وكيفية التحقق من القضايا، لمنحها صفة العلمية أو لإبعادها من
دائرة العلم تحت طائلة صلتها بالميتافيزيقيا، ولهذه الغاية اتجهوا نحو
التحليل اللغوي الذي بات مهمة وحيدة للفلسفة عليها القيام بها.
هذا الاهتمام المتزايد بالتحليل اللغوي هو ما سيكون محط معارضة شديدة من طرف رائد الابتسمولوجيا المعاصرة،
كارل بوبر الذي لم يقبل أطروحات الوضعيين المتطرفة في مهاجمة الميتافيزيقيا واستبعادها، ودعوتهم إلى جعل المشاكل اللغوية وجهة وحيدة للفلسفة.
وفي هذا الصدد اعتبر أن مهمة الفلسفة الدائمة هي الاهتمام بنمو المعرفة
الإنسانية في جانبها العلمي والفلسفي قصد توسيع وتدقيق المعرفة بالواقع
والعالم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، إحلال دراسة اللغة وأنساقها
ومشكلاتها محل دراسة نمو المعرفة وتطور محتواها[10].
إن الهدف الأسمى للعلم والفلسفة على حد سواء، هو السعي إلى فهم الظواهر
الطبيعية والإنسانية وتقديم حلول لمشكلاتها، غير أن الوضعية المنطقية
أبعدت الفلسفة عن هذه المهمة، وسحبت منها صلاحية ولوج باب الاكتشافات
العلمية، وحصرت هذه المهمة في العلم وحده، بينما أبقت للفلسفة مهمة التحليل
المنطقي لمفاهيم العلم وحده، وهذا ساهم في فقدان الفلسفة لقيمتها المعرفية
وحولها إلى مجال جامد ثابت لا يتقدم، وحتى لو تم القبول بالتحليل اللغوي
للنظريات العلمية كمهمة فلسفية، فإنه لن يقدر على دفع الفلسفة نحو التقدم
مجددا كما تزعم الوضعية، لأنه لا يأخذ في حسبانه كيفية تغير النظريات
وتطورها، ولن يكون مفيدا في نمو المعرفة ، بل إنه يلغي التعامل الديناميكي
مع النظريات، ويسقط أسير رؤية استاتيكية، مما يلغي إمكانية الوثوق به كمنهج
علمي،
لأن من طبيعة هذا الأخير أنه دينامي، ومتحول ومتغير، ولن يكون منهجا علميا ذلك الذي لا يقبل خصائص العلم، لهذا رفض بوبر
([11]) الأخذ بالتحليل المنطقي للمفاهيم، واعتبر أنه منهج عاجز عن مواكبة
التطورات العلمية الحاصلة، وعن أن يكون معبرا حقيقيا عما يجري فعلا، لقد
اعتبر فتجنشتاين أن منهج التحليل المنطقي قادر على أن ينهي مغامرة
الميتافيزيقا، وأن يدل الفلاسفة عن طريق الخروج من مطباتها ومشاكلها
الوهمية، غير أن بوبر يصر على أن "صاحب الرسالة المنطقية الفلسفية" هو من
دخل الزجاجة ولم يستطع مغادرتها، لأنه نسي أن اللغة ما هي إلا أداة تستعمل
لوصف العالم ورؤيته، دون أن تكون المشكلة الوحيدة للفلسفة
، فكان مشابها في حاله ذاك لنجار يمضي حياته في شحذ أدواته وآليات اشتغاله دون أن يعمد إلى استخدامها مرة واحدة([12])، لهذا صرح بوبر قائلا:
"
أن تقضي مرحلة من حياتك في التحليل قد يكون مقبولا رغم صعوبته، أما أن
تمضي العمر كله والفلسفة كلها منهمكة فيه، فهذا مما لا يطاق "[13]لقد كانت غاية بوبر أن يفند مزاعم الوضعيين حول رفضهم للمشكلات الفلسفية
ونعتهم لها بالوهمية، وأن يثبت أن للفلسفة همومها ومشاكلها الحقيقية التي
كانت وما تزال تستدعي البحث والتساؤل بصدها، وأن يؤكد أيضا أن الأنساق
الفلسفية الكلاسيكية التي اتهمها الوضعيون بالبحث في قضايا وهمية لم تكن
كذالك، بل كانت لها مشكلاتها الحقيقة.
صحيح أن تاريخ الفلسفة عرف بعض الأفكار
(*) الميتافيزيقية التي أعاقت تطور العلم في لحظة معينة، لكن هذا لا يعد دليلا
لإدانة الفلسفة كلها، فتاريخ العلم يحدثنا على أن كثيرا من الاكتشافات
العلمية أوحت بها نظريات ميتافيزيقية كما هو حال فرضية
كوبيرنيكوس القائلة بمركزية الشمس([15])،
والتي كانت في بدايتها مجرد فرضية تفتقد إلى إثبات تجريبي، فهذه الفرضية
تعود في أصولها إلى الفيثاغورية والأفلاطونية التي كانت تقدس الشمس
وتعتبرها رمزا للخير الأسمى ومصدرا للنور.
