الحركة النسويةمن حدود الهامش إلى افتعالية المركزهاشمي غزلان عندما أعلنت الحداثة عن وعيها الزائف
المنبني على جملة تناقضات وممارسات إقصائية،وحينما أظهرت وجهها المسيج
بالدمار بعد أن فشلت في تحقيق ما وعدت به عقلانيتها المفتعلة،أصيب الإنسان
المعاصر بخيبة إزاء كل تلك الشعارات الواهمة خاصة بعد الحرب العالمية
الثانية،فأعاد النظر في كل ما أنتجه العقل واندلعت اضطرابات عديدة في فرنسا
عام 1968 امتدت إلى أجزاء عديدة من العالم،تعبر عن رفض مطلق لسلطة الآباء
والسلطة المدرسية،وتحاول القضاء على كل نموذج متعال.من هنا ظهرت تيارات ما
بعد حداثية وضعت كل منجزات الحداثة تحت مشرحة النقد
والمساءلة،منها:التفكيكية ،مابعد
الكولونيالية،الزنوجة،العبثية،النسوية........كان هدف هذه النظريات هو
القضاء على اليقين والاهتمام بما هو مهمش أو قابع على حواف التحقير،وتوضيح
أنه لا وجود لتفسير عقلي لكل نشاط ثقافي لا يشوبه التحيز،ولا وجود لثقافة
نخبوية في مقابل أخرى دونية،ومن ثمة لا وجود لنموذج متعال لتفسير الظواهر
،وإنما التفسير يكون من داخل الظاهرة ذاتها.وهذا ما يؤكد الاحتفاء بالتعدد
والتحول وإلغاء الفواصل بين الثنائيات الضدية التي أدانتها ووجدت فيها سببا
للقمع والإرهاب والاستبعاد.
وإذا سلمنا مع بيار بورديو أن التاريخ
والتراث،اللغة.........كل المرجعيات هي سلطات رمزية حاولت تأطير العقل وفق
نموذج محدد ،أو هي جملة منظومات قيمية استغلت لخلق مراكز محددة أو تراتبات
معينة،فقد كانت التفكيكية مع دريدا ـ كما وصفت ذلك جوليا كريستيفا ـ وسيلة
هذه التيارات لتخريب المعنى الثابت،ولإعادة ترتيب الأدوار،أو القضاءعلى عنف
الخطابات المركزية التي استطاع فلاسفة الاختلاف:نيتشه وميشال فوكو وجيل
دولوز.......فضح تجلياتها الاستعمارية والقمعية.
في ظل هذه الظروف المسكونة بهاجس المغايرة
سعت الحركات النسوية إلى مواجهة الأيديولوجيا الأبوية(البطريركية) التي
أجهزت على الحدود المتساوية ،لخلق وجوه المختلف وفق قوالب ومعايير ذكورية
تنظر للذات الرجالية على أساس تملكها للقوة ومقومات السيطرة،في حين تنظر
للذات الأنثوية بمنظور يؤسس لوجودها المنتقص والهزيل.وبعد كتاب سيمون دي
بوفوار "الجنس الثاني" واصلت الحركات النسوية الحديثة نضالها ضد ما هو سائد
وماهو سلطوي،إذ هاجمت ماري ألمان في كتابها "التفكير حول المرأة" مركزية
الرجولة في الفن،ودعت لتدمير قيم الذكر وتقويضها ،عن طريق إنشاء لغة وكتابة
تحتفي بالمتعدد والمتحول في وجه كتابة أساءت التمثيل باعتمادها آليات
خطابية عديدة.
