اعتبرها البعض عادية وغير مميزة وأن قسماً كبيراً من شهرتها جاء من واقع
انتحارها، ورأى البعض الآخر بأنها أهانت وخانت مواضيعها وأنها صورتهم
يائسين وهشّين، ومنهم من اعتقد بأن صورها قاسية وحتى وحشية؛ ولكن أيضاً ثمة
من قارنها بفرانز كافكا وصمويل بيكيت في محاولتها استكشاف العبثية
والقدرية في حياة الإنسان، ورأى أحدهم بأنها غيرت نظرة العالم إلى الصورة
ونظرة الصورة إلى العالم، ومنهم من وصف صورها "بالثورية".
هي المصورة الأمريكية الأكثر إثارة للجدل ديان آربوس ، ولدت في 14 آذار
1923 لديفيد نيميروف ابن مهاجر روسي وغرترود راسيك نيميروف ابنة مالكي
مخزن راسيك للفراء، وقد ساهم الأب في إدارة راسيك بعد زواجه من غيرترود
وشارك في تحويله إلى مخزن كبير، فنشأت ديان في كنف عائلة يهودية ميسورة
الحال جنبتها آثار الكساد الاقتصادي العظيم في الثلاثينيات وجعلتها منيعة
من أي عسر في حياتها، وربما لذلك كانت الفتاة تجد وضعها كغنية مُذلاً.
وفي عمر الرابعة عشرة تعرفت المُراهِقة ديان على آلان أربوس الذي كان
في التاسعة عشر من عمره ويعمل موظفاً في قسم الإعلانات في مخزن والديها،
ونشأت بينهما علاقة صداقة وحبّ، واستمرت رغم رفض أهلها لهذا التقارب، وقد
تزوج الاثنان في العام 1941 عندما أصبحت ديان في الثامنة عشرة، وفرضت بذلك
إرادتها على الوالدين الذي قبلا بالأمر الواقع أخيراً وباركا الزواج؛ وفي
العام 1945 رُزق الزوجان الشابان بابنتهما الأولى دون (والتي ستصبح كاتبة
فيما بعد)، وفي العام 1954 كانت الثانية آيمي ( والتي ستصبح هي نفسها مصورة
فوتوغرافية).
زرع آلان آربوس حبّ التصوير في نفس زوجته، وبدآ- مع أنهما كرها عالم
الأزياء- في العام 1946 بالعمل التجاري والدعائي لدى بعض المجلات، وقد
توقفت ديان عن هذا العمل في العام 1956 وبدأت مشوارها الخاص في التصوير؛
وانفصلت عن زوجها في العام 1958 ولكن لم يحدث الطلاق بينهم رسمياً إلا في
العام 1969.
كانت ديان آربوس تمرّ في حالات اكتئاب مثل والدتها، وهذا ربما ما قادها
إلى الانتحار وهي في عمر الثامنة والأربعين وذلك في 26 تموز 1971.
يقول آلان آربوس: "لطالما شعرت بأن انفصالنا هو الذي جعلها مصورة، لأني
لم أكن سأوافق على ذهابها إلى الأماكن التي كانت تتردد عليها، فهي ارتادت
منازل الناس والبارات في باويري، إنه أمر رهيب بالنسبة لي."
وفعلاً كانت ديان تتردد على بيوت الناس ومخيمات التعري والكرنفالات
والمسارح وغرف تغيير الملابس في الكواليس والسيرك والاستعراضات وقاعات
الرقص والمهرجانات ومدن الملاهي وأماكن كثيرة مشابهة لتلك، ومواضيع صورها
تتمحور حول هذه الأماكن، فمعظم الصور هي بورتريهات لأقزام وعمالقة ومخنثين
ومتعريين ومتخلفين عقلياً ومُعاقين وشاذين إضافة طبعاً إلى أطفال ونجوم
وعائلات من الطبقة الوسطى، ولكن حتى هؤلاء لم يكونوا ليختلفوا عند ديان عمن
سبقهم، فما يجمع صورها هو العبثية واللامعنى.
