مشاريع التحديث وعوامل الإخفاق في العالم العربي
الحداثة ضد التحديث، والاستمرار في استعارة الهياكل التحديثية من الخارج،
لا يؤدي إلا إلى المزيد من الإبتعاد عن مشروع الحداثة المجتمعي وتأسيساً
على هذه المسألة نسأل: لماذا فشلت مشاريع التحديث في الوطن العربي. فمنذ
اللحظة الأولى لاحتكاك العالمين العربي والإسلامي بالغرب، ومع التأثيرات
النفسية والثقافية والإجتماعية والحضارية، التي أحدثها هذا الإحتكاك.
والعالمان العربي والإسلامي، يلهثان وراء مشاريع التحديث للواقع. فصرفت في
هذا السبيل الأموال الطائلة، والجهود الضخمة، دون أن يكون لها تأثير عميق
في الحياة السياسية والإجتماعية والفكرية في الواقع العربي والإسلامي.
وأضحت الحياة العربية تتراوح بين دورة تنتج التحديث، وتنتج في آن موتها
الداخلي، قبل أن تكتمل، ثم تعيد إنتاج التحديث غير المكتمل لا لشيء إلا
لتقضي عليه من جديد. وبهذا يصبح المجتمع على حد تعبير (هشام شرابي) مجتمع
بطركي حديث..
ويمكننا تحديد اسباب إخفاق عملية التحديث في العالم العربي في النقاط التالية:
العلاقة المصطنعة مع الحداثة:
إن الحداثة ليست مجرد التزامن مع الآخر الحضاري في أدواته وتقنياته، بل هي
تراكم للخبرة والتطور. ومن الأخطاء الحضارية التي وقع فيها الكثير، اعتبار
الحداثة مجموعة مظاهر ومنتجات الحضارة. لهذا أصبحت الكثير من شعوب العالم
الثالث، تحيا الحداثة بثقافة التخلف وتاريخه. لهذا فهي لا تنتج، ولا تعيش
الفاعلية الحضارية في حياتها، بل تعيش الاستهلاك والتبعية بأجلى صورها
وأشكالها، وهذا من جراء العلاقة الفوقية والمصطنعة التي تربطها بالحداثة.
فحينما لا تكون العلاقة حقيقية بين المجتمع والحداثة، تتحول الأخيرة إلى
وهم كبير، وسراب لا نهاية له.
وبفعل هذه العلاقة المصطنعة مع الحداثة وقيمها، تحول التحديث إلى عملية
قسرية. وقد أدى هذا النوع من التحديث إلى انكفاء المجمع على نفسه والبحث عن
إسلوبه الخاص في إستيعاب الحداثة والتحديث.
المساوقة بين المفهوم والتجربة الغربية:
لم يتمكن الحداثيون العرب، من بلورة مفاهيم وأطر فكرية وثقافية، لتطلعهم
الفكري والسياسي بعيدا عن النموذج الغربي. وإنحصرت جل طروحاتهم ومشاريعهم
في تمثل التجربة الغربية، واعتبر بعضهم (بشكل أو بآخر) أن التغريب شرط
ضروري ولابد منه للتحديث. بل دعا أحدهم (فارس نمر) إلى الاحتلال الأجنبي
كطريق منقذ من الإستبداد الفردي السلطاني، وكشرط لإقامة النظام الديمقراطي
الجديد.
فإرتباط عملية التحديث بمركزية الغرب ومشاريعه الاستعمارية، حول التحديث
وكأنه عملية تغريب شاملة للحياة العربية والإسلامية. جعل هذه المساوقة،
تؤدي إلى تطبيق عشوائي وشامل لمعايير الغرب في الحداثة والتحديث، فأصبحت
هذه المعايير هي الفيصل، وهي مؤشر النجاح والفشل.
العرب بين النهضة والحداثة:
ولعل من الأخطاء المنهجية التي وقعت فيها الكثير من المدارس الفكرية
والسياسية في الوطن العربي. كان الخلط المنهجي أو التعميم المشوه بين
المرحلة التاريخية، ودرجة التطور التاريخي والإجتماعي التي يعيشها الغرب،
والمرحلة التاريخية والإجتماعية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي. حيث
أن هذا الخلط هو الذي ألغى البعد التاريخي لهذه المفاهيم. فأصبح المفكرون
العرب ينادون بضرورة الحداثة والتحديث كطريق وحيد للخروج من المأزق
التاريخي، وتحقيق الوثوب الحضاري. متغافلين عن حقيقة أساسية وهي: أن
الحداثة الغربية كانت وليدة تطور تاريخي_ إجتماعي، لا يمكننا تجاوزه..
وبالتالي فإن الحداثة ليست شعارات وأشكال سياسية وإجتماعية وأدبية فحسب. بل
هي قبل ذلك كله، صيرورة تاريخية _ إجتماعية، يصل إليها المجتمع بعد حقبة
تاريخية وإجتماعية من العمل المتواصل، والجهد المركز في هذا السبيل.
