تحتفل
الجزيرة بمرور خمسة عشر حولا ً - لا ابالك يهرم- على صرختها الأولى من رحم
الجزيرة العربية .. ولدت الجزيرة في صحراء الجزيرة العربية العطشى لا في
أم الدنيا ولا في أختها.
ولدت وحولها الأبخرة والعواصف الصحراوية
والزوابع وهي تصرخ مثل وليام والاس في فلم القلب الشجاع فوق هميالايا
الحرية: فريدووووووم، فجعلت من أمها الصغيرة قطر دولة عربية عظمى تضرب
إليها أكباد الإبل وأفئدة الطائرات و أحلام المندسين، ولن يضيرها رأي عربي
غاضب مثل اسعد أبو خليل 'في العالم' و لا رأي عربي هادئ مثل محمد حسنين
هيكل الذي اتهمها في ثلاثيته الأخيرة بالتحريض على الأنظمة الاستبدادية
الجليلة، فهيكل (وله تشبيحات لطيفة)؛ يحلل بالجملة وليس مثل عزمي بشارة
الذي يجمع بين جلال الجملة وتفاصيل المفرق أو بين الاستراتيجي والتكتيكي.
وقد
احتفلت الأبواق 'الزورية' برأي حسنين هيكل السالف الذكر، واحتفل كاتب هذه
السطور أيضا بها، وبثت قناة الدنيا رأيه في الجزيرة على الجزيرة وكأنه نصر
على الجزيرة! والبوق، لمن لا يعلم، آلة ريحية نفاخة لا تصدر سوى لحن ثابت
واحد، (ترى هل يجوز شرعا تسمية صوت البوق لحنا؟). اللحن الوحيد الثابت
الصامد هو لحن النفير إلى معركة مؤجلة.. إلى الأبد، وكانت الأبواق تُتخذ من
عظام القرون سابقا، وحاليا؛ من حناجر الدجالين الصلعان، والذين يضعون
الشعر المستعار، والصلعان من تحت رؤوسهم بتعبير الشاعر الفرنسي جاك بريفير.
'الاستشهادي' كيفن كارتر
شطبت
الأبواق الزورية آراء هيكل الأخرى الثورية وتبنت هذا الرأي وحده طرزته
بالذهب في فضائياتها وراحت تبيعه في حارة السقايين. المصور كيفن كارتر الذي
نال جائزة بوليتزر 1994 عن تصوير نسر اصلع ينتظر احتضار طفل سوداني اضواه
الجوع ليأكله؛ كان مهنيا فقد انتظر إلى أن يموت الطفل، ولو تدخل لكان
أسلوبه 'تحريضيا' أو ناقص المهنية. يبدو أن الإعلامي المهني هو المراقب
الحيادي 'السلبي'، لاحقا انتحر المصور جزاء اخلاصه لمهنيته.. فعلى روحه
دقيقة صمت.
'العربية' لا تفتح اقنية للاتصال بالناس باعتبارهم غوغاء
ورعاع فهي تفضل النخبة المنتقاة بعناية، ويخيل لي احيانا أن العربية قناة
عربية رسمية ذكية، خذ أيها القارئ- مثال تغطيتها لحدث ولاية العهد السعودي
الذي أصبح الخبر الأول والخبر الأطول؟
الحج في الفضائيات
كانت
الجزيرة قد بدأت تغطيتها لموسم الحج منذ أول أيام شهر ذي الحجة، فالحج حدث
عالمي، إلا أن خبر صناعة الكسوة الشريفة بات خبرا قديما، وتحتاج الفضائيات
لمواكبة الأحداث إلى مغامرات في رحلة الحج وحكاياته. وكان الحجاج على
القنوات الدينية يبكون ويودعون أقاربهم و يتحدثون عن أمل الغفران ورحلة
العمر والشوق إلى السماء في الأرض، أما حجاج قناة الدنيا - إعجاز إعلامي أن
تنقل الدنيا العلمانية أخبار الحج 'الطائفية'- فقد بدأوا بالدعاء للشبيحة
بالسداد والنصر على الأعداء وهم في المطار!
المذيع البطل
تراجعت
بطولة النجم التلفزيوني والسينمائي أمام مذيع الثورات العربية في حومات
النشرات الإخبارية، كان النجم التلفزيوني سعيدا ببطولاته المزيفة في نقد
الدكتاتورية في الفيلم والتمثيلية و'بقعة الضوء'، فيظهر شجاعا بطلا ناقدا
على الشاشة ثم يصفق المنقود بعد انتهاء الفيلم!، وها هي الثورات تنقله إلى
مواقع الدفاع عن الطاغية ومهاجمة الثورات التي سرقت منه البطولة وكشفته على
حقيقته، فالبطل الحقيقي على الأرض الباسلة لا في الاستديو الحرذون،
الاستديو الحرباء، امام أعين الأرض لا أمام عيون الكاميرا العوراء.