ب: تهفيت مبدأ الاستقراء: إن محاولة الوضعيين المناطقة الرامية إلى استبعاد الميتافيزيقا كانت هي
الهم الأكبر بالنسبة لهم، ولهذا لجأوا إلى مبدأ التحقق الذي وجدوا فيه خير
معبر عنه هذه الرغبة العلمية الجامحة، لأن التحقق من قضية ما، يعني مباشرة
رؤية ما إذا كانت تحيل إلى الواقع أو تتطابق مع الخبرة الحسية أو لا، ولما
كانت قضايا الميتافيزيقا تتجاوز حدود الخبرة الحسية فإن التحقق كفيل بأن
يغلق الباب أمامها وأن يبقيها في دائرة القول الخالي من المعنى، والذي لا
مكان له في العلم، غير أن تطبيقات هذا المعيار لم تثبت وقوف المنهج ضد
الميتافيزيقا فقط، بل إنه امتد أبعد من ذلك ليشكك في قضايا الرياضيات
والمنطق، إذ لما كان يسقط من حساباته كل القضايا التي لا تنحل إلى الخبرة
الحسية، ولما كانت حلقة فينا تسلم بأن قضايا الرياضيات والمنطق هي قضايا
تحصيلية لا تخبر بشيء عن الواقع، فإن استبعادها أمر بديهي، بل إن مشكلة
مبدأ التحقق في صورته القوية لم تتوقف عند هذه الحدود، بل امتدت لتطال
القضايا والقوانين العلمية المسلم بها من طرف أعضاء دائرة "الفهم العلمي
للعالم"، ولعل هذه الآثار هي ما دفع بوبر إلى مهاجمة مبدأ التحقق واعتباره
سلبيا لا يتلاءم ومهمة التمييز.
وفي هذا الصدد يقول
" إن نقدي لمبدأ التحقق، كان دوما كما يلي:
إنما يؤخذ على الهدف الذي يسعى أنصار هذا المبدأ إلى تحقيقه، هو أن
استخدام هذا المعيار، لن يؤدي إلى استبعاد الميتافيزيقا فقط، بل سوف يؤدي
إلى استبعاد معظم القضايا العلمية والقوانين العامة للطبيعة([16])" هكذا يلخص بوبر أوجه اعتراضاته على مبدأ التحقق، غير أن معارضته لهذا
المبدأ إنما جاءت بناء على أنه ليس إلا صورة بسيطة أو تطبيقا مصغرا للمنهج
الأول وهو مبدأ الاستقراء، إذ لما كان هذا الأخير تجميعا لمعطيات وملاحظات
جزئية محدودة ومتناهية بغية الوصول إلى قانون عام ، فإن التحقق يقوم على
تجميع معطيات الخبرة الحسية للوصول إلى عبارة علمية، من هنا فرفض التحقق هو
رفض لأن تكون الخبرة الحسية مصدرا مسلما به للحقيقة، إذ يؤكد بوبر على أنه
من العبث إعادة ربط مسألة حقيقة النظريات بحقيقة أصلها
([17])،
ورفض الاستقراء هو رفض الانتقال العبثي من ظواهر ملاحظة محدودة وتطبيقها
على ظواهر أخرى لم تتم ملاحظتها، فأزمة الاستقراء هي الطريقة التي يتم بها
تبرير القفز اللامعقول من ظواهر جزئية بغرض الوصول إلى قانون عام ينظم
الظاهرة ككل، هكذا نشأت مشكلة الاستقراء.
لقد عاشت التجريبية أبهى فتراتها إبان سيطرة المنهج التجريبي الذي أثبت
نجاعته في ميدان العلوم الطبيعية لفترات طويلة، ومعروف أن ما يميز العلوم
الفيزيائية الاختبارية هو اتباعها للطرق الاستقرائية في التحليل،
واستمرارية للتوجه التجريبي فقد أخذت الوضعية بالمنهج التجريبي كمنهج علمي
وحيد كما زعم كارناب[18]
)،
ونتيجة لتبني المنهج التجريبي أصبح منطق الكشف العلمي هو التحليل المنطقي
لهذه الطرق الاستقرائية، غير أن بوبر وضع الطرق الاستدلالية الاستقرائية
موضع سؤال، حينما أكد أنه من غير الواضح إطلاقا ما إذا كان من الصائب
استخلاص قضايا عامة من قضايا خاصة، مهما بلغ عددها،
إذ من البديهي أنه مهما بلغ عدد البجعات البيضاء التي تمت رؤيتها، فهذا لا يبرر القول بأن، كل البجع أبيض([19]).ج: حل مشكلة الاستقراء: في معرض مناقشته لمبدأ الاستقراء، يذهب بوبر إلى أن هذا المنهج لا
يتمتع بالصدق المنطقي البحت كما هو حال القضايا التحصيلية، إذ لو كان كذلك
لما كانت هناك أصلا مشكلة للاستقراء، لأن استدلالاته حينها كانت ستكون
صادقة يقينا، ولما كان يفتقر إلى هذا الصدق فإن هذا يعطي الحق في التساؤل
عن الضرورة التي تستلزم وجوده، وأيضا بصدد الأسس العقلية التي تفرض قبوله.
