العـدل الإلهـيالكُتّاب: عباس نور الدين/ إبراهيم دهيني/ شوقي محي الدين/ أحمد صفي الدين
العدل من الصفات الإلهية العظيمة التي أفرد لها بحث خاص ومنفصل عن بحث باقي
الصفات لما لها من الأهميّة الخاصّة بسبب اختلاف المسلمين في تفسيرها أو
حتى الإيمان بها. فقسم آمن بالعدل الإلهي ولكنه فسَّره بحيث يؤدِّي تفسيره
إلى إنكاره بالأصل. وقسم آخر لم يصل إلى الفهم الواقعي لحقيقة العدالة
الإلهية. وهناك طائفة جعلته أصلاً من أصولها الإعتقادية حتى عرفت هذه
الطائفة أحياناً بالعدلية. وذلك لتأثير الإعتقاد به على سائر الأصول
الدينية، بل وحتى الفروع العملية ولتأثيره المباشر على سلوك الإنسان
وعلاقته بالمصير.
وكلمة العدل في اللغة تناقض معنى "الجور" الذي هو الميل عن الصراط
المستقيم، وتقف في مقابل "الظلم" الذي يعني وضع الشيء في غير مكانه.
ولهذا قيل: "العادل هو الذي يضع كل شيء في موضعه"، وقد قال أمير المؤمنين (ع) في شرح معناه: "العدل يضع الأمور مواضعها".
وبالإلتفات إلى مفهوم العدالة، يتضح معنى العدل المنسوب إلى الله عزّوجلّ،
"فالإنحراف عن الصراط المستقيم" و"وضع الشيء في غير موضعه"، وبإختصار:
الظلم أو الجور إنّما يصدق على الجاهل أو الناقص الذي يريد أن يجبر أو يسد
نقصه.
أمّا في مورد الخالق القادر المتعال والعالم بكل الأشياء والأسرار وهو
الغني المطلق اللامتناهي الذي لا نقص فيه، فلن يكون لهذه الأمور مصداق
واقعي.
فبالنسبة للوجود المطلق اللامحدود في كل شيء والذي لا يتطرّق إليه النقص
أبداً، لن يصدق غير مفهوم العدل الذي يخالف كل أشكال الإنحراف والتمايل
والبُعد عن الصراط المستقيم.
فإذا تبيّن المفهوم الإصطلاحي للعدل، لزم علينا أن نُبيِّن عدّة نقاط تُطرح
عادة في مورد العدل الإلهي لنكمل بذلك التصوّر العام عن هذا الموضوع:
الأولى: عدالة الله في الخلق والتكوين.
الثانية: عدالة الله في التشريع والتقنين، أو في الحكم والقضاء، وفي الثواب والعقاب.
وأيضاً ينبغي أن نفهم منشأ "أصل العدل"، ولماذا أصبح جزءاً من أصول الدين،
وفي النهاية نعرج على حل بعض الشبهات التي تطرح عادة في هذا المجال.
- عدالة الله في التكوين والتشريع:
قال رسول الله (ص): "بالعدل قامت السماوات والأرض".
وفي إصطلاح علماء العقيدة، يعني أنّ الله قد خلق عالم التكوين على أساس
العدل، وأرسل الأنبياء والرُّسُل ووضع القوانين والشرائع على أساس العدل
أيضاً، وهو يحكم ويقضي ويثيب ويعاقب على أساسه. وبناءً على هذا، فـ"العدل"
في النظام التكويني يعني أن كل شيء خلق في مكانه اللائق والمناسب له. وفي
عالم التشريع، فإنّ كل الأوامر الإلهية إنّما جعلت لصالح الإنسان وهي تنسجم
مع فطرته وتؤدي إلى رشده وتكامله ووصوله إلى سعادته الحقيقية.
ويعني أن كل إنسان إنّما سوف يُثاب أو يُعاقب على أعماله التي ارتكبها
بموجب الموازين الإلهية الحكيمة "ولا يعني أنّ زيادة الثواب خلاف العدل،
ولكن العقاب الزائد عن الحد هو خلاف العدل".
وفي مورد العدالة في نظام التكوين، لا نحتاج إلى كثرة بيان لأنّ الإنسجام
والنظام الدقيق والعجيب الذي يحكم العالم (كل شيء في موضعه) قد حيّر وأهل
جميع العلماء بحيث صار اكتشاف هذه القوانين باعثاً على الفخر والإعتزاز:
"وفي هذا العالم، فإنّ كل الأشياء موجودة بحيث أنّنا لو نقصنا شيئاً واحداً
منها أو زدنا عليها لأثّر ذلك في كل الروابط والأنظمة، ولتبدّل هذا العالم
إلى شيء آخر تماماً".
إنّ كل شيء في هذا الكون، من أنظمة الطبيعة وحياة الحيوانات وعوالم
النباتات واختراعات البشر، يحكي عن وجود بديع ودقيق قائم على أساس عدل
خالقه ومبدعه.
وأمّا العدل في التشريع: وهو سنّ القوانين العادلة وتبليغها بواسطة الأنبياء (ع)، فإنّه واضح أيضاً.
