بعد الحرب الباردة ، لم تظهر
الولايات المتحدة اهتماما كبيراً بدول القارة الإفريقية ، بسبب انشغالها
بالصين وجنوب شرق آسيا ودول شرق أوربا ، فالسنوات الأولى بعد انهيار جدار
برلين عام 1989 كانت تمثل محطة انتقالية في السياسة الأمريكية. لقد شاعت
أفكار الرئيس جورج بوش حول " النظام الدولي الجديد " ، بوصفها نظرية عالمية
للعلاقات الدولية ، لكنها لا تتناول القضايا القارية أو الإقليمية بسياسات
محددة. ويبدو للوهلة الأولى أن القيمة الإستراتيجية للقارة الأفريقية في
السياسة الأمريكية اقترنت بظاهرة الحرب الباردة ، وانتهت بنهايتها ، خصوصاً
بعد ظهور الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة على صعيد القدرات الاقتصادية
والدبلوماسية والعسكرية.
لقد رأت سوسان رايس ، مساعد
وزير الخارجية للشئون الإفريقية في إدارة بيل كلينتون: " أن الولايات
المتحدة تعتمد بصورة كبيرة على القارة الإفريقية في ألبترول والمعادن
الإستراتيجية. فما يقارب 14% من استيراد النفط الخام يأتي من القارة
الإفريقية ، بالمقارنة مع 18% تقريباً تأتي من الشرق الأوسط. ويتوقع أن
تكون القارة مصدراً لأكثر من 20% من الاحتياجات النفطية المستوردة خلال
العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ". كما أشارت تقديرات مجلس الأمن
القومي الأمريكي أن أمريكا ستستورد من إفريقيا عام 2015 مانسبته 25% من
مجموع إستيراداتها النفطية ، في إطار سياسة تستهدف تنويع مصادر الطاقة
والنفط وعدم الاعتماد كلياً على نفط ألشرق الأوسط. لذا توزع الاهتمام
الأمريكي على جميع الأقاليم ، الغنية بالنفط والمعادن الحيوية. كما اتسمت
السياسة الإفريقية لواشنطن خلال إدارة بيل كلينتون بالحذر في معالجة
الأزمات والقضايا الإفريقية ، معتمدة على سياسة رد الفعل لمواجهة تطور
الأزمات في القارة ، لاعتقادها أن التدخل المباشر المحفوف بمخاطر الفشل قد
يؤدي إلى نتائج عكسية في مجال السياسة الداخلية الأمريكية. لاحقاً بين
جورج بيرسُن ، نائب مساعد وزير الطاقة الأسبق قائلا: لا يمكن للعلاقات
الأميركية-الإفريقية التجارية إلا وأن تصبح أوثق في المستقبل نظراً لكون كل
برميل بترول واحد من خمسة براميل تستهلكها الولايات المتحدة في العقود
القليلة القادمة سيكون على الأرجح من إفريقيا ، أن الولايات المتحدة تستورد
حوالي 8 % من جميع وارداتها البترولية من نيجيريا و7 % منها من أنغولا ،
وأن الحقول في منطقة خليج غينيا "تتسم بأهمية متزايدة في ما يتعلق بإمدادات
(الطاقة) إلى الولايات المتحدة." ويتكهن بعض المحللين بأنه يمكن حتى لتلك
النسبة أن ترتفع بشكل هائل. وأشار جورج بيرسُن إلى وجود إمكانيات أخرى ،
علاوة على البترول في إفريقيا ، وذكر على سبيل المثال: أن " الغاز الطبيعي ،
وخاصة الغاز الطبيعي المسيّل ، يتحول بشكل مطرد إلى سلعة عالمية ،
والولايات المتحدة مستهلك رئيسي لذلك.
" إن وقائع الأحداث أكدت على إن
القيمة الجيوسياسية لإفريقيا ، تشكل عنصراً حيوياً في ألسياسة ألخارجية
الأمريكية. لذا تشجع واشنطن المنظمات الإقليمية الإفريقية التي تستهدف
تحقيق التنمية والتكامل الاقتصادي ، مثل منظمة مجموعة الدول في غرب إفريقيا
(إكواس) التي تظم 16 دولة بضمنها نيجيريا ، ومنظمة التنمية الإفريقية
(سادك SADC) في الجنوب الإفريقي التي تظم 14 دولة ، اللتان تشكلان قيمة
إستراتيجية في تحديد المواقف الأمريكية تجاه الكوارث الطبيعية واندلاع
الأزمات والنزاعات وقضايا حفظ السلام وضمان الأمن والاستقرار وحماية مصادر
الطاقة النفطية. فالنظام الاقتصادي الدولي للعولمة شجع الأقاليم الإفريقية
للانفتاح على الاقتصاديات العالمية وإتباع سياسات اقتصاد السوق وتنفيذ
شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إضافة لانتقال الدول من نظام الحزب
الواحد إلى التعددية السياسية للاستجابة إلى مفاهيم ألليبرالية الجديدة.