يرجع بوبر سبب قبول الاستقراء إلى اعتراف العلوم الطبيعة به من غير
مساءلة أو تحفظ، إلا أن هذا لا يشكل مدعاة للتمسك به وتحصينه ضد النقد، لان
واجهته السلبية وآثارها على العلم تفوق جوانبه الإيجابية، وأهم سلبياته أن
استدلالاته تقود دائما إلى ارتدادات لا متناهية وأيضا إلى تناقضات منطقية[20]،
ولم تكن هذه الاستدلالات ومبرراتها مشكلة اكتشفها بوبر، بل إن جذور مسألة
الاستقراء تمتد لتصل إلى أسلاف الوضعيين، وبالضبط إلى أحد رواد التجريبية
الكلاسيكية ديفيد هيوم، الذي يعود إليه فضل إثارة هذه المشكلة وانتقاده
لمصوغاتها ومبرراتها والتي انتهى إلى أنها قائمة على التسليم بمبدأ العلية.
أما بوبر فيعتقد أن التغلب على هذه المشكلة، لن يكون بالتخلي عن الصيغة
القوية للاستقراء، أي عن كونه أداة للوصول إلى معرفة تمتاز بدرجة من اليقين
إلى صيغة أضعف، يتحول بموجبها الاستقراء إلى أداة تمتاز معارفها بدرجة من
الاحتمال. إن هذا التحول لن يكون كفيلا بتجاوز الأزمة ومشكلاتها، لأنه لن
يستطيع حل الآثار الناجمة عن أزمة الاستقراء الأولى، والتي تظل حاضرة مهما
تغيرت المفاهيم ما بين استقراء احتمالي وآخر منطقي وآخر إحصائي، إذ أنه في
الحالة التي تعزى فيها إلى قضايا استقرائية درجة ما من الصدق الاحتمالي،
فإن تبريريها يتطلب الاستعانة بمبدأ استقراء معدل، يظل هو نفس في حاجة إلى
مبدأ يبرره، ولن يغير من المشكل شيئا أن نقول إن هذا المبدأ لم يعد هو
الحقيقة، وإنما هو مجرد احتمال، لأن المنطق الاحتمالي ككل أشكال الاستقراء
الأخرى سيقود حتما إلى تقهقرات لامتناهية
([21]) غير أن ما يثير غرابة بوبر في هذه المسألة هو وثوق النزعات التجريبية
وسليلتها الوضعية المنطقية بمبدأ الاستقراء، رغم الثغرات الواضحة التي يحفل
بها هذا المنهج، بل إن الوضعيين حاولوا تعزيزه عندما سعوا إلى تسليحه
بأداة منطقية وفرها المنطق الرمزي، وهذا هو ما جعل بوبر يتساءل عن المسوغات
التي تبرر والاستقراء، وبعد الفحص الدقيق انتهى إلى أن الاعتقاد في
الاستقرار مرده إلى الإيمان بوجود قوانين عامة تنظم الظواهر الطبيعية، أي
أنه يتأسس على الاعتقاد باطراد وقائع العالم الخارجي. لقد اعتاد الناس على
ملاحظة ظواهر تتالى في الطبيعية بشكل مستمر ودائم، فالاعتقاد في طلوع الشمس
من الشرق كل صباح يزداد قوة ورسوخا كلما استمرت الظاهرة على نفس المنوال،
بل ويعزز لدى الناس الاعتقاد في أنها ستظل كذلك في المستقبل، فإخضاع
الاستقراء بقوانينه العامة لمحكمة النقد جعل بوبر يكتشف أنه لا وجود لمبرر
واحد يسوغ الانتقال من حالات معدودة تمت ملاحظتها لصياغة قانون عام ينظم
الظاهرة ككل، بل ويتيح إمكانية التنبؤ بالكيفية التي ستكون عليها الظاهرة
مستقبلا، فحكم من هذا القبيل، ينطبق على الحالات الموجودة دون أن يتعداها
إلى ما سواها.
هكذا ينتهي بوبر إلى أن الاعتقاد في قيمة القوانين الاستقرائية ينبني
على مبادئ سيكولوجية، أهمها التكرار الذي يحصل في الظواهر الطبيعية
وتتابعها المطرد، هذا الأخير هو ما يرسخ الاعتقاد في أن الطبيعة ستظل خاضعة
لنفس القاعدة، وأن الحالات التي ستحدث في المستقبل، ستكون ولا شك مشابهة
لتلك التي حدثت في
([22]) الماضي، مما يثبت أن الحجج التي يقدمها الاستقرائيون للدفاع عن الاستقراء،
تقوم على أسس سيكولوجية، وفي هذه الحالة يصبح الاعتقاد في مماثلة الظواهر
بعضها لبعض، وتكرارها هو الحجة التي تحكم المعرفة الاستقرائية.