ففي بحث خلق العالم، عرفنا أنّ الخالق لم يكن محتاجاً في فعله عندما أوجد
العالم، وإنّما خلق الإنسان لأجل أن يصل إلى السرور واللذّة والكمال، ولهذا
أمره بالإلتزام بالشريعة والقانون عبر الأنبياء. فإرسال الرُّسُل وتشريع
القوانين إنّما هو مطابق للعدالة والحكمة، لأن للمخلوق سلسلة من الإحتياجات
ينبغي أن يُبيِّن الخالق سبل الوصول إليها.
فهو لا يجبرهم على فعل، ولا أنّه تعالى يظلمهم في تشريع القوانين
والواجبات، وقد قال رسول الله (ص): "ما عرف الله من شبّهه بخلقه ولا وصفه
بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده" (البحار/ ج3).
وقال الإمام الصادق (ع): "إنّ الله عدل، ليس فيه جور".
وبالنسبة للثواب والعقاب، يمكننا أن نصل إلى الحقيقة من خلال التأمل في هذه
الأمور: وهي أنّ في ساحة الوجود المطلق والكمال اللانهائي لا معنى لمعاقبة
المخلوق بدون سبب وبدون فائدة. إذاً، الإنسان هو الذي يُسيء استخدام
اختياره، ويوقع نفسه في العقاب. وخاصة إذا علمنا أنّ العقاب ليس إلا تجسم
أعمال العباد.
جاء في القرآن الكريم: (إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) (النِّساء/ 4)، (قل
متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) (النِّساء/ 77)،
(إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً) (يونس/ 44).
وفي الخطبة 185 من نهج البلاغة نقرأ: "وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه".
وهكذا فإنّنا نؤمن بعدل الله في تشريعه من خلال فهم هذه الحقيقة وهي أنّ
الله عزّوجلّ بعد أن منح الإنسان حرّية الإختيار (وهديناه النجدين) (البلد/
10)، بَيَّن له طريق الوصول إلى سعادته الحقيقية وكماله اللائق له عبر
الإلتزام بخط الأنبياء وتعاليم الشريعة الإلهية، هذه الشريعة التي تنسجم في
تفاصيلها مع خلقته وفطرته التي فطر عليها.
- لماذا العدل من أصول الدين؟
يسأل البعض لماذا صار "العدل" أصلاً من أصول الدين عند الشيعة؟ أليس العدل من صفات الله؟ فلماذا يميز عن باقي الصفات؟
في الإجابة عن هذا السؤال هناك ثلاثة آراء:
1- اعتقد بعض العلماء أنّ أساس نشوء هذا البحث يعود إلى المسائل السياسية،
وقال: إنّ هذا البحث وصل إلى أوجه في عصر العباسيين. فالحُكّام عندما
ارتكبوا الجرائم الفظيعة وغاصوا في المنكرات وهم في سدة الخلافة، وعلموا
أنّ هذا لا يتناسب مع ادّعاء خلافة الرسول (ص)، اخترعوا هذا البحث وروّجوه
بين الناس في أنّ الله تعالى عدل في كل ما يفعله، ووصولنا إلى هنا إنّما هو
بفعل الله وإرادته، أي أنّ حكمنا هو عين العدل. وهؤلاء الذين اعتقدوا أنّ
لهذا البحث أصلاً سياسياً يبنون وجهة نظرهم على أنّ فكرة عدالة الله وعدم
ظلمه كانت واضحة وبديهيّة في عصر الرسول بين المسلمين، وقد وردت في القرآن
الكريم والروايات الشريفة كثيراً، ولهذا فلا يمكن أن تنشأ وتأخذ هذا المنحى
من التوسُّع بدون أغراض سياسية.
2- أمّا البعض الآخر فاعتقد أنّ هدف الخلفاء من إيجاد هذا البحث إنّما هو
لإلهاء الناس بقضايا ثانوية وإبعاد أنظارهم عن الحُكّام وأفعالهم، ومن هنا
أصبح العدل أحد أصول الدين الإسلامي.
3- وآخرون قالوا بأنّ طرح هذا الأصل كأحد الأصول الأساسية للمذهب وتأييده
وتقريره من جانب الأئمة (ع) لا يمكن أن يكون بلحاظ الجوانب السياسية فقط،
وإن كان للوضع السياسي دخالة أيضاً، وإلا لكان الأئمة (ع) يأمرون بحذفه من
أصول المذهب بعد هدوء غبار المعارك السياسية لأن مثل أبحاث الجبر والتفويض
والهداية والضلالة ونظيرها كانت في عصر الأزمات السياسية ومع ذلك لم يجعلها
الأئمة (ع) أصلاً من أصول المذهب مع أنّهم قدّموا الرأي الواضح والصريح
بشأنها.
وكما ذكر فإنّ الإعتقاد بالعدل الإلهي إنّما أصبح أصلاً من أصول الدين
لإرتباطه الكبير بأمّهات مسائل الدين. وأنّ عدم الإعتقاد به يزلزل رسوخ
الإنسان في الإيمان، ويؤدِّي به إلى إنكار الأهداف الأصيلة لبعث النبوات
ووجود المعاد والحساب.
المصدر: كتاب أشجار السعادة