ومن
هنا يمكن أن نفهم سجود احد الإعلاميين الستة في مسابقة الجزيرة للإعلاميين
على الأرض شاكرا لله على فوزه. بطولات 'اراب غت تالانت' في ال'ام بي سي'
كانت في السحر والشعوذة، والغناء، والرقص والعاب السيرك الاستعراضية. اما
بطولات 'ارب تالانت الجزيرة' فهي في التدريب على مواجهة الحقيقة، في
النشرات الملحمية التي تتخللها مبارزات مع بوائق اقوى الأبواق، ولهذا رفعت
أسماء إعلاميين من 'العربية' و'الجزيرة' في الثورات العربية على رؤوس
الأشهاد و.. الشهداء.
نهوض حزب النهضة
'امتعض الإعلام
'الديمقراطي' من فوز حزب النهضة التونسي بأغلبية الجمعية التأسيسية، وسرّت
فضائية الحرة بحرائق سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الثورة ضد النهضة.
ولن ترضى الفضائيات 'الديمقراطية' والعلمانية والليبرالية عن النهضة حتى لو
لبست البكيني او خلعت ورقة التوت. لم أجد خرما في حديث الغنوشي الشيق
والرصين والعميق في 'برنامج في العمق'، وبالعودة إلى حلقة اتجاه معاكس
قديمة تعود إلى عام 1999 بين الغنوشي والهاشمي الحامدي نكتشف ان صاحب
العريضة لم يتغير عن اللحظة التي جاهد فيها للدعاية لشخصين: زين العابدين
بن علي التقي الورع الزاهد المجاهد الذي أهداه مصحفا، ولشخصه الذي ينتمي
إلى اشرف العائلات.
كرامات الجثث وكرامات الأحياء
'عندما
يموت الأصلع يصبح مشعرا وذا ضفائر' اذ لا يزال الاستنكار الدولي لانتهاك
حرمة جثمان القذافي مستمرا، فقد حوله الثوار إلى 'شو' مجاني مثل مومياء
الفرعون في المتحف المصري ومومياء لينين في المتحف الروسي. ثمة فروق بين
عرض جثمان لينين الأنيق المجلد في برد التابوت الجليدي، وبين جثمان القذافي
العاري، وبين صور الجثامين التي يجاهد الثوار السوريون لعرضها بسماحة في
الفضائيات وهي تبتسم لحتفها الجميل، من غير أن يتهمها احد بانتهاك حرمة اعز
أقاربهم!
دموع رجال ليس لهم أندلس
على الهواء مباشرة،
مؤخرا، بكى أعلام كثر: بكى عبد الرزاق عيد، وبكى عماد الدين رشيد، كان
السوريان يستعرضان أرقام الشهداء الهائلة في سورية.. وبكى صفوت الزيات أكثر
من مرة وبكى ممدوح حمزة.. وأبكى معه مضيفه بلا حدود، وبكى القرضاوي مرة أو
ثلاث؛ مرة عند تكريمه بلقب الإمام من قبل تلاميذه، ومرتين عند ذكر صاحب
راحل، وصاحب فائز في انتخابات تونس. يقول ادونيس:
'النار لا تحرق موضعا
مسّه الدمع لذلك ابكي' وهو قول شعري مقتبس من وصف حال احد أبطال الحديث
الشريف السبعة الذين يظلهم الله في ظله. الحزن أصل والفرح فرع.. وربما
استثناء. بكى هؤلاء وغيرهم.. لكني وجدت نفسي ابكي مع صفوت الزيات وممدوح
حمزة في شهادتهما على العصر، والسبب هو الحكاية، والقدرة على مشاركة
المشاهد بالحال والمقام، فقصة شهيد مؤثرة مثل مريم أو عبد الكريم يمكن أن
تغلب خبر مليون شهيد. أنصح الطغاة غير الساقطين بعد بالبكاء كثيرا على
الهواء مباشرة، فشعوبنا عاطفية، وتقدر دموع الرجال، لكن المشكلة أنّ الطغاة
لا قلوب لهم يعقلون بها. ليس للذين سفحت دموعهم أندلس، أما أندلسي التي لم
أرها في حياتي فهي صندوق انتخاب أقف أمامه وجها لوجه ثم اطعنه بصوتي طعنة
نجلاء وأسقط به النظام.
لو كنت إعلاميا، لبكيت عند قدم كل شهيد. جزمتي ليست ضيقة علي ولكنَّ أَخلاقَ اشباه الرِّجالِ تَضيقُ.