د: حذف النزعة السيكولوجية: ما خلص إليه النقد والفحص الذي قام به بوبر هو أن وضع حد لمشكلة
الاستقراء، يستلزم وضع حد يفصل بين سيكولوجيا المعرفة، وبين منطق المعرفة
الذي لا يهتم إلا بالترابطات والعلاقات المنطقية، لأن من أسباب استمرار هذه
المشكلة وجود خلط بين المسائل السيكولوجية والمشكلات الابستمولوجية.
إن ما يحتاجه منطق الكشف العلمي هو وضع حد فاصل بين التحليل المنطقي
للمعرفة، وبين علم النفس التجريبي، يبحث هذا الأخير في كيفية تولد المعرفة
والعوامل النفسية التي رافقت ظهورها، بينما يتجه الأول نحو البحث عن نظرية
المعرفة في حد ذاتها، إذ تقتصر مهمته على
إعادة البناء العقلاني للأفكار([23])،
ويقصد بهذا الأخير إعادة بناء سيرورة التحقق من الفكرة، أو بتعبير آخر،
إعادة البناء المنطقي للطرق التي بمقتضاها يتم الوصول إلى المعرفة دون
التساؤل عن كيفية إنتاجها، غير أن بوبر يعود ليعترف بأنه لا يوجد طريق ملكي
يوصل إلى المعرفة الخالصة بعيدا عن كل المؤثرات، لأن كل اكتشاف علمي لابد
أن يتضمن لحظة لا عقلانية أو حدسا خلاقا، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون
التحليل المنطقي للمعرفة خالصا من الشوائب السيكولوجية التي تخفي الأبعاد
الموضوعية وتطمسها.
وحتى لا يسقط منطق البحث العلمي مجددا في الطرق الاستقرائية، يلجأ بوبر
إلى تقديم مجموعة من المقترحات الكفيلة باختبار صدق القضايا، بعيدا عن
التحليل والتوضيح المنطقيين،
يؤكد أولها على ضرورة المقارنة
المنطقية بين مكونات النظرية للكشف عن اتساقها الداخلي، أما الثاني فيتعلق
بتحديد طابع النظرية، أي رؤية ما إذا كانت تحليلية أو تجريبية أو تحصيلية،
في حين يفرض الثالث ضرورة مقارنة النظرية مع نظريات أخرى، بغرض تقويم
النظرية لمعرفة ما إذا كانت تشكل كشفا علميا، وأخيرا فحص النتائج المشتقة
منها واختبارها تجريبيا([24])،
للوقوف على إمكانياتها التنبؤية، في حالة ما إذا كانت تلك التنبؤات راجحة
الصدق يتم الأخذ بالنظرية، أما إذا كشفت الاختبارات كذب تنبؤاتها فإنه لا
يبقى هناك ما يبرر الاحتفاظ بها فتصبح نظرية مفندة، وحتى في الحالة التي
يتم فيها قبول النظريات العلمية، فإن هذا القبول يظل مؤقتا، إذ أن صمودها
أمام قسوة الاختبارات يجعلها معززة، غير أن تعزيزها يظل مؤقتا، لأن إبطالها
هو قدرها المحتوم
([25]).
هكذا يخلص بوبر إلى أن مبدأ الاستقراء بسقوطه في متاهات سيكولوجية يفتقد
إلى المقومات التي تمنحه الحق في أن يكون معيارا للحد الفاصل، وإذا كان
الوضعيون قد اصطفوا معيار التحقق انطلاقا من كونه تطبيقا مصغرا للاستقراء،
وأيضا لأنه يؤمن كل متطلبات المنطق الاستقرائي، فإن نتائج فحص بوبر
للاستقراء قد انتهت إلى سلبه صفة العلمية، لأنه يؤسس لرؤية استاتيكية
للعلم، ويسعى إلى تبرير النظريات وتكريس منطق الثبات والجمود، وهذا ما
رفضته محكمة العلم التي قضت في النهاية بأن هناك تمايزا بين التحقق
والإبطال
، فألف حالة محققة لا تكفي للوصول إلى قانون عام، ولا تكفي
لتبرير القضية منطقيا، وهذه هي أزمة الاستقراء، لكن حالة رفض واحدة تحسم
القول في إبطال القانون الموجود وتفنده، مما يعني رفض الإثبات وقبول
الإبطال، والنفي هو الحكم المنطقي الذي يأخذ به العلم[26]. بعد هذا التوضيح الطويل يصل بوبر إلى تفنيد المزاعم التي تشاع عن العلم
التجريبي وخاصة سعيه إلى تأسيس منظومة من القضايا المتميزة باليقين الأبدي
([27])،
لأن هذه دوغمائية تسلطية لا تتلاءم وخصائص العلم التي يمكن إجمالها في
مقولات، التطور والانفتاح والنقد يعيدا عن المعتقدات التي كرسها الفكر
التبريري الوضعي.