1.
تأسيس قوات الاستجابة للأزمات الإفريقية للأسباب الواردة في أعلاه ، أعلن
الرئيس بيل كلينتون في أكتوبر 1996 مبادرة مسؤولية الأزمة الإفريقية ،
لإقامة نظام متماسك للمساعدة العسكرية. حيث أطلقت واشنطن فكرة تأسيس قوة
عسكرية سميت ( افريكوم) سرعان ما استبدلت بهيئة باسم ( مبادرة الاستجابة
للازمات الإفريقية ) ألتي حددت مهمتها الرسمية بالتدريب على "المحافظة على
السلام" و"المساعدة الإنسانية" على أن تكون المعدات المستخدمة غير قاتلة.
وفي الواقع ترمي (المبادرة الإفريقية) إلى تحديث عمل القوات المسلحة في
البلدان الإفريقية ومطابقته للمعايير الأميركية خصوصا في مواجهة ظاهرة
الإرهاب في إفريقيا ، كما تهدف أيضا إلى تفادي تكرار كارثة ما حدث
للأميركيين في الصومال.
وتعد المبادرة صيغة من صيغ
الشراكة بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية ، لكن المؤشرات تؤكد إن
واشنطن قد خفضت استحقاقات المساعدات الاقتصادية لإفريقيا من 2 مليار دولار
عام 1985 إلى مليار واحد في 1997. ومع أن (المبادرة الإفريقية) كانت من
تصميم وزارة الخارجية الأميركية إلا أن القيادة الأوروبية للجيش الأميركي
هي التي تنسق إمكاناتها العسكرية لا سيما اللجوء إلى الوحدات الخاصة.
وتقوم
بعض الشركات المتخصصة وعلى رأسها ضباط أميركيون سابقون ، في تقديم
الاستشارات الأمنية لعدد من الدول الإفريقية. صمم برنامج التدريب من اجل
تطوير القدرات العسكرية الأساسية وتدعيم الوحدات المقاتلة وزيادة إمكانات
قيادات الأركان. وتحت تسمية "تجهيزات مصغرة وتدريبات قصوى" تمحور المشروع
حول ستة "مفاتيح": التنميط ، العملانية المشتركة ، إعداد المدربين ،
الشفافية ، الدعم والعمل الجماعي.
كما لحظ توسيع المعايير لتشمل برامج تدريب بقيادة بلدان أخرى كفرنسا وبريطانيا وبلجيكا والتعاون مع هذه البلدان.
عمدت
(المبادرة الإفريقية) بين يوليو ومايو 2000، إلى تنظيم الوحدات (بين 100
و800 رجل) في السنغال وأوغندا ومالاوي ومالي وغانا وبينين وساحل العاج. كما
قدمت وزارة الخارجية الأميركية التجهيزات الخفيفة اللازمة لأكثر من 8000
عنصر (مولدات كهربائية ، ناقلات ، كاسحات ألغام ، أجهزة الرؤية الليلية)
وخصوصا أجهزة الاتصال ، وبلغت موازنة البرنامج 30 مليون دولار موزعة على
عامي 2001 و2002. واصلت (المبادرة الإفريقية) تأمين برامج المساعدة
العسكرية أو المدنية المحددة الأهداف من قبل الولايات المتحدة منذ مطلع
التسعينات بإشراف وزارة الدفاع ، كما هي الحال في مالي مثلا. كذلك ، تابع
400 جندي سنغالي خلال شهر يوليو 2001 وضمن إطار (المبادرة الإفريقية)
تدريبات على "الحرب النفسية". وبحسب الكولونيل نستور بينو ـ مارينا: "تم
استيعاب المبادئ التي يعمل بها حلف شمال الأطلسي". كما تم تنظيم ندوات
سياسية-عسكرية شارك فيها 65 ضابطا من اجل "إعدادهم لعمليات حفظ السلام" وقد
بلغ التدريب ذروته مع إجراء تدريبات صورية معلوماتية على أوضاع الأزمة
بفضل الأقمار الصناعية.
