الإسـلام.. وتجـدد الحـياةليس
الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يحيا حياة إجتماعية.. فكثير من
الحيوانات، وخاصة الحشرات، تحيا حياة إجتماعية أيضاً، وتتبع مجموعة من
المقررات والأنظمة الحكيمة، ويحكمها التعاون وتوزيع الأعمال، والإنتاج
والتوزيع والأمر والطاعة.
فللنحل وبعض أنواع النمل والأرَضَة حضارات وأنظمة وتشكيلات لن يبلغها الإنسان إلا بعد سنوات، بل قرون وهو أشرف المخلوقات.
وحضارة هذه الحيوانات عكس حضارة الإنسان، فهي لم تمر بمراحل من قبيل عصر
الغابة، والعصر الحجري، وعصر الحديد والصلب، وعصر الذرّة، بل إنها منذ أن
وضعت أقدامها في هذه الدنيا كانت لديها نفس هذه الحضارات والتشكيلات التي
لها اليوم ولم يتغير حالها أبداً.
أمّا الإنسان، فطبقاً للآية الكريمة: (وخُلق الإنسان ضعيفاً) بدأت حياته من الصفر وستستمر إلى ما لا نهاية.
ومقتضيات العصر بالنسبة للحيوانات واحدة على الدوام لا تتغير. وليس لحب
التجدد وعبادة الجديد معنى لديها. ولا يوجد عندها عالم جديد وآخر قديم
والعلم لا يكتشف لها كل يوم اكتشافاً جديداً يُغيِّر أوضاعها.. والمصنوعات
الخفيفة والثقيلة لا ترد أسواقها كل يوم بأشكال أحدث وأكمل، لماذا؟ لأنها
تحيا بالغريزة لا بالعقل.
أمّا الإنسان، فحياته الإجتماعية دائماً عرضة للتغير والتحول. ففي كل قرن
تتغير حياته، وسرُّ كون الإنسان أشرف المخلوقات يكمن في أنه ابن الطبيعة
البالغ الرشيد.. وقد بلغ مرحلة استغنى فيها عن قيمومة الطبيعة ورعايتها
المباشرة له باسم الغريزة.. إنّه يحيا بالعقل وليس بالغريزة.
إنّ الطبيعة قد اعترفت ببلوغ الإنسان وتركته حُرّاً ورفعت عنه وصايتها.
وإنّ ما ينجزه الحيوان بالغريزة والقانون الطبيعي الذي لا يقبل التمرد،
ينجزه الإنسان بوساطة القوى العقلية والعلمية والقوانين الوضعية والتشريعية
القابلة للتمرد. وهنا يكمن سرّ الفساد والإنحراف الذي يطرأ على مسيرة
التقدم والتكامل الإنسانية وسرّ التوقف والإنحطاط، وسرّ السقوط والهلاك.
وكما إنّ طريق التقدّم والرقي مفتوح أمام الإنسان، كذلك فإنّ طريق الفساد
والإنحراف والسقوط ليس موصداً بوجهه.
إنّ الإنسان قد بلغ المرحلة التي سمّاها القرآن الكريم مرحلة حمل الأمانة
التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال.. أي إنّه قبل الحياة الحرّة
ومسؤولية التكليف والقانون، وهو لهذا السبب ليس مصوناً من الظلم والجهل،
ومن الخطأ وعبادة الذات.
والقرآن الكريم بعد أن يُبيِّن الإستعداد العجيب للإنسان في تحمل أمانة التكليف، يصفه مباشرة بصفتي (الظلوم) و(الجهول).
إنّ هذين الإستعدادين لدى الإنسان (استعداد التكامل واستعداد الإنحراف) لا
ينفكان عن بعضهما. فالإنسان ليس كالحيوان الذي لا يتقدّم في حياته
الإجتماعية ولا يتأخر ولا يذهب يميناً ولا شمالاً.. ففي حياة الناس تقدم
وتأخر، وإذا كانت في حياتهم حركة وسرعة، ففيها كذلك توقف وانحطاط.. وإذا
كان فيها تقدم وتكامل، ففيها أيضاً فساد وانحراف، وإذا كان هناك عدل وخير،
كذلك يوجد ظلم واعتداء.. وإذا كانت هناك مظاهر للعلم والعقل، فكذلك توجد
مظاهر للجهل والعبث.