هـ: قابلية التكذيب كمعيار للحد الفاصل:ساد الاعتقاد في أن المنطق الاستقرائي هو معيار الحد الفاصل، ويكافئ في
معناه مطلب البت القطعي في كل القضايا التجريبية، بحيث من المفروض عليها أن
تتخذ شكلا يسمح بالتحقق منها، غير أن ما لم ينتبه له دعاة هذا المبدأ هو
أن هذا الأخير كمعيار للحد الفاصل يأتي على كل القضايا والقوانين الطبيعة،
إلى حد أن الإبقاء على هذه القوانين لن يكون ممكنا إلا إذا ما تم استبعاد
هذا المعيار والحيلولة دون تطبيقه، ولن يكون بديله الذي يقترحه بوبر، والذي
يعتقد أنه قادر على أداء مهمة التمييز سوى معيار
" القابلية للتكذيب "، إن قيمة هذا المعيار تظهره في كونه لا يدعي قدرته التامة والنهائية على
تمييز العلم، وإنما يسعى للوصول إلى الشكل المنطقي الذي يكون بمقدوره تمييز
المنظومة العلمية، وهو أن تكون هذه المنظومة قابلة من حيث المبدأ للإبطال،
يقول بوبر بهذا الخصوص
"إنني لن أقبل نسقا على أنه علمي واختباري
إلا إذا كان ممكنا اختباره عن طريق التجربة، وتنطوي هذه الاعتبارات على أن
قابلية هذا النسق للتكذيب، لا قابليته للتحقق هي التي تؤخذ كمعيار للتمييز"
([28]) لقد جعل بوبر من مبدأ القابلية للتكذيب معيارا للتمييز بين العلم
الاختباري وبين المنظومات النظرية الأخرى التي لا تقبل الاختبار، كالمنطق
الرياضيات والميتافيزيقا، ويعود اختيار التكذيب كمبدأ للعلم إلى أن هذا
المنهج يعد محركا دائما يدفع العلم في اتجاه الكشف عن أخطائه، إذ من خصائصه
أنه لا يتوقف عن النمو والتطور، وكل تصور علمي أو فلسفي يتوقف عند نظرية
ما، زاعما أنها صادقة يقينا يحكم على نفسه بالبقاء خارج حظيرة العلم، فلا
إثبات ولا جمود في المعرفة الإنسانية، كما أن غاية العلم لم تكن في يوم من
الأيام الوصول إلى نظريات صادقة، لان كل إبطال لنظرية ما يعد نصرا للعلم
وتقدما له إلى الأمام، وهذا التطور لا يتأتى عبر تحصين النظريات وتبريرها
وتأييدها بالشواهد التي توفرها الطرق الاستقرائية، وإنما يتم من خلال الكشف
عن مواطن خطئها لإزاحتها، هكذا يكون معيار القابلية للتكذيب خير معبر عن
الروح العلمية المتطورة
([29]).
إنه لما كانت النظريات العلمية تتصف بعمومية غير محدودة، فإنه لا يمكن
تبريرها بالاعتماد على أمثلة متناهية محدودة، بل إنه لا حق لهذه النظريات
حتى في تبرير احتمالي، لأن هذا التبرير سيقود إلى ترسيخها وتثبيتها، ولما
كانت غاية العلم هي الاقتراب الدائم من الصدق، فإن هذا لن يتم بتبرير
النظريات وتحصينها، وإنما بتجاوز، أخطائها وتكذيبها ونفيها، فالطريقة التي
بموجبها تنمو المعرفة العلمية وتتطور تمر عبر وضع توقعات أو تخمينات غير
مبررة طبعا، تقدم كفروض لحل المشاكل العلمية التي عجزت النظرية السابقة عن
حلها،[ وفي هذا تخل عن الاستدلالات الاستقرائية التي تجعل من الملاحظة نقطة
لانطلاقتها] ويتم إخضاع هذه الفروض إلى اختبارات قاسية تمكن من إبعاد
أغلبها، ولا تبقي إلا على تلك الفروض التي تصمد أمام النقد، فتبرر بذلك
قدرتها على تجاوز بعض تلك المشكلات، ومع ذلك تظل في مواجهة الاختبارات التي
لا تلبث أن تكشف عن محدوديتها فيتم تكذيبها فاسحة المجال مجددا أمام
نظريات أخرى، مما يعني أنه لا يسمح في العلم بتقرير صدق نظرية ما وإعطائها
صلاحية واسعة وقدرة كبرى على حل المشاكل دائما، تنمو المعرفة العلمية كلما
تم التحول من مشكلة إلى أخرى وتكذيب نظرية قائمة، فقدر العلم يقضي بأن تفنى
النظريات العلمية بنفس السرعة التي تولد بها، إذ
كل انهيار لنظرية ما([30]) ليس خسارة للعلم، بل هو نصر له، لأنه يدنو من الصدق.من هذا المنطلق يتضح أن معيار القابلية للتكذيب يرتبط على نحو وثيق
بمسألة نمو المعرفة التي يعتبرها كارل بوبر لعبة لا تتوقف ولا تحدها حدود،
ومن يعتقد أنه وصل إلى حقيقة ما يضع نفسه خارج اللعبة
([31]).