لهذا فإن المعطيات التاريخية والإجتماعية والحضارية، التي يعيشها العالم
العربي والإسلامي اليوم، تتطلب مشروعاً نهضوياً، يزيل رواسب التخلف، وينير
العقول، ويغير الثقافات، التي تحول دون إنطلاقة المجتمع.
المشكلة التاريخية:
وأمام مشكلة الفوات التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية، تبلورت
إجابتان للعمل على ردم هذه الهوة، وتجاوز هذه الفجوة التي تفصل المجتمعات
العربية والإسلامية، عن التقدم والتطور الحضاري.
1_ التنوير: فالنمط الحداثي الذي بدأ بالانتشار في الوسط العربي والإسلامي
، من جراء الإحتكار المعرفي والعلمي الذي يمارسه الغرب. بدأ يطرح خيار
التنوير كقنطرة، لتجاوز مشكلة الفوات التاريخي، وكان الإطار المرجعي، لهذا
الخيار هو النموذج الغربي في التحديث والتنوير.
2_ النهضة: وهو الخيار الذي طرحه مفكرو الاصلاح المنطلقين من الفضاء المعرفي الإسلامي.
والنهضة هنا لا تعني القيام العشوائي ومواجهة الواقع بأدوات عنفية أو ما
أشبه. بل تعني إستيعاب التقدم من داخل الذاتية الحضارية. فمسألة الهوية
والتخلف والتقدم والاستقلال والتنمية وغيرها من الأسئلة والعناوين
الأساسية، لا تنتمي إلى دائرة التحديث والتنوير، وإنما إلى دائرة النهضة.
وليس إفلاساً فكرياً، أن نعيد أسئلة عصر النهضة في وقتنا الراهن. لأنها
أسئلة ذات طبيعة متجددة ومستمرة، ولا يمكن مقايضتها بأسئلة التحديث
والتنوير.
لماذا النهضة أولا:
بادىء ذي بدء، نقول ان الظروف الموضوعية (الإجتماعية والثقافية
والاقتصادية) تتحكم إلى حد بعيد، في إستراتيجيات الخروج من واقع الأزمة.
فلا يمكن أن يصل مجتمع إنساني، إلى مستوى متقدم إقتصاديا، بدون إستيعاب
مقدمات هذا التقدم وتوفير شروطه الضرورية في المحيط المجتمعي، كما أن
المجتمع لا يصل إلى مستوى الحداثة، بدون الدخول في عالم النهضة ومتطلباتها
النظرية والعملية.
إن المجتمعات الإنسانية، بإمكانها أن تقوم بتكثيف أعمالها ونشاطاتها،
وتزيد من جهودها من أجل إختصار الزمن، وتعميق قيم النهضة في المجتمع، حتى
يتواصل نمو المجتمع النوعي ليصل إلى مستوى الحداثة وما بعدها. أما القفز
على هذه المراحل، والتعاطي مع واقعنا وكأننا في مرحلة حضارية متساوية مع
المجتمعات الغربية، فإنه يعد خداعا ولعبا بعواطف الناس وإستتباعا للآخرين
حتى النخاع، وليس حداثة أو تحديث.
والمناخ العام الذي يشيعه مشروع النهضة، يتجه إلى تطوير لا يُطال السطح
فقط، وإنما تطويرات شاملة وعميقة في البنى المعرفية والثقافية والحضارية.
وهذا المناخ دون شك، يعتبر مفتاح الحل للمسألة الحضارية في العالمين العربي
والإسلامي. وفي هذا الإطار ثمة مفارقة بين الحداثة والنهضة، ينبغي التأمل
في أبعادها المعرفية والحضارية، إذ اتجه التيار الحداثي في الأمة في العقد
الأخير، إلى تحصين الجاهز وتدعيمه منعا من إختراقه، بدلا من أن تطلق حركة
التجديد طاقاتها الإبداعية، لصياغة الرؤى العامة، كي تنزل على الوقائع بروح
وفهم جديدين.
التوقد الفكري:
إن غياب مشروع النهضة عن الداخل العربي والإسلامي، سيؤدي إلى إنبهار
بالمنجز الحضاري الخارجي، وهو إنبهار يشل التفكير الخلاق، ويأسر النفس
والعقل، ويحولهما إلى لاهث أعمى وراء ذلك المنجز الحضاري. أما حضورها،
فيؤدي إلى توقد ذهني، ويقظة فكرية تتجه إلى التجربة الحضارية الإنسانية،
لامتصاص النافع ونقاط القوة منها.
وبالتالي فإن توفر الفعل الحضاري في الداخل العربي والإسلامي، يعني وجود
مقومات البناء الذاتي، والدينامية الطامحة إلى التطوير والروح المعنوية
اللازمة لكل عملية تغيير إجتماعي. وهذه شروط ضرورية لكل مجتمع إنساني،
يتطلع إلى التقدم، وتجاوز نقيضه