عبد الوهاب الملوح
2011-11-02
ليس
ثمّة ما يدعو للعويل والأمر ليس كارثيا الى هذه الدرجة، فلم تقم القيامة
بعد.. ما حدث كان يجب ان يحدث وكل المؤشرات كانت تدل على ذلك منذ اللجوء
للتصويت بالقوائم الحزبية واعتماد حساب النسبية بدل الاغلبية. وعدم التدقيق
في صياغة مرسوم منع استخدام المال السياسي وتحديد آليات لحجره.
ما حدث
كان يجب ان يحدث.. فتركة بن علي ثقيلة جدا ولا يمكن تصفيتها بين عشية
وضحاها والمقصود هنا بتركته برامجه التربوية التي جعلت من ثلث الشعب
التونسي أمِّيا؛ فقد عمل مع اجهزته على تخريب الفكر التونسي وتجهيله وتجفيف
منابع المعرفة لديه من خلال منظومة تربوية فاسدة ومبرمجة من اجل تعميم
الجهل والأمية مدعومة في ذلك بخطة ثقافية عملت على ارساء التصحر المعرفي
والثقافي وهو ما انتج طابورا طويلا من الاميين الذين لا يعرفون القراءة ولا
الكتابة ويتقنون التصفيق والتزكية بالرأس وترديد 'نعم'. هذه حقيقة مرة لا
بد للجميع الاعتراف بها ان ثلث من لهم الحق في التصويت هم من الاميين
وبالطبع تم اللعب بأصواتهم واستخدامهم بضمير سياسي ماكر استخدم المال حينا
وركز على الجانب الغيبي التبشيري بتثبيت الاجر ودخول الجنة والترهيب من نار
جهنم في حال عدم التصويت لمن يمثلون الله على الارض.. وحينا اخر استخدم
القبلية والعروشية وقد اتضح شيء من هذا القبيل عشية الاعلان عن الانتخابات
متجلية في أرقى التناقضات الثورية فبوزيد التي انطلقت منها شرارة الثورة ضد
بن علي فمنها ويا لسريالية المشهد تندلع احتجاجات غاضبة لسحب قوائم من كان
في وقت من اشد انصار بن علي والذي صرح ذات يوم قائلا انه مستعد ان يضحي
بكل معارفه واقربائه من اجله؟ أليس هذا من اعقد التناقضات التي تستعصي على
اكبر المحللين الاجتماعيين والسياسيين!؟
ما حدث كان يجب ان يحدث وليس
ثمة داع للانزعاج بل هو وقت لمراجعة الحسابات والوقوف على النقائص والاخطاء
لمحاولة التدارك.. فصف الحداثيين متشرذم ؛منقسم على نفسه منشغل بصراعات
ايديولوجية داخلية ضيقة بل وما زالت بعض اطيافه تحيا بفكرة الضحية كما لو
انها تريد استعادة ديونها من الناس؛ سنوات تعذيبها وسنوات حبسها ومطاردتها
واقصائها حتى ان خطابها تحول الى خطاب متعال غير قابل للانسجام مع تطلعات
الشارع التونسي الذي انما ينتظر من يخرجه من عنق الزجاجة ويعبر به الى بر
الامان بلا مقايضات او مبادلات ربحية دون مطالبته برد الجميل.. لقد فشل
الحداثيون بجميع تشكيلاتهم: اليساريون والتقدميون والعلمانيون في التعبير
عن حقيقة مواقعهم في الساحة التونسية، وهو ما يدعوهم الى مراجعة أليات
عملهم واساليب تفكيرهم وطرق صياغة برامجهم بل والأهم فهم المرحلة
ومتطلباتها الملحة الان؛ طبعا هذا ان كانوا يريدون ان يكسبوا مواقع في
الانتخابات القادمة وان كانوا فعلا يمتلكون اجهزة تفكير عقلانية بامكانها
ان تعيد التوازن للمشهد السياسي...على ان تونس الحداثية ستقاوم كل محاولات
العودة بها الى الخلف، فمنذ 1857 تاريخ اول دستور (عهد الأمان)،فنص عهد
الأمان يضمن لجميع سكان تونس مهما كانت دياناتهم وأجناسهم وجنسياتهم الحق
في المساواة والحياة بكرامة، فقد جاءت مادته الأولى قاضية بـ:'تأكيد الأمان
لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في
أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر
المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو
الإذن بإعادة النظر'.
كما ينص عهد الأمان على مساواة الجميع في مسائل
الضرائب والرسوم الجمركية, ويقر كذلك بحرية مزاولة التجارة وحرية العمل في
المملكة وتملك العقارات وشراء الأراضي الزراعية للوافدين على البلاد من
الأجانب بشرط التزام الجميع بالقوانين المتداولة.
وأقر العهد بعزم الباي
على إحداث مجالس قضائية 'للنظر في أحوال الجنايات من نوع الإنسان والمتاجر
التي بها ثروة البلدان وشرعنا في فصوله السياسية بما لا يصادم إن شاء الله
القواعد الشرعية'. كان هذا مند قرن ونصف في عهد البايات ومن وقتها تتالت
عمليات التحديث سواء في الجهازالسياسي او في نمط العيش الاجتماعي أو في
تأويل الشريعة الاسلامية وكيفية تلاؤمها مع المجنمع التونسي الذي قطع
اشواطا كبيرة في مواكبة الحداثة والتنوير بل ان من قاد عمليات التنوير هم
بالاساس رجال دين من أمثال خير الدين التونسي وابن ابي الضياف والشيخ سالم
بوحاجب والطاهر بن عاشور والطاهر الحداد وغيرهم. لقد عمل هؤلاء على
تنويرالقكر التونسي وارساء مبادىء الحداثة والعقلانية، بل ان تونس كانت
دائما السباقة في هدا السياق ويكفي احصاء عدد المطبوعات؛ مجلات وجرائد وكتب
بين اواخر القرن التاسع والقرن العشرين ليقف المرء على مدى الاهتمام
بتحديث الفكر التونسي..وتلا ذلك ما قام به الزعيم الحبيب بورقيبة الذي قام
بثورة اجتماعية كبرى بخصوص مجلة الاحوال الشخصية التي هي نفسها دستور وما
اعتمده من منظومة تربوية تعليمية كانت نتائجها باهرة في سبعينيات وثمانينات
القرن الماضي، بل وما درجة الوعي التي وصلها الشعب التونسي اليوم الا بفضل
تلك الحقبة التي عمل بن علي جاهدا على تدميرها ونسف بناها الاساسية لتونس.
ارث بليغ من الحداثة وترسانة ضخمة من الاليات النقدية للمقاومة لن يكون
بإمكان احد ان يغير من تطلعها الابدي نحو التحرر ونحو التقدم الى الامام
ولو تعلق الامر بالجنة الموعودة، وما حدث ليس خاتمة كل شيء ولعلها مرحلة
لا بد منها عملا بالآية 'وفي ذلك فليتنافس المتنافسون'. لقد قام الشباب
بالثورة في 14 كانون الثاني/يناير والشباب هو نفسه الذي سيتمرد ويعلن
العصيان اذا تم اقصاؤه مجددا او التجني على مكتسباته الحيوية من مثل حرية
التفكير والمعتقد وحرية التعبير والخاسر الاكبر هو من سيعمل على تطويع كل
شيء من اجل ارساء فكرته، فلهذا الواقع ركائز واسس لا يمكن باي حال من
الاحوال اقتلاعها.