إن العلم يقوم على نفي ذاته كأنه الثعبان الذي ينزع عنه جلبابه كلما آن الأوان لذلك،
هكذا يتبنى بوبر منطقا للكشف العلمي يأخذ بموجبه بالتصور التطوري كطابع
مميز للمعرفة العلمية، وذلك ضدا على المنظور التراكمي الذي كرسه الفكر
الوضعي التبربري
([32])، فالمسار الذي يسلكه العلم دائما في نظر بوبر يتبع الخطاطة التالية:
المشكلة الأولى => محاولة الحل => انتقاد الحل=> المشكلة الثانيةينطلق العلم عادة من مشاكل عالقة، يقترح فروضا بغاية حلها، وفي هذه
العملية يقوم بتصحيح ذاتي مستمر، وكل محاولة لاستبعاد الخطأ من الفرضيات
تؤدي إلى مشكلة جديدة، في ظل هذه العملية لا يمكن التوقف عند لحظة معينة
كنهاية للعلم، لهذا يظل هناك استعداد دائم لتقبل النظريات الجديدة وإخضاع
القائمة لأعنف الاختبارات بغرض إبطالها ونفيها.
هكذا يكون بوبر قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن مبدأ القابلية
للتكذيب هو المعيار القادر على مسايرة التحولات العلمية التي بدا له أن
مبدأ التحقق ومعه منطق الاستقراء لم يعودا قادرين على استيعاب تغيراتها
ومواكبتها، لهذا يحتاج هذا المعيار إلى وقفة متأنية لمعرفة تطبيقاته،
وللوقوف أيضا على التمييز الذي خطه بوبر بين معيار القابلية للتكذيب
والتكذيب والتعزيز كمستويات تمر منها النظرية العلمية.
و: التمييز بين قابلية التكذيب والتكذيب: يميز كارل بوبر بين القابلية للتكذيب وبين التكذيب، يحدد الأول الخاصية
العلمية للنظرية فقط، بينما يكون التكذيب حكما على النظرية وتقييما نهائيا
لها، وبالتالي تجاوزها إلى فرض جديد، إن قيمة التكذيب تكمن في أنه هو من
يتيح إمكانية الحكم على نسق ما بأنه قد تم إبطاله وتحقق فشله في ظل شروط
معينة، فالنظرية العلمية تكون مبطلة ومفندة إذا ما كانت هناك قضايا
تناقضها، قد حصل تعزيزها ونجحت في الاختبارات
([33])،
بتعبير آخر، يحكم على نظرية ما بالتكذيب، إذا لم تستطع التنبؤات المستنبطة
منها الصمود أمام الاختيارات التجريبية، وما دامت هذه التنبؤات جزءا من
النظرية، فإن الحكم ببطلانها يتجاوزها ليبطل النظرية ككل، إلا أن ما يستفاد
من هذه العملية المستمرة التي يقوم بها التكذيب هو أنه في كل مرة تبطل
فيها نظرية ما يتقدم العلم إلى الأمام، ويزيد من توسيع مدركاته وآفاقه، لأن
النظرية القادمة ستتلافى أخطاء الأولى، وستكشف عن مشكلات جديدة ستودي بها
حتما
([34]).
أما بخصوص القابلية للتكذيب فإنه معيار يميز المنظومات النظرية
الإختبارية عن تلك المنظومات الأخرى التي لا تقبل الإبطال، أي يميز ما بين
العلوم التجريبية التي تقبل الاختبار بطبيعتها لأنها تقول ما يمكن اختباره
تجريبيا، وبين الأنساق الأخرى التي لا تقبل قضاياها أشكال الاختبار
التجريبي، كما هو حال الرياضيات والمنطق وأيضا الميتافيزيقا
([35])، فالنسق
العلمي كلما كان أكثر قابلية للتكذيب والنفي، كلما كان أكثر قربا من
الواقع، لأن قضاياه تخبر بشيء عن الواقع، من هنا يرتبط معيار القابلية
للتكذيب بالمحتوى المعرفي للنظرية المختبرة، فكلما كانت النظرية ذات حمولة
معرفية واسعة كلما كانت إمكانية إبطالها سريعة أيضا، لهذا يعول بوبر على أن
تكون فئة مكذبات النظرية غير فارغة، لأن ذلك يضمن للنظرية سمتها العلمية
ويزيد من تأكيد إمكانية إبطالها يوما بغية الكشف عن نظرية أوسع منها.