فالمطلوب هو دائما تطوير التعاون والقدرة العملانية وفق معايير البنتاغون وإرساء تجهيزات أميركية دائمة.
2.
إعلان برنامج المساعدة على التدريب العملاني بعد أحداث 11 سبتمبر2001 ،
ضاعفت الولايات المتحدة من استثمارها العسكري في إفريقيا بعد أن قدمت لها
"الحرب على الإرهاب" الحجج الضرورية لذلك. حيث أكد الرئيس جورج بوش خلال
جولته الإفريقية في يوليو 2003 قائلاً: " لن ندع الإرهابيين يهددون الشعوب
الإفريقية أو استخدام إفريقيا قاعدة لتهديد العالم".
لقد أعادت إدارة
جورج بوش في ربيع العام 2002 ، تنظيم (المبادرة الإفريقية) لتصبح (برنامج
المساعدة على التدريب العملاني) (أكوتا) ، الذي بات يضم إضافة إلى هدف: "
الحفاظ على السلام والمعونة الإنسانية " ، تدريبات هجومية مخصصة لوحدات
المشاة النظامية والوحدات الصغيرة وفق نموذج الوحدات الخاصة وكذلك الإعداد
للتأقلم مع بيئة معادية. وباتت القوات الإفريقية مزودة بتجهيزات هجومية
موحدة (بنادق ، رشاشات ، مدافع مورتر) ولم تعد واشنطن تتحدث عن أسلحة "غير
قاتلة" كما في زمن (المبادرة الإفريقية) بل صار التركيز يدور على التعاون
الهجومي: فإذا كانت القوات التي انتشرت ضمن برنامج (المبادرة الإفريقية) لم
تجد نفسها في وضع يهدد سلامتها فان تلك التي ستعمل ضمن إطار"برنامج
المساعدة على التدريب العملاني" (أكوتا) عليها مواجهة الإخطار لا سيما
وأنها مكلفة بحفظ الأمن.
يرتبط برنامج (أكوتا) بمراكز الإعداد العسكري
التابعة لنظام التدريب المشترك بين الأسلحة كافة ، الذي يسمح بالمحافظة على
مستوى التأهيل والاستعداد العسكري. وقد افتتح المركز الأول في أبوجا في
نيجيريا يوم 25 نوفمبر 2003. يقوم التدريب في هذه المراكز على " استخدام
البرامج الالكترونية المعقدة للحرب الافتراضية والمستوحاة من ظروف المعركة
الحقيقية على الأرض (...) وحدهما نيجيريا وكندا تمتلكان برامج من هذا النوع
".
إضافة إلى برنامج (أكوتا) تشارك 44 دولة افريقية في برنامج خاص
بالضباط وهو برنامج التدريب والإعداد العسكري الدولي الذي ساهم في تدريب
1500 ضابط حتى العام 2002. بالنسبة للدول السبع المعنية (بوتسوانا، الحبشة،
غانا، كينيا، نيجيريا، السنغال وجنوب إفريقيا) ارتفعت الكلفة من 8 ملايين
دولار عام 2001 إلى 11 مليونا عام 2003. أخيرا، يتضمن برنامج (حفظ السلام
الإقليمي في إفريقيا) تدريبات على التكتيكات الهجومية ونقل التكنولوجيا
العسكرية وقد بلغت موازنته بين 2001 و2003 ما يقارب الـ 100 مليون دولار.
كما
شارك في 23 و24 مارس 2004 ، رؤساء أركان الجيوش في ثماني دول افريقية هي:
تشاد ، مالي ، موريتانيا ، المغرب ، النيجر، السنغال ، الجزائر و تونس ،
وللمرة الأولى في اجتماع سري في مركز قيادة الجيش الأميركي في مدينة
شتوتغارت. إن هذا اللقاء غير المسبوق كما تم التعريف عنه والذي بقيت
مداولاته طي الكتمان تمحور حول موضوع "التعاون العسكري في المكافحة الشاملة
للإرهاب" وبصورة خاصة في منطقة الساحل الفاصلة بين المغرب وإفريقيا
السوداء، بين المناطق النفطية في الشمال وخليج غينيا. خلال بضع سنوات تنامت
بقوة الاهتمامات السياسية والعسكرية الأميركية بإفريقيا كما دلت على ذلك
زيارة وزير الخارجية السيد كولن باول إلى الغابون وانغولا في سبتمبر 2002 ،
ورحلة الرئيس بوش إلى كل من السنغال ونيجيريا وبوتسوانا وأوغندا وجنوب
إفريقيا في يوليو 2003 وزيارة مساعد قائد القوات الأميركية في أوروبا
الجنرال تشارلز والد التي قادته إلى عشر دول هي: غانا ونيجيريا والجزائر
وانغولا وجنوب إفريقيا وناميبيا والغابون وساوتومه والنيجر وتونس ، قبل
أسبوعين على اجتماع شتوتغارت.