والتغييرات والظواهر التي تستجد في كل عصر يمكن أن تكون من النوع الثاني.
- الجامدون والجاهلون
الإفراط والتفريط من جملة خواص الإنسان.. فهو إذا أراد أن يقف عند حدّ
الإعتدال، وجب عليه أن يسعى لفصل التغييرات التي هي من النوع الأوّل عن
التغييرات التي هي من النوع الثاني.. أن يسعى لتطوير العصر بقوّة العلم
والإبتكار والسعي والعمل.. أن يسعى للإنسجام مع مظاهر الرقي والتقدم في
عصره، ويسعى أيضاً للحيلولة دون وقوع الإنحرافات العصرية واجتناب الإصطباغ
بصبغتها.
لكن للأسف ليس الأمر دائماً كذلك، فهناك مرضان خطيران يهددان الإنسان في
هذا المجال هما مرض الجمود ومرض الجهل. عاقبة المرض الأوّل التوقف والسكون
والتخلف، وعاقبة المرض الثاني السقوط والإنحراف.
فالجامد ينفر من كل جديد ولا يأنس إلا بالقديم، والجاهل يبرر كل جديد بإسم
مقتضيات العصر وبإسم التجدد والرقي، والجامد يعد كل جديد فساداً وانحرافاً،
والجاهل يحسب كل شيءٍ على الحضارة والتقدم العلمي.
الجامد لا يفرق بين البذرة والقشرة، ولا بين الوسيلة والهدف، فالدين في
نظره ملزم بحفظ الآثار القديمة، والقرآن في نظره إنما نزل من أجل أن يوقف
حركة التاريخ ويثبت أوضاع العالم في أوضاعها التي هي عليها.
وفي نظره إن قراءة جزء عمّ، والكتابة بالقصبة، واستعمال محفظة قلم من الورق
المقوى، والغسل في حوض الحمام القديم، وتناول الطعام باليد، واستعمال
مصباح نفطي، والعيش في الجهل والأُميّة.. هي شعائر دينية يجب المحافظة
عليها. والجاهل على عكس ذلك، أنظاره مشدودة إلى العالم الغربي يرقب أي موضة
جديدة ظهرت، وأي عادة بدأت، ليقوم فوراً بتقليدها وإطلاق إسم الحتمية
التاريخية عليها.
إنّ الجامد والجاهل كليهما يفترضان أن كل وضع قديم هو جزء من الشعائر
الدينية، مع فارق أنّ الجامد يرى أنّ هذه الشعائر يجب حفظها والجاهل يرى أن
الدين أساساً يقترن بعبادة القديم وحبّ السكون والثبات.
في القرون الأخيرة، كانت مسألة تعارض العلم والدين محل جدل وأخذ ورد كبيرين بين شعوب الغرب، وفكرة تعارض الدين والعلم لها جذران:
الأوّل: إنّ الكنيسة كانت قد تبنّت مجموعة من المسائل العلمية والفلسفية
القديمة على أنها قضايا دينية يجب الإعتقاد بها، ثمّ أثبت تقدم العلوم
خلافها.
الثاني: كون العلم قد غيّر وجه الحياة وطرق العيش.
إنّ المتدينين الجامدين بنفس الطريقة التي أضفوا بها على بعض المسائل
الفلسفية لوناً دينياً، حاولوا أن ينسبوا إلى الدين الشكل المادي الظاهر
للحياة، فتصور الجهال أنّ المسألة هكذا في الواقع، وأنّ الدين قد تبنى صورة
مادية لحياة الناس، ولما كان الشكل المادي للحياة – بفتوى العلم – يجب أن
يتغير، إذاً فقد أصدر العلم فتوى إلغاء الدين.
وعلى هذا، فالجمود بالدرجة الأولى والجهل بالدرجة الثانية جاءا بخرافة تعارض العلم والدين.
