فلسفة الحبمن
المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء وحب
النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجدها
فينا، ولا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك
المعنوي دون اللفظي، ولا شك أن المصاديق مختلفة، فهل هو اختلاف نوعي أو غير
ذلك؟
إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلاً: وجدناه محبوباً عندنا
لتعلقه بفعل القوة الغاذية، ولولا فعل هذه القوة وما يحوزه الانسان بها من
الاستكمال البدني لم يكن محبوباً ولا تحقق حب، فالحب بحسب الحقيقة بين
القوة الغاذية وبين فعلها، وما تجده عند الفعل من اللذة، ولسنا نعني باللذة
لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها، بل الرضى الخاص الذي
تجده القوة بفعلها، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق
بالحقيقة بالوقاع، وتعلقه بهن ثانياً وبالتبع، كما كان حب الغذاء متعلقاً
بنفس الغذاء ثانياً وبالتبع، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان، كما
كان التغذي كذلك أثراً لقوة فيه، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى
مرجع واحد وهو تعلق وجدي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي.
ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد
في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإن لهذا التعلق المسمى
حباً أثراً في المتعلق (اسم فاعل) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا
فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها
موجودة في مورد جميع القوى الإدراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة
والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية
جميعها ـ سواء كانت فاعلة أو منفعلة ـ على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها
وتنجذب إليها وليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها
الطبيعية، وعند ذلك يتضح الأمر في حب المال وحب الجاه وحب العلم فإن
الانسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم.
ومن هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الانسان وبين
كماله، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير
الانسان، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلاً أو منفعلاً عما يحبه من الفعل
والأثر ومتعلقاً بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الأكل والفاكهة،
وغير الحيوان أيضاً كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع
الشعور.
ومن جهة أخرى، لما كان الحب تعلقاً وجدياً بين المحب والمحبوب كانت رابطة
قائمة بينهما، فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجوداً ذا شعور وجد
حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري.
ويستنتج من جميع ما مر، أولاً: أن الحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة
المكملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، ومن هنا كنا نحب
أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى به، أو زوج
نتمتع بها، أو مال نتصرف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو
معلم يعلمنا، أو هاد يهدينا، أو ناصر ينصرنا، أو متعلم يتعلم منا، أو خادم
يخدمنا، أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي
وبعضها خيالي وبعضها عقلي.
وثانياً: أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية ـ
والوجود مشكك في مراتبه ـ ومن المعلوم أن التعلق الوجدي بين العلة التامة
ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها، وأن الكمال
الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضرورياً أو غير ضروري، ومن حيث
كونه مادياً كالتغذي أو غير مادي كالعلم، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه
بالماديات حتى ذكر بعضهم: أن أصله حب الغذاء، وغيره ينحل إليه، وذكر آخرون:
أن الأصل في بابه حب الوقاع، وغيره راجع إليه.
وثالثاً: أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود
ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه، والمتناهي متعلق الوجود
بغير المتناهي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع، وهو تعالى خالق لنا منعم
علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لإنعامه.
ورابعاً: أن الحب لما كانت رابطة وجدية ـ والروابط الوجودية غير خارجة
الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزلاته ـ أنتج ذلك أن كل شيء فهو يحب ذاته،
وقد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده، ومن هنا يظهر أن الله
سبحانه يحب خلقه لحب ذاته، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، ويحب خلقه
لقبولهم هدايته.
وخامساً: أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلا
فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو، ومن هنا يظهر
أن القوى والمبادئ الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها.
وسادساً: يستنتج مما مرّ أن الحب حقيقة سارية في الموجودات.
*المصدر : الميزان في تفسير القران/المجلد1