من هنا يتحدد العلم بأنه مجموع النظريات التي تقبل التكذيب، حتى لو لم
يكن قد تم إبطالها، إذ أن معيار علميتها هو أن تكون قابلة من حيث المبدأ
لأن تبطل، غير أن ما يساعد في هذه الاختبارات المستمرة على إبطال نظرية ما
هو ما سماه بوبر بالعبارات الأساسية، فما المقصود بها؟ وما دورها في منهج
العلم كما تصوره بوبر؟
ز: العبارات الأساسية: يعرف بوبر القضايا الأساسية بأنها قضايا اختبار
([36])،
يتحدد دورها في الحاجة إليها لتقرير قابلية النظرية للإبطال ومدى كونها
تجريبية، بالإضافة إلى الحاجة إليها في تعزيز أو إبطال النظريات العلمية،
إن فكرة العبارات الأساسية ترتد أساسا إلى أنه لما كانت اللغة واسطة بين
الإنسان أو الذات العارفة وبين الموضوع المعروف، فإنها قد تكشف بوضوح عن
خصائص الموضوع، وقد تسقط في تعتيمه وتشويهه، ولما كان العلم يعبر عن نفسه
ضمن قوالب اللغة العادية أو الطبيعية، فإن بوبر يعتبر مكونات هذه اللغة
الطبيعة السبيل الوحيد للكشف عن بطلان النظريات أو رجحان صدقها، لأنها
تتحدث عن الواقع الذي يمكن العودة إليه لمقارنتها به، من هنا تمثل العبارات
الأساسية الدعامة التي يقوم عليها مبدأ القابلية للتكذيب، لأنها عبارات
تحيل على أشياء واقعية يمكن ملاحظتها، مما يتيح إمكانية التقرير في قبولها
أو عدمه
([37]).
يحدد بوبر لهذه القضايا الأساسية مجموعة من الخصائص أهمها:
1- من قضية عامة لا يمكن استنباط قضية أساسية دون شروط، لأن
العبارة العامة وحدها لا تسمح بوقائع قابلة للملاحظة، لهذا لا يمكن أن
نستنبط من القضايا العامة من دون شروط إلا قضايا تحليلية، وهذه الأخيرة ما
دامت عبارات تحصيلية فإن هذا لا يتيح لها بأن تكون فئة عبارات اختبارية أو
مبطلات للنظرية القائمة، لأنها لا تعترف بمنطق زماني أو مكاني.([38])2- يمكن للقضية العامة والقضية الأساسية أن يناقضا بعضهما البعض، هذان
الشرطان لا يتوفران إلا في القضية الوجودية الشخصية التي تقوم على تحديد
عيني لما تخبر به، بينما لا تستطيع القضايا العامة أن تنتج ما يقبل
الملاحظة.
3- القضايا الأساسية هي التي تؤكد وقوع حادث في موضع ما يمكن ملاحظته،
غير أن هذا لا يعني أن بوبر يأخذ بالقضايا الأساسية على أنها تسجيلات لخبرة
ما، كما أن مصدر هذه القضايا الأساسية ليس الخبرة الحسية المباشرة، بل
يقرر بوبر بصورة أدق أن كل قضية أساسية تحيل على الأجسام الطبيعية
([39])،
أو أن تكون مكافئة لقضية أساسية من النوع المادي، وهذا التكافؤ يكون علميا
مرتبطا بحقيقة أن النظرية التي تكون قابلة للاختبار بشكل أقوى تكون علمية،
وينجم عن ذلك أن الفرضية المختبرة إذا تكافأت مع النظرية التي نجحت في
الاختبارات سابقا تستحق أن ترقى إلى مستوى العلمية.
أما الدور الذي تقوم به العبارات الأساسية والذي يمكن الكشف عنه من خلال
الحديث عن شروطها في النظرية الإبستمولوجية كما تصورها بوبر، فهو تقريرها
لما إذا كانت النظرية أو المنظومة تنمي إلى مجال العلم الاختباري أم لا،
وأيضا لتعزيز الفروض وإبطالها
([40])،
إنها الأساس الذي تنبني عليه معايير بوبر الثلاث (القابلية الإبطال،
والإبطال والتعزيز)، وتتميز هذه العبارات الأساسية بتمتعها بالطابع
الموضوعي البحث لأنها ليست سوى استنباطات من قضايا ومن نظريات حازت لقب
العلمية بعد نجاحها في الاختبارات سابقا، لهذا يقول
بوبر: "لاشك أنه يبدو الآن، بعد كل هذه المراحل الدقيقة، بأنني لن أسمح للنزعة السيكولوجية، بالتغلغل داخل نظريتي[41]"،
غير أن الحديث عن موضوعية هذه العبارات تستلزم منا وقفة قليلة عند فكرة
موضوعية المعرفية التي كانت هاجسا يقلق بوبر، والتمييز الذي خطه بين
المعرفة الذاتية والمعرفة الموضوعية.