انطلاقا من كانون يناير 2004 ، بدأ الجيش
الأميركي في نشر إمكانات عسكرية ضخمة لدعم معركة السلطات المحلية ضد
الجماعة السلفية للدعوى والجهاد وذلك في إطار برنامج المساعدة العسكرية لـ
"مبادرة الساحل" الذي دخل حيز التنفيذ منذ نوفمبر 2003 وقد رصدت له في
العام 2004 موازنة بلغت 6.5 مليون دولار. ويقضي البرنامج المذكور بتقديم
العون إلى مالي وتشاد والنيجر وموريتانيا في مكافحتها "التهريب والمجرمين
الدوليين والحركات الإرهابية".
يوضح الكولونيل فكتور نيلسون، المسئول عن
مبادرة الساحل لدى مكتب أمانة سر وزارة الدفاع لشؤون الأمن الدولي إن
مبادرة الساحل: " وسيلة قليلة الكلفة لتأمين إعداد من الكوادر. حتى البلدان
التي لا تملك الموارد الكبيرة يمكنها الاستفادة من مراكز التدريب إذ
المقصود تجميع عدد من العناصر طيلة 15 يوما لإجراء التمارين الحربية وهذا
ما بدأ يجريه العسكريون الأميركيون في القرن الحادي والعشرين". فهي: " أداة
مهمة في الحرب على الإرهاب وأنجزت الكثير من اجل توثيق العلاقات في منطقة
طالما تجاهلناها في الماضي لا سيما بين الجزائر ومالي وبين النيجر وتشاد.
نحن نكرر القول انه إذا اشتدت الضغوط على الإرهابيين في أفغانستان وباكستان
والعراق وغيرها فإنهم سيبحثون عن أماكن جديدة منها مناطق الساحل والمغرب".
بين
زيارة الرئيس بوش ومؤتمر شتوتغارت ، تسارع الالتزام العسكري الأميركي في
إفريقيا بعد توقف أعقب انتهاء مرحلة الحرب الباردة. فقد أدركت واشنطن
ارتهانها للمواد الأولية التي تنتجها القارة وهي المانغانيز (لإنتاج
الفولاذ) والكوبالت والكروم الضروريين للسبائك المستخدمة في صناعة الطيران ،
الفاناديوم ، الذهب ، الانتيموان ، الفلور، الجرمانيوم ، يضاف إليها
بالطبع الألماس الصناعي. تملك زائير وزامبيا 50 % من الاحتياط العالمي
للكوبالت و98 % من المخزون العالمي للكروم موجود في زيمبابوي وجنوب إفريقيا
التي تمتلك إضافة إلى ذلك 90 % من مخزون مشتقات البلاتين (بلاتين ،
بالاديوم ، روديوم ، روتانيوم ، ايريديوم واسميوم) ، إذ تنتج القارة 57 %
من الكوبالت المستخلص في العالم ، و46 % من الألماس ، و49 % من المانغنيز،
و31 % من الفوسفات ، و21 % من الذهب ، وكذلك 9 % من البوكسيت ، والأسعار
ترتفع بانتظام منذ سنة 2002. فبالنسبة لاحتياطي النحاس مثلاً تحتلّ
جمهورية الكونغو الديمقراطية (RDC) وحدها المرتبة الثانية (70 مليون طن)
بعد تشيلي (88 مليون طن).
والحال أنّ طن النحاس ، الذي كان يباع بـ
1178 دولاراً سنة 2003 ، قد بات يُتداول بـ 8438 دولار في آذار 2008. أمّا
سعر التوتياء (الزنك) فقد ارتفع بنسبة 184 % ، وسعر النيكل بنسبة 170 %
وسعر القصدير 232 %. كما إن الحاجة إلى النفط في مطلع الألفية الجديدة
ستزيد أيضا من أهمية بلدان مثل انغولا ونيجيريا. مع ذلك ، قّلما تستفيد
الحكومات ، وخاصّةً الشعوب من هذه الموارد والثروات ، لدرجة أنّ هذه
البلدان الغنية بالمواد الأولية غالباً ما تجد نفسها في أسفل سلّم مؤشّر
التنمية البشرية الذي يضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إذ تحتلّ
غينيا المرتبة 160 من أصل 177 ، والجزائر المرتبة 104 ، أما نيجيريا التي
يرتبط 97.8 % من مداخيلها بتصدير النفط فهي في المرتبة 158.
