"بانوراما" التنمية البشرية المستدامةتتشكّل
أهم مكوّنات نهج التنمية البشرية المستدامة من مجموعتين مترابطتين هما:
الخيارات الأساسية والمساندة، والمرتكزات الأساسية والمساندة.
وتتضمّن مجموعة الخيارات "تطلّعات" البشر ومستحقّاتهم في الحياة.
بعبارة أخرى، تمثل هذه الخيارات التعبير المتجسد لمبدأ عالمية الحق في
الوجود المناسب، أي الأهداف التي يسعى البشر رقياً إلى تحقيقها. إنّها رؤية
ما يجب أن يكون، فتصبح بذلك غاية.
أمّا المرتكزات، فهي بمثابة "القنوات" التي من خلالها يمكن أن تتم بلورة
التطلع المعبِّر عن الأمل إلى برامج عمل تظهر كيفية تحقيق التطلعات
المنشودة، وتلك هي وسيلة بحكم طبيعتها ووظيفتها.
ورؤية كلية إلى مكوّنات النهج، تبرز بوضوح أن ثمة سمات لها حيوية:
1- إنّ عناصر هذه المكوّنات تجيء في غاية التشابك والتداخل في ما بينها.
وتلك خاصية مكينة فيها تعزز من وحدة بناء النهج، وتؤكد حيوية وتفاعل
مكوّناته.
2- لا ينطلق مفهوم التنمية البشرية من قاعدة نموذج مسبق، إنّما يستقي
إلهامه من أهداف المجتمع البعيدة المدى. وهذا وضع يفرض بدوره إستمرارية
التطور والتطوير لمكوّنات النهج إنسجاماً وإستجابة للمتغيرات الإجتماعية
والإقتصادية والسياسية المستمرة التي تحصل في المجتمع.
3- انعكست السمة التطوّرية التطويرية هذه بصدق أيضاً على الطريقة التي
تراكمت فيها مكوّناته في تتابع عرضها في تقارير التنمية البشرية الدولية.
فبإستثناء الخيارات الأساسية التي بقيت قائمة في البناء الكلي للمفهوم منذ
بداياته، خضعت عناصره الأخرى إلى عملية مستمرة من التغيير والإنضاج خلال
السنوات منذ الإصدار الأوّل للتقرير. فقد حصل فيها تطور أُفقي وعمودي واضح،
إضافة إلى تعميق الإدراك والتحليل. كلّ ذلك بدوره قد أدّى إلى جعل إمكانية
تحديد دقيقة لكلية عناصره مسألة صعبة، ولكنها صعوبة متوقعة ومطلوبة حفاظاً
على فاعلية النهج واستمرارية حيويته ومسيرة تدفقه.
1- الخيارات الأساسية
تتكوّن هذه الخيارات من ثلاثة عناصر: حياة طويلة، والتعلّم والمعرفة،
ومستوى معيشي لائق. ومنطلق هذه الخيارات يرتبط مباشرة بجوهر النهج. فإذا
كان هذا الجوهر يعبِّر عن "ثنائية" بناء متلاحم في طرفيه، وهي خلق القدرات
البشرية ورصانة فرص استخدامها، فإنّ الخيارات الأساسية تنبع بدورها من
القدرات ذاتها وتعزِّزها: فهدف التنمية البشرية المستدامة في هذا المجال
يتضمّن جعل الإنسان:
* متمكناً مادياً، عن طريق تحقيق نمو إقتصادي وعمالة منتجة توليداً للدخل.
* مدركاً عقلياً، بتأكيد حيوية التعلم والمعرفة.
* قادراً صحّياً، لضمان حياة فاعلة وطويلة.
ونتيجة لذلك، يجيء النهج قوياً في زخمه في مواجهة ظروف المعاناة البشرية
لما تشكِّله من تطويق لقدراتها. فهو ضدّ معاناة البطالة والفقر، لأنّها
توقف مصدر الرزق وتهين الكرامة الإنسانية. ويواجه المرض لما يؤديه من إضعاف
للفاعلية والحيوية. ويحارب الأُمّية لأنّها تفقد الإنسان ملكة الإدراك
والبيان. وفي هذا السياق، تمّ إعداد (دليل التنمية البشرية المركزي) من
المكوّنات ذاتها التي تمثلها هذه الخيارات الأساسية، تأكيداً لموقع
الأولوية التي تحظى بها هذه الخيارات في بناء النهج.
2- الخيارات المساندة
تتضمّن هذه الخيارات الحرّية، وحقوق الإنسان، ثمّ الكرامة الإنسانية
واحترام الذات، وهذه قيم إنسانية عليا ولاريب. ولكنها، إذ هي تمثل بديهيات
في الخطاب، تبقى سهلاً ممتنعاً في الجواب. فالوقائع تشهد على حقيقة مشبعة
بـ"التناقض البنائي" بين عرضها الدافع وتنفيذها المانع. ففي الوقت الذي
يصعب فيه إيجاد مَن يختلف في أهميّة هذه القيم وضروراتها، نجدنا أمام
تحديات بالغة في التوصل إلى قناعات مشتركة وآليات فاعلة تحوِّلها من مستوى
التجريد إلى حيّز التجسيد. وذلك ظرف يشكل تناقضاً محورياً لغالبية الأنظمة
السياسية والإجتماعية والإقتصادية القائمة، وبالتالي محنة ماحقة لبشرها.