ح: الموضوعية العلمية والاقتناع الذاتي: يميز كارل بوبر بين نوعين من المعارف، يسمى النوع الأول بالمعرفة
الذاتية، بينما يعرف النوع الثاني بالمعرفة الموضوعية، يقصد بالأولى تلك
الأفكار التي تحضر فيها النوازع الذاتية والأهواء الخاصة التي تسلبها صفة
الموضوعية، وتطبعها بطابع التعدد والتغير بتغير معتنقيها من الناس، إذ أن
لكل واحد تمثلاته ومصالحه التي تؤطر رؤيته لأي مسألة، وهذا التعدد هو ما
يبعدها عن مجال العلم ويبقيها ضمن إطار المعارف السيكولوجية، ولما كانت
تتأسس على الشعور الذاتي بالاقتناع فإنها لن تكون قادرة على تبرير قضية
علمية، ومن ثم لن تؤدي دورا في العلم
([42]).
أما النوع الثاني من المعارف فهو الموضوعي، وهي صفة لا تنسحب إلا على
كل نظرية لا تهتم إلا بالمعرفة المحضة، منزوعة من كل ما له ارتباط بالأسس
السيكولوجية والتمثلات الذاتية، وهذا هو ما يجعلها الأساس الحقيقي للعلم،
لأن ما يهم العلم ليس البحث في أسباب تشكلها أو التساؤل عن العوامل التي
هيأت ظهورها مهما كانت طبيعتها، لأن هذه تساؤلات ومشكلات علم النفس المعرفي
فقط، كما أن الخوض في هذه المشكلات سيقود حتما إلى مبررات لا تهم العلم
ولا تفيد في تقدمه، إن العلم لا يعترف إلا بما هو موضوعي صرف، ولما كانت
غايته هي البحث الدائم عن الصدق والحقيقة، فإن وظيفته المحايثة هي إقصاء
الخطأ، من هذا المنطلق كان نفي النظريات هو المحرك الحقيقي للعلم، ولما كان
الوصول إلى الصدق أمرا بعيد المنال، فإنه لا يتبقى للعلم إلا نشدان الوصول
إليه والسعي إلى الاقتراب الدائم منه،
"إن الصدق المطلوب أشبه ما
يكون بقمة جبل يغطيه ضباب كثيف يحجب الرؤية، ويجعل مهمة تمييز قمة ذلك
الجبل المنشود أمر صعبا، بل ومستحيلا، لهذا لا يمكن لمن طلبها أن يصلها، قد
يصل إلى قمم جانبية ويعتقد أنه بلغها فعلا، لكنه سيكون واهما، على أن بلوغ
القمة أو عدم بلوغها لا يؤثر في وجودها فعلا([43])"، هكذا ينمو العلم ويتطور موجها بنشدان الصدق، إلا أنه يظل عاجزا عن الجزم بأنه بلغه فعلا، فإثبات الصدق اليقيني مستحيل في العلم.
ط: بوبر والعوالم الثلاثة:وإذا كانت المعرفة العلمية تتمتع بهذه الموضوعية فما هو مكانها الحقيقي؟
إجابة عن هذا السؤال، يميز بوبر بين ثلاثة عوالم، أولها العالم المادي
وثانيها العالم الذاتي، بينما يعرف الثالث بأنه العالم الموضوعي، يضم
العالم الأول، كل المكونات المادية من أشياء وذوات.. أما العالم الذاتي
فيتكون من الخبرات الشعورية والخيالات والميول نحو الفعل، إنه عالم
التمثلات الذاتية، وأخيرا يتكون العالم الثالث أو الموضوعي من الأفكار
والنظريات العلمية والمعاني والكتب والمتون
([44])…
يتميز العالم الموضوعي بأنه عالم مستقل عن الإنسان رغم أنه هو من يخلقه،
وهذه النقطة هي ما يميزه عن عالم فرجيه الذي اعتبر أنه عالم مستقل لا يخلق،
لأنه موجود مسبقا، وإنما يكتشف، يتميز العالم الثالث البوبري عن عالم
أفلاطون المثالي بكونه لا يعيش حالة من السرمدية والثبات، بل إنه دائم
التحول والتغير والنمو، مما يجعله ملائما للمعرفة العلمية، ويميز بوبر داخل
هذا العالم بين نوعين من الموجودات، يشتركان في أنهما معا مخلوقان
ومصنوعان من طرف الإنسان، لكن ما يميزهما عن بعضهما هو أن بعضا منها صنع
بغرض وقصد إنسانيين، بينما خلق الآخر نتيجة صدفة ثانوية، تضم المعارف
المقصودة كل المجالات العلمية التي يبحث فيها الإنسان، من علوم
ونظريات وحضارات، أما الثانوية، فهي التي انبثقت بمحض إرادتها دون قصد
إنساني، إلا أنها اكتست صبغة كبرى من الأهمية قد تفوق فيها ما صنع بغاية
قصد، ولا تظهر قيمتها إلا بعد خلقها
،[ كالطرق الغابوية التي تسلكها
الحيوانات صدفة فيظهر لها أنها أكثر أمانا وأقل مسافة من تلك التي ألفت أن
تسلكها قبلا، فتصبح أهم من الأولى]([45]) إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، يتعلق بالطريقة التي تجاوز عبرها
بوبر مشكلة قوله باستقلالية ا