بناء على
ماتقدم ، يمكن اختصار عناصر الإستراتيجية الأميركية في إفريقيا بمحورين
أساسيين: من جهة الوصول غير المحدود إلى الأسواق الأساسية ومصادر الطاقة
وغيرها من الموارد الإستراتيجية ، ومن جهة أخرى التأمين العسكري لسلامة طرق
المواصلات ، خصوصا السماح بإيصال المواد الأولية إلى الولايات المتحدة.
وكان سبق للسيد جيمس شلسنغر، وزير الطاقة الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر
أن قال خلال المؤتمر العالمي الخامس عشر للطاقة في سبتمبر 1992: " جل ما
تعلمه الشعب الأميركي من حرب الخليج أن من الأسهل بكثير الذهاب إلى الشرق
الأوسط لمعاقبة الناس من القبول بالتضحيات للحد من ارتهان الولايات المتحدة
للنفط المستورد ". بالطبع إن ما تهتم به الولايات المتحدة هو النفط
الإفريقي ، حيث يتفق الخبراء على التأكيد أن القارة الإفريقية ستصبح خلال
العقد المقبل المُصدر الثاني للنفط بعد الشرق الأوسط وربما للغاز بالنسبة
للسوق الأميركية.
في يوليو 2003 ، أدى وقوع محاولة انقلاب في ساو تومه
وبرنسيب ، وهي دولة صغيرة غنية جدا بالنفط ومتعاونة مع نيجيريا ، إلى تسريع
التدخل الأميركي في الأرخبيل. وبعد ثلاثة أشهر فقط ، قدمت الشركات
البترولية وهي أميركية أساسا 500 مليون دولار من اجل التنقيب في عمق مياه
خليج غينيا الذي تتقاسمه نيجيريا مع ساو تومه وبرنسيب. أي ضعف ما كان هذان
البلدان يأملان في الحصول عليه.
كما أعلن الجيش الأميركي عن برنامج
لمساعدة القوى الأمنية المحلية الصغيرة واقترح إنشاء قاعدة عسكرية. وقد
أعلن كل من الكونغرس وإدارة بوش رسميا تلك المنطقة " ذات أهمية حيوية "
بالنسبة لواشنطن التي أعدت العدة جيدا من خلال وزارتي الخارجية والدفاع.
فقد قام الجنرال كارلتون فلفورد ، القائد الأعلى للقوات الأميركية في
أوروبا ، بزيارة ساو تومه في أكتوبر 2002 من اجل دراسة إمكان إبرام اتفاق
إقليمي في إفريقيا الغربية على أن يصار إلى تدريب حرس الحدود في كل من
غينيا وانغولا.
تبحث الولايات المتحدة عن شراكة مع جميع البلدان
الإفريقية تحت مختلف الذرائع. فيؤكد الأميركيون مثلا أن الجيش في جنوب
إفريقيا غير قادر على القيام بأعمال عسكرية كبيرة كون 75 % من عناصره
يحملون فيروس السيدا مما يجعل بريتوريا في حاجة إلى دعم كثيف في هذا
المجال. وتستعد جنوب إفريقيا للانضمام إلى "برنامج المساعدة على التدريب
العملاني" (أكوتا). والغريب في الأمر انه لا يمكن أن يكون جميع الجنود في
جنوب إفريقيا مصابين بهذا الفيروس حيث أن الآلاف منهم يعملون في العراق
كـ"بدائل مدنيين" من خلال شركات أمنية خاصة. في الواقع أن ما تهتم به
واشنطن هو موقع جنوب إفريقيا الاستراتيجي. فخلال الحرب الباردة فتحت
بريتوريا قواعدها أمام القوات الأميركية لتسمح لواشنطن بفرض رقابتها على
المحيط الهندي بين إفريقيا وقاعدة دييغو غارسيا البحرية. كما لعبت جنوب
إفريقيا دورا أساسيا في مكافحة حركات التحرر الإفريقية المتهمة بالتعامل مع
موسكو. في العام 2001 أكد السفير الأميركي (كاميرون هيوم) أن الجنوب
إفريقيين والأميركيين " يتشاركون في التمسك بالديمقراطية واقتصاد السوق
والسعي لتحقيق مستقبل أفضل أمام الجميع ".