3- المرتكزات الأساسية
تغطّي هذه قضايا الإنصاف والتمكين والإستدامة والتضامن الإجتماعي والأمن:
- الإنصاف:
من وجهة نظر نهج التنمية البشرية، يرد مفهوم الإنصاف أكثر سعة وأكثر
امتداداً من مجرد حدود الدخل أو الثروة. فرؤية النهج تؤكد أنّ الإنصاف
ينبغي أن ينطلق من أطر القدرات والفرص المتاحة. وبناءً عليه، فإنّ من حقّ
كلّ شخص أن يحقق خياراته الإنسانية كحق قائم. بعبارة أخرى، إنّ غياب
الإنصاف من شأنه أن يلغي خيارات الناس، وبالتالي تطويق إنسانيتهم في
الصميم.
- التمكين:
يعتمد التمكين أساساً على توسيع قدرات الناس دافعاً إلى تعزيز خياراتهم،
وهذا بدوره يأتي داعماً لإنفتاح آفاق حرّيتهم. ولكن هذا يبقى مرهوناً
بمستوى القدرات، حيث تأتي العلاقة طردية في كلا الإتجاهين. من ناحية ثانية،
فإنّ فاعلية التمكين تتعاظم مع درجة المساهمة في اتخاذ القرارات التي من
شأنها أن تحوّل الأفراد من مجرد منتفعين إلى مشاركين في عملية خلق وزيادة
قدراتهم.
- الإستدامة:
تستهدف الإستدامة ضمان حاجات الجيل الحالي دون الإضرار بحاجات الأجيال
القادمة. وهذا يتضمّن بالضرورة تأكيداً لمبدأ الإنصاف بين الأجيال.
والمقصود بتتابع احتياجات الأجيال وتداخلها بصورة متوازنة ومستمرة لا ينحصر
في إطار ما ينقل من تراكم الثروات الإنتاجية، إنّما يشير إلى مستوى معيّن
من التنمية البشرية. فالمستهدف من الإستدامة هو فرص الناس المتضمنة حرّية
ممارساتهم لقدراتهم الأساسية.
- التضامن الإجتماعي:
الأفراد مخلوقات إجتماعية جبلت على العيش في مجتمع بشري، ممّا يقتضي على
كلّ منهم المشاركة والتعاضد في إدارة شؤون الحياة. وهذا الأمر من شأنه أن
يساهم في تعميق الشعور بالإنتماء، ويضيف بالتالي الغبطة إلى المشاركة
المجتمعية الهادفة. وعلى هذا الصعيد، تبرز بوضوح العلاقة الوثيقة بين
التنمية البشرية والثقافة، استناداً إلى واقعة أنّ الشعور بالتعاضد
والتضامن الإجتماعي ينبع منطلقه من الثقافة والقيم والمعتقدات المشتركة،
تلك التي تشكِّل السلوكية الفردية باتجاه التنمية البشرية. والخيارات
البشرية تتعاظم، ولا ريب، كلّما كانت حلقات التضامن الإجتماعي أوسع وأكثر
فاعلية.
- الأمـن:
والمقصود هنا ليس الأمن النابع من الخوف من التهديد الخارجي، بل هو مفهوم
جديد محوره الأمن البشري بكل جوانبه. إنّه الأمن الإقتصادي والغذائي والصحي
والبيئي والشخصي والسياسي وأمن المجتمع المحلي. وهذه الرؤية الواسعة
لمفهوم الأمن تحتوي على العديد من الأبعاد المهمّة:
* إنّ ارتباط هذا المفهوم بنهج التنمية البشرية المستدامة عميق وعضوي:
إنّها علاقة بين الجزء والكل. فالمفهوم الأوسع بالنهج يحتوي خصوصيته الأمن
البشري، الذي يؤكد بدوره أن يكون باستطاعة الناس أن يمارسوا اختياراتهم في
مأمن وبحرّية تدفعهم فيها الثقة بأنّ الفرص المتاحة التي يمتلكونها اليوم
لن تضيع غداً، بل يمكن حتى تعظيمها.
* بهذا المعنى، فهو مفهوم تكاملي يعترف بشمولية مطالب الحق في الحياة، ومترسّخ في فكرة التضامن بين الناس، وهو يشملهم جميعاً.
* إنّ مكوّنات الأمن البشري في شديد ترابطها يتوقف كلّ منها على الآخر، وجوداً وفاعلية.
* تقسم العوامل المهدَّدة للأمن البشري إلى محلية وعالمية في تعدُّد مصادرها وتنوّعها.