ترى جوديث غولدمان بأن ما يسحرنا في صورها قد يكون هؤلاء الشاذين
واللاأسوياء، وبأننا فعلياً نتلذذ في التحديق فيهم وخاصة لو كنا وحيدين ولا
رقابة علينا، ولكن هذه البورتريهات أقسى من أن نرتاح للتحديق فيها، فديان
تنقل الإذلال الذي كانت تشعر به وهي صغيرة- لأنها ثرية- إلى الناظر لصورها
وتريه المذلة في تفوقه على مواضيعها، فجميع الشخصيات تحدّق في الكاميرا
ولنكون أكثر دقة تحدّق في الناظر، وتتحدّى تفوقه وهارمونيته ويبدو البعض في
صورها وكأنهم متصالحين مع ذواتهم أو متكيفين مع أوضاعهم وهذا يزيد إحراج
الناظر.
ثمة قسوة أخرى في صور آربوس وهو ما لا يسمح لنا بأي اندماج أو انصهار
مع الصورة، هي فجاجة تتعمدها ديان، حيث تبدو صورها مباشرة وصريحة، وهي
تخبرنا بكل وضوح بأن ثمة موضوع وناظر ووسيط، وهي تشعرنا دائماً بوجودها
كوسيط أو مصور بواسطة تحديق الأشخاص في الكاميرا، وقد يبدو لنا بأن (A jewish giant at home with his parents in the Bronx, N.Y. 1970)
من صورها القليلة المتحركة والانسيابية، حيث تبدو العائلة وكأنها في حالة
حركة، والابن العملاق ينحني على والديه والوالدين يتطلعان إلى ابنهما وهنا
نشعر بقصر قامتهما وعجزهما، وهي تفاصيل وحركة تفقدنا القليل من حضور ديان
وكأننا أمام لحظة عابرة.
ولكنها بالتأكيد ليست كذلك، فما يجمع صورها هو سكونيتهم وقدريتهم،
والحركة الموجودة في هذه الصورة تعزى قليلاً إلى حضور الوالدين، أما جوهر
عملها هو أن معظم الأشخاص الذين صورتهم لا يمكن اعتبارهم في وضع صعب قابل
للتغيير أو التحسّن، بل هم في وضع تراجيدي قدري هو حياتهم، فالقزم هو قزم،
كان كذلك وسيبقى هكذا، هذه حياته والعملاق أيضاً، والمخنثون والمتعريون هذه
هي هويتهم، والقزم لا يستطيع أن يلعب دوراً آخر سوى دوره كقزم، والعملاق
مُجبر مثل المتخلف عقلياً على أداء دور وحيد، وماذا عن المخنث أو المتعري
أو فنان السيرك؟ هل يحقّ لهم بعد هويتهم هذه أن يختاروا دوراً آخر في
الحياة؟ إن اختيارهم لدورهم الحالي- هذا إن كان اختياراً حقاً- يفرض عليهم
أن يبقوا في دورهم المحدد ذاته، فقد تبخرت كل الخيارات الأخرى؛ حتى الفتى
في (Boy with a straw hat waiting to march in a pro-war parade, N.Y.C. 1967)
الذي ينتظر المسيرة المؤيدة للحرب، يبدو بكاميرا ديان عالقاً بدوره
وبيئته، وسواء كان واعياً لذلك أو غير واعٍ، فإننا نراه متورطاً ولحظته هذه
في الصورة هي كل حياته.
هذه هي كاميرا آربوس، ليست سياسية أو تاريخية، ولم يكن بالنسبة لها
أبداً تعبيراً عن موقف، بل هو شيء آخر، ينطلق من انجذاب نحو الشاذ والغريب،
وسبب انجذابها- كما ترى سوزان سونتاغ- هو خلفيتها المثالية، وحياتها
الهانئة واليسيرة التي عاشتها، ويبدو هذا معقولاً، فتلك الحياة "السعيدة"
والمنيعة عن المحن قضت على أي إمكانية لها بأن تعيش حياة مليئة أو تجرب أي
وجه من المغامرة، ويبدو أن الكاميرا كانت وسيلتها لتعيش حياتها بامتلاء
وتُغامر وتُواجه المحن، وأن تتحول بواسطتها من فتاة خجولة إلى جريئة
ومتحدية، فالكاميرا تحصّنها وتفصلها عن كل ما حولها وفي الوقت ذاته تعطيها
الفرصة والإذن لخوض مغامرات وحيوات جديدة.