إن سياسة التدخل الأميركية في
إفريقيا تستهدف السيطرة على مناطق النفوذ التقليدية للدول الاستعمارية
السابقة لا سيما فرنسا. والتنافس واضح في جيبوتي احد أفقر بلدان العالم وهو
صحراوي ومعدوم الموارد. ليس له سوى أهمية إستراتيجية باعتباره يحتل موقعا
متقدما في منطقة بحرية يمر عبرها ربع إنتاج العالم من النفط إضافة إلى قربه
الجغرافي من أنبوب النفط السوداني ووجوده على الشريط الاستراتيجي بين
الساحل والقرن الإفريقي والذي تسعى واشنطن أيضا إلى فرض الأمن فيه. وبالرغم
من محافظة فرنسا على قاعدتها العسكرية الأساسية هناك في (كامب لوموان) ،
فان جيبوتي تحولت إلى قاعدة عسكرية دائمة.
وفي إطار نظرية ألحرب
الإستباقية أقرت الإدارة الأمريكية إستراتيجية نشر قواعد أمريكية في القارة
الإفريقية لمواجهة الأزمات والنزاعات المحتملة ولحماية منابع النفط التي
تشكل عنصراً هاما في القلق والاهتمام الإستراتيجي، فالولايات المتحدة بحاجة
إلى 10 مليار غالون سنوياً من النفط الإفريقي. فثمة توجه أمريكي للاهتمام
بالجوانب الأمنية للقارة عن طريق إنشاء قيادة موحدة عسكرية ، وسبق أن اعترف
قائد القيادة الأوربية لحلف شمال الأطلسي ، ألجنرال جيمس جونز: بأن
الولايات المتحدة لاتنظر بجدية للتهديدات المحتملة في إفريقيا ، وعبر عن
اعتقاده بأن القرن 21 سيشهد اهتماما أكبر، فالبنتاغون يراقب الأحداث وينسق
الجهود بين المبادرات العديدة في الأقاليم الإفريقية وقوات الاستجابة
للأزمة الإفريقية.
لقد تطرقت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام
2002، إلى أهمية تشجيع الدول لاعتماد مبدأ الأمن الجماعي والمساعدة على
تصدي الدول الإفريقية للمشاكل الإقليمية من خلال " تقوية الدول الإصلاحية
والمنظمات الإقليمية باعتبارها الوسائل الأولية لمعالجة التهديدات العابرة
للحدود "، في نطاق إستراتيجية أمنية ترتكز على بناء تحالف جماعي أو ثنائي
لمواجهة التحديات. وينطوي التصور الأمريكي على ثلاثة مستويات مترابطة:
التأكيد على أهمية التعاون مع الدول المحورية والمؤثرة في كل إقليم ، مثل
جنوب إفريقيا في ألجنوب ونيجريا في الغرب وإثيوبيا في الشرق ؛ تعزيز مكانة
الدول الإفريقية التي نجحت في تحقيق إصلاحات ديمقراطية لمواجهة التهديدات
العابرة للحدود ؛ دعم جهود تسوية النزاعات وعمليات حفظ السلام من خلال نشر
القوات العسكرية الأمريكية وفق مقتضيات المصلحة وطبيعة الأهداف وعبر
الاعتماد على مساندة الحلفاء والمؤسسات الدولية. بناء عليه ، تعمد الولايات
المتحدة لعقد تفاهمات ونشر القواعد العسكرية الأمريكية لحماية مناطق النفط
والغاز والمعادن الإستراتيجية، بما يشجع الدول الإفريقية بالانخراط في
العمليات العسكرية لمواجهة الإرهاب والاندماج في نظام العولمة الاقتصادية.
لذا
وعن طريق مبادرة عمليات السلام الدولية وعمليات الطوارئ الإفريقية وبرامج
مساعدة التدريب ، سوف تدرب واشنطن 40,000 من أفراد قوات حفظ السلام
الأفارقة ، بكلفة تقديرية تصل 600 مليون دولار خلال خمس سنوات. ويشارك
الأفارقة في عبء السلام والأمن العالمي بتقديم 30 % من قوات حفظ السلام
الدولية في سائر أنحاء العالم. وهناك أربع دول إفريقية ، هي إثيوبيا وغانا
ونيجيريا وجنوب إفريقيا ، بين الدول العشر الأولى المساهمة في القوات
الدولية.