4- المرتكزات المساندة
يجتمع أهمّ المرتكزات المساندة في الإنتاجية وتجنيس التنمية والمشاركة والحاكمية:
- الإنتاجية:
تتضمّن ضرورة تمكين الناس من زيادة إنتاجيتهم، ومن المشاركة الكاملة في
عملية توليد الدخل، وفي العمالة بأجر. والإنتاجية بهذا المعنى تحتوي على
بُعدين: نوعي في العطاء، وحق في الإنتماء. في الجانب النوعي يأتي تأكيد
كفاءة وفاعلية الإنتاجية كعنصر حيوي في تعزيز النمو الإقتصادي الذي يشكِّل
بدوره الشرط الضروري لتحقيق التنمية البشرية ويديم تدفقها. أمّا حقّ
الإنتماء، ففيه التعبير عن المشاركة في عملية بناء بشري إجتماعي قاعدة
انطلاقه تبدأ من العملية الإنتاجية الهادفة إلى تعظيم مرتكزات التقدم في
المجتمع.
- تجنيس التنمية:
هذه ضرورة يقتضي وجودها ظرف التفاوت الهائل القائم حالياً بين الجنسين،
وبالتالي يخلق غيابها بيئة تعرِّض إلى الخطر إمكانية تحقيق التنمية البشرية
وتهدِّد مسارها. فمازال عالمنا الراهن يفتقر إلى المساواة، تلك المساواة
التي لا تشكِّل هدفاً تكنوقراطياً، إنّما هي التزام سياسي جامع، إذ بينما
انفتحت أبواب التعليم والصحّة واسعة أمام المرأة، فإنّ أبواب الفرص
الإقتصادية والسياسية لم تنفتح إلا بالكاد، ممّا أبقى مركزها متدنياً بشكل
غير مقبول في المجتمع، مع استمرار التمييز القانوني والعنف ضدّها. كلّ هذا
يفرض بدوره تدخل السلطات الحكومية من خلال إجراء إصلاحات في السياسات، ومن
خلال إتخاذ إجراءات إيجابية هادفة وفاعلة.
- المشاركة:
مهما تباين حقل مشاركة الأفراد، سواء أكان إقتصادياً أو سياسياً أو
إجتماعياً أو غيره، فإنّ جوهر المشاركة يبقى هو ذاته: إنّه المشاركة في
عملية صنع القرار الذي يتعلق بحياة هؤلاء الأفراد، وبالتالي شؤون المجتمع
ومستقبله. وعملية صنع القرار تتتابع في مستويين متلاحمين: "تكوين" القرار،
و"اتخاذ" القرار. وطبيعي أنّ مجال المشاركة في تكوين القرار يمتلك قاعدة
تفوق بسعتها تلك المتعلقة باتخاذه، وهي التي تحكمها أطرها الخاصة في
التمثيل والمواقع وما شابه. فالتنمية في نهاية المطاف هي من صنع الناس،
وليس من أجلهم فقط.
- الحاكمية:
يقصد بها عملية ممارسة السلطة السياسية والإقتصادية والإدارية لتسيير شؤون
البلد على المستويات كافة. والأهميّة الحيوية للحاكمية تعاظمت بشكل واضح في
بناء نهج التنمية البشرية المستدامة، كما يبدو ذلك جليّاً في تتابع
التقارير الدولية للتنمية البشرية.
والحاكمية المنشودة تتسم بجملة من الخصائص، أهمّها:
* المشاركة والشفافية والمساءلة للسلطات.
* الكفاءة والفاعلية في إدارة الموارد الإقتصادية والإجتماعية المتاحة.
* تحقيق الإنصاف.
* تعزيز سيادة القانون.
* توفّر المعلومات مع مصداقيتها.
وإذا كان مفهوم الحاكمية يتضمّن أساساً شؤون السلطة الحكومية، فإنّ هذا
المفهوم بدأ يتوجّه نحو التوسع الواضح ليحتوي عناصر أخرى فاعلة في المجتمع.
فالرؤية القائمة حالياً تأتي ثلاثية الأبعاد ومتضمنة الآتي:
* الدولة، ومركزية دورها يتركّز حول خلق البيئة الإقتصادية والقانونية الدافعة.
* القطاع الخاص، الذي يتحمّل مسؤولية تهيئة الفرص المطلوبة للعمالة والدخل.
* المجتمع المدني، الذي ينصبّ دوره بصورة خاصّة على تسهيل التفاعل السياسي
والإجتماعي، وتحريك الجماعات للمشاركة في الفعاليات الإقتصادية والإجتماعية
والسياسية.
وفي هذا الإطار المجتمعي الكلي، يبرز الدور الحيوي للحاكمية المتضمن تشجيع
التفاعل والتشابك بين هذه الأطراف المكوّنة للمجتمع بخلق البيئة المناسبة
والتوازن في ما بينها.
المصدر: كتاب جدلية نهج التنمية البشرية المستدامة