طبعاً هذا وجه من شخصيتها كمصورة فوتوغرافية، فالتصوير بالنسبة لها
أكثر من ذلك، نتلمسه في كرهها التصوير في عالم الأزياء الذي يعتمد على
الوهم، فبالنسبة لها التصوير الفوتوغرافي فن كامل لا حاجة به إلى التزييف
وأساسه الصدق والمباشرة، وهي انطلاقاً من ذلك حاولت أن تنتهك راحتنا
وسكينتنا وعملت على طرح تساؤلات أكثر من تقديم أجوبة، وربما التحدي الأكبر
للناظر كان في مفهوم الجمال، فهل يمكننا اعتبار هذه الصور بالأبيض والأسود
والمتقشفة والفجّة جميلة؟ ربما جماليتها تكمن في لا جماليتها، والجمالية
هنا هو ما يعتمده المجتمع السوي، فهل تعطينا آربوس مفهوماً جديداً ومتمرداً
وغريباً عن الجمال أم أن جماليتها وبكل بساطة وهم؟ هي تتحدانا ومفاهيمنا
السوية بكل هذا الشذوذ والتخنث والهامشية والغرابة واللاانتماء.
لقد حاولت أن تسبر مفاهيم الناس ومشاعرهم عن طريق الشذوذ والهامشية،
لقد وضعت الإنسان السوي أمام مرآة غريبة وغير نمطية، ولا يمكن لمن ينظر إلى
صورها أن ينسى تلك المواضيع، فهنا ضحكات متخلفين عقلياً وابتسامة ماكرة
على وجه متعرية شابة وتجهم على وجوه أفراد عائلة من المتعريين، ونظرة حكمة
لا تناسب أعمارهم على وجهي مراهقَين يرتديان معطفين طويلين، وتعبير يأس
وإحباط في عيني ميا فارو، وثقة بالغة مرتسمة على وجه قزم مكسيكي، والفتاتان
التوأم إحداهما تبتسم قليلاً والأخرى تكشر قليلاً، والصورة الأخيرة هي
واحدة من أشهر ما التقطته كاميرا آربوس وقد حاكى ستانلي كوبريك هذه الصورة
لاحقاً في فيلمه إشراق.
ماتزال الصدمة التي تخلفها الصور تملك فعاليتها حتى الآن، والكثير من
مواضيعها تبقى محفورة في ذاكرتنا وتطارد مخيلتنا، وربما أكثر هذه الصور
والمواضيع قوة هي صورتها هي نفسها بينما كانت حاملاً، فهي تقف بجانب
كاميرتها أمام المرآة عارية إلا من سروالها الداخلي الأبيض وبطنها منتفخ
قليلاً، وتصوّر هذه اللحظة العابرة في حياتها، فهي تشعر بتحولها الجسدي
والروحي وحتى الاجتماعي، وتقرر توثيق هذا التحول وتخليده، أو ربما إيقاف
الزمن بواسطة هذه الصورة، فما نراه على وجهها هو مزيج من دهشة وخوف… وسكون.
لم تحصل آربوس على الاعتراف الكلي إلا في الثمانينات، وكانت قبل ذلك في
السبعينات قد تحولت إلى أيقونة بين المصورين الفوتوغرافيين الشباب، ومع ذلك
ما يزال الخلاف قائماً حولها، وما يزال البعض يزدري أعمالها، ولكنها
وببساطة مثلت شيئاً جديداً ومختلفاً ومستفزاً، جسّدته في سعيها إلى تصوير
الهامشيين وتجنبها للنمطية والابتذال وكشفها للبشاعة واللامعنى.
الجمعة نوفمبر 04, 2011 4:23 am من طرف free men