3. تأسيس القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا أعلنت وزارة
الدفاع الأمريكية يوم 6 فبراير2007 عن إنشاء قيادة عسكرية أميركية جديدة
خاصة بإفريقيا (أفريكوم) بحلول 2008 ، لتنسيق المصالح الأمنية والعسكرية
الأميركية في جميع أرجاء القارة باستثناء مصر التي تقع ضمن اختصاصات
القيادة الأميركية الوسطى. وذكر الرئيس جورج بوش في البيان الذي أصدره
البيت الأبيض أن " القيادة الجديدة ستقوي تعاوننا الأمني مع أفريقيا وتوجد
فرصا جديدة لدعم قدرات شركائنا في أفريقيا. إن قيادتنا العسكرية الجديدة في
أفريقيا ستعزز جهودنا من أجل إحلال السلام والأمن لشعوب أفريقيا وتشجع
أهدافنا المشتركة الرامية إلى تحقيق التنمية والرعاية الصحية والتعليم
الديمقراطية والنمو الاقتصادي في أفريقيا". وفي إفادته أمام لجنة القوات
المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي يوم 6 فبراير قال روبرت غيتس وزير
الدفاع إن إنشاء (أفريكوم) ،،،
:" سيمكننا من انتهاج أسلوب أكثر فاعلية
وأكثر تكاملا عما يحدث الآن تبعا للنظام الحالي الذي يقسم أفريقيا بين عدة
قيادات عسكرية إقليمية مختلفة." الرئيس جورج بوش من جانبه أمر بتشكيل
القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم) بحلول 30 سبتمبر 2008.
وسيرأس القيادة قائد عسكري برتبة فريق وسيكون على قدم المساواة مع القادة
العسكريين الإقليميين في جميع أرجاء العالم.
وفي البيان الصادر عن
البيت الأبيض قال جورج بوش: " إن الولايات المتحدة تعتزم التشاور مع القادة
الأفارقة للتعرف على آرائهم في أفضل السبل التي يمكن أن تواجه بها قيادة
أفريقيا الجديدة التحديات الأمنية." وأضاف أن الولايات المتحدة " ستتعاون
تعاونا وثيقا مع شركائنا الأفارقة لاتخاذ قرار بشأن الموقع المناسب لمقر
القيادة العسكرية الجديدة في أفريقيا." وقال الأميرال روبرت مولار من
القيادة الوسطى الأميركية الذي يقوم بقيادة الفريق الانتقالي للقيادة
الجديدة بصفة مؤقتة من مدينة شتوتغارت الألمانية ، إن تشكيل تلك القيادة
سيتيح لوزارة الدفاع الأميركية ، القدرة على التنسيق بشكل أفضل بين
عملياتها في إفريقيا بالإضافة إلى المساهمة في تنسيق الوكالات الأخرى
التابعة للحكومة الأميركية خاصة وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية
الدولية ، وأضاف أن المسئولين في الحكومة الأميركية سيكونوا قادرين على "
العمل والتعاون الأوثق مع شركائنا الأفارقة في جميع أرجاء القارة" ، مشيرا
إلى أن دول المنطقة تطالب منذ مدة طويلة بوجود قيادة عسكرية أميركية منفصلة
ينصب تركيزها على القضايا الأفريقية" .
والمعروف أن الإسهام العسكري
في القارة الأفريقية ظل منذ العام 1983م منقسما بين القيادة الأميركية
لأوروبا التي تتخذ مقرها في مدينة شتوتغارت بألمانيا ، المسؤولة عن معظم
المناطق الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء ، والقيادة المركزية الوسطى في
فلوريدا التي تشمل مهمتها منطقة القرن الأفريقي ، وبين قيادة منطقة المحيط
الهادئ في هاواي المسؤولة عن النشاطات في منطقة آسيا المحيط الهادئ وعدد من
دول الجزر الكبيرة في غرب المحيط الهندي بما فيها جزيرة موريشيوس.