- أمثال القرآن
الإسلام دين متطور ومطور.. والقرآن الكريم – من أجل أن يوجه أنظار المسلمين
إلى أن يكونوا دائماً في حالة نمو وتكامل على ضوء الإسلام – يورد مثلاً
واصفاً المجتمع المسلم، فيقول: (... كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى
على سوقه يعجب الزراع...) (الفتح/ 29).
هذا مثل للمجتمع الذي يريده القرآن، ونموذج لما يأمله القرآن.. إنّه يخطط للمجتمع ليكون دائماً في حالة نمو وتوسع وانبساط.
يقول (ويل ديورانت): "لم يدع دين أتباعه إلى القوة كما دعا الإسلام، وتاريخ
صدر الإسلام يريك إلى أي مدى استطاع الإسلام أن يبني المجتمع من جديد
ويدفعه إلى أمام".
إنّ الإسلام يعارض الجمود كما يعارض الجهل، والخطر الذي يهدد الإسلام آت،
إمّا من هذه الفرقة أو تلك. فالجمود وتحجر الأدمغة والتمسك بكل قديم، إضافة
إلى أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، فهي تعطي المبرر للجهلة من الناس
ليتصوروا أنّ الإسلام يعارض التجدد بمعناه الحقيقي.
ومن ناحية أخرى، فإنّ التقليد وعبادة الموضة والتأثر بالغرب والإعتقاد بأنّ
سعادة شعوب الشرق تكمن في أن يصبحوا أفرنجة جسماً وروحاً وباطناً وظاهراً،
وأن يقبلوا جميع عاداتهم وآدابهم وسننهم، وينسقوا قوانينهم المدنية
والإجتماعية بطريقة عمياء طبق قوانين الغربيين، كل هذا يمنح الجامدين
المبرر لأن ينظروا بعين الريبة إلى كل جديد ويعدونه خطراً على دين واستقلال
وشخصية شعوبهم الإجتماعية.
وبين هذا وذاك، فإنّ الإسلام هو الذي يجب أن يدفع ثمن خطأ الفرقين.
فجمود الجامدين يمنح الجاهلين مجالاً للهجوم، وجهل الجاهلين يزيد الجامدين إصراراً على البقاء على عقائدهم الجامدة.
العجيب إنّ هؤلاء الجهّال المتظاهرين بالتحضر يظنون الزمان (معصوماً)، وهل
تغيرات الزمان والعصر إلا نتائج جهود الإنسان؟ فمنذ متى أصبح البشر معصومين
عن الخطأ لكي تكون تغيرات العصر معصومة هي الأخرى؟
إنّ الإنسان كما يتأثر بالميول العلمية والأخلاقية والذوقية والدينية ويقوم
في كل عصر بإبتكار ما يصلح حال البشرية، كذلك يتأثر بميول عبادة الذات
وطلب الجاه والعبث الجنسي وحب المال والإستغلال. والإنسان كما يوفق أحياناً
إلى اكتشافات جديدة ويعثر على طرق وأساليب علمية جديدة، كذلك يقع أحياناً
أخرى ضحية الخطأ والإشتباه. لكن الجاهل لا يفهم هذا الكلام، إنما محور
كلامه انّ العالم اليوم كذا وكذا.
والأعجب من هذا إنه يقيسون مبادئ حياتهم على الحذاء والقبعة والملابس، فكما
أنّ من الحذاء والقبعة جديداً وقديماً، وكما انه حين يكون جديداً يكون ذا
قيمة، فيشترى ويحتذى، فإذا قدم رمي بعيداً.. فحقائق العالم إذاً من هذا
القبيل. ليس للجيد والرديء – في نظر هؤلاء الجاهلين – مفهوم غير مفهوم
الجديد والقديم. فالإقطاعي في نظرهم – وهو الذي نصب نفسه مالكاً ظلماً،
وجلس لتقوم بالعمل مئات الأيدي والسواعد من أجله – سيئ لأنه قد صار قديماً
يرفضه العالم اليوم، مرحلته انتهت، وقدمت موضته. أما في اليوم الذي وُجِدَ
فيه وخرج حديثاً من القالب وعرض في أسواق العالم، فقد كان جيداً.