رصدت الين شولتر في كتابها "أدب خاص بهن"
أهم التحولات الطارئة على الكتابة النسوية منذ عهد الأخوات برونتي،حيث كانت
الأعمال النسائية تمتثل للمعايير الجمالية الرجالية السائدة ثم بدأ الخروج
عنها بفعل تدريجي،لتخلق اختلافا كبيرا بينها وبين الكتابة الرجالية،تعبيرا
عن وعي جديد يحاول إيجاد وضع مغاير للهامش في مقابل المركز،خرقا لثبوتيته
وتحقيقا لمكانة جديدة يتم بواسطتها زحزحة الرؤية باتجاه المخالف ،وذلك دفعا
له نحو واجهة الفعل الثقافي ليعبر عن حالة السخط الأنثوي من الوضع
السائد،أملا في تغيير الأدوار حيث تسير الكتابة النسوية نحو خلق مراكز
جديدة وفاعلة ،ولعل من أبرز الكاتبات اللاتي ساهمن في تأسيس هذه
النظرة"فرجينيا وولف"التي قامت بدراسة أهم المشكلات والمعوقات الاجتماعية
والاقتصادية التي تواجه الكاتبات ،في محاولة للتحرر من كبح الكتمان وتحقيق
زمن أنثوي في ثنايا الكتابة يحتفي بالبوح.كانت كتابة وولف محاولة لخلق
معايير جديدة في العمل الأدبي مخالفا لما هو سائد وتقديما لهوية مغايرة
تؤمن بالاختلاف ،وتسعى للقضاء على التمايز القيمي المتوارث بإرباك مسلماته
وكشف تناقضاته،وفضح سلطاته القمعية التي ترغب في خلق أدوار مهمشة واحتقارية
لكل ماهو صنع نسائي،حيث يمكن اعتبارها كتابة محاكمة للتاريخ الأدبي الذي
كان صنعا رجاليا.وقد تبنت الحركات النسوية الأدبية العربية أيضا هذا
المنظور الأيديولوجي،فحاولت أن تلفت انتباه المؤسسة الثقافية المنبنية على
منطق رجالي إلى دورها الفاعل وأحقيتها في بلورة اتجاه أدبي جديد يحتفي
باهتماماتها،ويصوغ أسئلتها متحررا من لغة الاستعارة التي مثل بها الرجل
المرأة حينما تكلم مكانها والتي لم تكن لغة بريئة بل شابها الكثير من
التحيز.
إن العقل الإنساني قائم تصوره على جملة
ثنائيات ضدية: خير/شر، أنا/آخر،ذكر/أنثى.....تظهر تجلياتها في الخطابات
المختلفة التي يشوبها فعل التمركز،حيث يتعالى الطرف الأول على الثاني
ويتعامل معه بمنطق التهميش ،متشبثا بداء الاصطفاء على حد تعبير علي حرب.ومن
خلال استقصائنا لفعل التمركز والتحيز وجدناه يتم عبر آليات خطابية عديدة
منها: آلية الطمس(إلغاء الخيار المعاكس أي بطمس الخطاب الذي يرجح الطرف
الثاني المهمش)،آلية إعادة التمثيل والتكييف (بتعديل الخطابات لصالح الطرف
الأول الرجالي حيث يتم تمثيله بكل صفات الكمال عكس الطرف الثاني،أو تكييف
المرأة عملها وفق معايير رجالية)،آلية الترميز المشفر(حينما تهرب الذات
الأنثوية من سلطة الرقيب فتمرر رسائلها بطريقة غير مباشرة)،وإذا تتبعنا
الحراك الأدبي الأنثوي بما فيه العربي وجدناه حبيس هذه الآليات،وهذا كله
أسهم في إنتاج وعي أدبي مشوه يبتعد عن صياغة أسئلة الذات الأنثوية الحقيقية
ولحظاتها الأصيلة،في حين أن الكتابة النسوية لو تحررت من هذا المنظور
المتحيز لكانت أكثر أصالة ،إذ الإبداع فعل إنساني كما قالت سمر ديوب
المعيار الوحيد الذي يميزه ما أضافه لا جنس المبدع.لذا رفضت بعض الناقدات
والأديبات هذا التقسيم منهن:غادة السمان في كتابها "القبيلة تستجوب
القتيلة"حيث قالت:"حينما يولد العمل الأدبي لانسأل ولد أو بنت وإنما نسأل
جيد أو سيء "،وكذا الناقدة جميلة حمادة والأديبة زهور ونيسي وأحلام
مستغانمي والناقدة المصرية سهام بيومي التي تعتبر هذا التقسيم اعترافا
ضمنيا بأن النساء قاصرات على الإبداع .