ومن
المخطط إن تقوم القيادة العسكرية الأميركية الإقليمية الجديدة لأفريقيا ،
بوصفها منظمة دفاعية دبلوماسية اقتصادية مدمجة ، بتعزيز جهود الولايات
المتحدة المبذولة لتقدم الأمن والرخاء الاقتصادي في أفريقيا. وصرحت ليندا
توماس-غرينفيلد ، كبيرة نواب مساعدي وزير الدفاع لشؤون أفريقيا:
" بأن
الولايات المتحدة تأمل بأن لا يساعد دعم الولايات المتحدة للإصلاح الدفاعي
وبناء الإمكانيات العسكرية للدول الأفريقية في معالجة الصراعات وتخفيف
العنف والتطرف وحسب ، بل ويؤدي أيضا إلى خلق الظروف المؤدية إلى مزيد من
النمو الاقتصادي".
وعلى الرغم من أن تحسينات ملحوظة طرأت على المناخ
الأمني والاقتصادي في أفريقيا ، فإن الكثير من المستثمرين الأميركيين ما
زال يعتبر مشاريع البنية التحتية طويلة الأمد مغامرة خطرة نظرا لما يرونه
من افتقار القارة إلى الاستقرار. والمعروف أن البنية الأساسية المتخلفة قد
أعاقت جهود كثير من البلدان الأفريقية للمحافظة على ديمومة النمو الاقتصادي
السريع والاندماج بشكل أكمل في التجارة الدولية.
وأوضحت مساعدة نائب
وزير الدفاع لشؤون أفريقيا تريزا ويلان: "إن في رأس أولويات القيادة
الجديدة ستكون مساعدة الأفارقة في تشكيل قوة احتياطية يصل حجمها إلى 25,000
جندي تكون مرتبطة بالاتحاد الأفريقي". وأوضحت أن تلك الوحدة يمكن أن ترد
بسرعة على النزاعات في القارة دون الحاجة إلى انتظار إجراءات الأمم
المتحدة. وكشفت أن وزارتي الخارجية والدفاع تشتركان في برنامج مع الدول
الأفريقية ينفق 250 مليون دولار سنويا. وقال الجنرال وورد الذي كان يتولى
منصب نائب قائد قيادة أوروبا إن برامج التعاون الأمني يبقى حجر الزاوية في
الإستراتيجية الأميركية الساعية إلى "تعزيز الأمن المشترك" في أفريقيا. حيث
أكد روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي: إن قرار الرئيس جورج بوش إنشاء
القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا ، هدفه: " الإشراف على التعاون
الأمني وبناء قدرات الشراكة ودعم العملية الدفاعية والقيام بمهمة غير
عسكرية والقيام كذلك بعملية عسكرية إذا أمرت بذلك في القارة الأفريقية ، إن
هذه القيادة الجديدة ستمكننا من مقاربة أكثر فاعلية وتنسيقاً بالمقارنة مع
الوضع الحالي بقيادة مركزية وأخرى أوروبية".
"إذا كانت النية من تشكيل
(أفريكوم) للتأكد من فض النزاعات والحروب في القارة فإنها فكرة جيدة "، وفق
اعتقاد الصحفي ألليبيري زوغار جاينز ، "كما إنها فكرة جيدة بالنظر إلى ما
يقال عن وجود جماعات إرهابية تستهدف الغرب انطلاقاً من البلدان الأفريقية ،
من جهة أخرى إذا كان الغرب يعتزم القدوم إلى أفريقيا للهيمنة على
اقتصادياتنا ومواردنا الطبيعية فإن ذلك سيكون بمثابة إحياء العبودية".
فالحرب على الإرهاب تستعمل ذريعة لتأسيس هذه القيادة ، لكن الهدف
الإستراتيجي يتمثل بمحاولة واشنطن احتواء التوغّل الصيني في القارة
الأفريقية ، والولايات المتحدة الأميركية بطبيعة الحال لا تسمح بوجود الصين
كمنافس اقتصادي وتجاري في هذه المنطقة ، ومثلما قال نابليون: كل شيء جائز
تحت الشمس. لذا يسود القلق بين أوساط المفكرين والسياسيين والاقتصاديين من
قيام الولايات المتحدة بإنشاء القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا ألتي
ستدخل المرحلة التنفيذية بحلول أكتوبر عام 2008 ، حيث تعتبر هذه القيادة
بمثابة مناورة تندرج تحت غطاء الحرب على الإرهاب والتي ستستنزف المزيد من
الموارد لتوسيع الهيمنة الإمبراطورية للولايات المتحدة على أفريقيا ، أن
هذه القيادة العسكرية الأمريكية تُعد تكريساً للحرب الباردة الجديدة
وتصعيداً خطيراً للأزمات ولإثارة بؤر التوتر الكامنة في القارة الإفريقية.