في نظر هؤلاء، استغلال المرأة سيئ لأن عالم اليوم لم يعد يعجبه ذلك ولا
يرضى به. أما في الأمس حيث لم يكونوا يورثون المرأة، ولا يعترفون لها بحث
التملك ولا يحترمون إرادتها ورأيها، فقد كان ذلك جيداً لأنه كان جديداً في
وقته.
يعتقد هؤلاء الأفراد إنّ العصر بما أنه عصر الفضاء، فلا يمكن أن نترك
الطائرة ونركب الحمار، ونترك الكهرباء ونوقد المصباح النفطي، ونترك معامل
النسيج الضخمة وننسج باليد، ونترك مكائن الطباعة العملاقة ونكتب باليد،
وكذلك لا يمكن أن نترك المشاركة في حلقات الرقص، ولا نترك الذهاب إلى حفلات
العري (إلا من المايو) أو حفلات الطعام الباذخة، ولا نترك السكر والعربدة،
ولا نترك لعب القمار، ولا نترك موضة الملابس القصيرة، فكل هذه من ظواهر
القرن.. وإن لم نفعل، فقد رجعنا إلى عصر ركوب الحمير.
كم أدّت كلمة (ظاهرة القرن) إلى تحطيم أفراد، وكم قضت على عوائل تفوق الحصر.
يقولون: عصر العلم، وقرن الذرة، وزمن الأقمار الصناعية، ومرحلة الصواريخ
عابرة القارات.. حسناً، ونحن نشكر الله على أننا نعيش في هذا العصر والزمان
وفي هذا القرن والعهد، ونأمل أن نفيد أكثر فأكثر من مزايا العلوم
والصناعات. ولكن هل نضبت العيون في هذا العصر الأعين العلم؟ وهل جميع ظواهر
هذا القرن هي من نتائج التقدم العلمي؟ وهل يدعي العلم أنّ الطبيعة تجعل من
شخص العالم شخصاً هادئاً ومطيعاً وإنسانياً مئة في المئة.
إنّ العلم لا يدّعي مثل ذلك بالنسبة لشخص العالم، إذ تجد أنّ مجموعة من
العلماء ينهمكون في البحث العلمي بكل صفاء وصدق نيّة وتأتي مجموعات من
طالبي الجاه وأصحاب الهوى وعباد المال ليستخدموا نتائج جهودهم من أجل نيل
مقاصدهم الدنيئة. وإنّ العلم ليئن بسبب استغلاله في غير وجهه الإنسانية
لإرضاء الطبيعة المتمردة للإنسان، وما منشأ تعاسة هذا القرن ومصائبه إلا من
ذلك.
علم الفيزياء يتقدّم ويكتشف قوانين الضوء فتأتي مجموعة من النفعيين
ليستخدموا ذلك في إنتاج الأفلام التي تهدم الأسرة. وعلم الكيمياء يتطور
ليكتشف خواص العناصر المختلفة، فيأتي بعض الأفراد ليستخدموا هذه الإمكانية
في تهيئة ما يقتل روح الإنسان كالهيروئين. وينفذ العلم إلى باطن الذرة
ويطلق طاقتها العجيبة، لكن قبل أن تستخدم أدنى استخدام لصالح الإنسانية
يهرع طلاب الجاه والشهرة ليصنعوا منها القنبلة الذرية ويلقوها فوق رؤوس
الأبرياء.
حين أقاموا لـ(اينشتاين)، عالم القرن العشرين العظيم، إحتفالاً تكريمياً،
قام هو ووقف خلف المنصة، وقال: "إنكم تحتفلون بعالم كان سبباً في صناعة
القنبلة الذرية؟!".
إنّ اينشتاين لم يستخدم طاقته العلمية من أجل أن تصنع القنبلة الذرية، إنما طلاب الجاه هم الذين استخدموا علمه في هذا المجال.
إنّ الهيروئين والقنبلة الذرية والأفلام المختلفة لا يمكن تبريرها بأنها
(ظاهرة القرن)، فلو ان أقوى القنابل صُبّت على رؤوس الأبرياء بواسطة أحدث
أنواع القاذفات نتيجة لأحسن جهود العلماء، فلن يقلل ذلك من وحشية هذا العمل
مقدار ذرّة.