روائع القصة المغربية القصيرة
محمد أمنصور
أجمل قصة في العالم
"استيقظت
من النوم فجأة وهرولت نحو المرحاض
.
هناك ، أفرغت ما في بطني ففوجئت وأنا أغسل إستي بدماء حمراء تتشظى.
أمس شربت بيرة صقيعية البرودة ، وللتو أحسست بأمعائي تتمزق ، لكن العطش
المستبد بي جعلني أشرب الزجاجة كاملة قبل أن أغادر الحانة فورا وكلي يقين
بأن ذبحة ما أصابت أمعائي في المقتل
".
بهذه المقدمة أفكر في كتابة أجمل قصة في العالم
.
قصة لم يسبق لأحد أن كتب مثلها
.
لا
.
أنا لا أفكر وحسب بل شرعت فعلا في الكتابة ، والمشكل الوحيد عندي الآن هو
الطريقة التي تجعلني أكتب بها عن نفسي دون أن أسيئ إليها
.
يقال إن الكلام بضمير المتكلم مريح للنفس وله تأثير سحري في وجدان القارئ
.
لم يكذب من قال هذا الكلام ، فالحديث عن واقعة واحدة بضميرين سرديين
مختلفين يجعل منها قصتين مختلفتين إن لم تكونا متناقضتين
.
ضمير أنا ليس هو ضمير هو
.
وضمير أنت لا يمكن أن يكون هو ضمير نحن ، لذا قررت أن أكتب أجمل قصة في
العالم انطلاقا من الواقعة التي حدثت لي هذا الصباح بضمير المتكلم ،
والاستفادة من السحر الخاص لهذا الضمير قادتني إلى كتابة ما يلي
:"
استيقظت من النوم فجأة وهرولت نحو المرحاض
.
هناك أفرغت ما في بطني ففوجئت وأنا أغسل إستي بدماء حمراء تتشظى.
أمس شربت بيرة صقيعية البرودة ، و للتو أحسست بأمعائي تتمزق ، لكن العطش
المستبد بي جعلني أشرب الزجاجة كاملة قبل أن أغادر الحانة فورا وكلي يقين
بأن ذبحة ما أصابت أمعائي في المقتل
" .
أتوقف عند كلمة مقتل و أراجع ما كتبت
.
كلمتا
"
تتشظى"
و
"
ذبحة
"
تبدوان لي غير مناسبتين
.
هل نقول الدماء تتشظى أم الدماء تنهمر ؟
..
ولم لا
..
تسيل ؟
..
تسيل مقبولة نوعا ما
..
الدماء تنهمر مثل الشتاء..
نقول تهطل أو تنهمرأو تفور..
إذن فارت الدماء ، من فار يفور
..
لست أدري
!..ثمة
شيء ما يزعج في كل هذا..
شيء غير مناسب في وصف السيلان الغزير للدم بالتشظي.
هل الدم زجاج حتى يتشظى؟
..
ثم كلمة ذبحة
!! ..
آه
..
نقول ذبحة صدرية ، مقبولة ، لكن ، ذبحة في الأمعاء
!!..
هذا تعبير غير دقيق ولامطابق
..
ربما كان ضروريا العودة إلى قاموس طبي لتدقيق العبارة
.
طيب
.
في كل الأحوال هذه أمور بسيطة سأعود إليها من أجل تدقيقها حالما أنهي كتابة
القصة ، والأهم الآن هو أن أواصل الكتابة
:
" ...
قبل ذلك بأعوام ، كنت قد هبطت على ويسكية اصيك فنزفت دما ، ولما ذهبت إلى
الطبيب وحكيت له قصتي مع زجاجة الويسكي صرخ في وجهي موبخا
:
ـ أنت حمار
..! ..
كيف تفعل هذا ؟
..
إنه انتحار
..!!
قلت له
:
ـ ولكن المرأة التي أعشق أهدتني الويسكية في عيد ميلادي وكان علي أن أبرهن
لها على حبي الشديد لها بالشرب من فم الزجاجة ، بل بالشرب اصيك وليس شيئا
آخر...
قلت ما قلت فبدا الطبيب مصعوقا من جوابي غير المنتظر ، بل قاطعني هائجا:
ـ اسمع
! ..
إن في معدتك الآن ثقبا ، وسيتعين علينا المرور إلى المرحلة الثانية من
التشخيص وإلا فإن النزيف سيقتلك
..سيستنزفك
من الأسفل أولا وبعد ذلك يقتلك
..
لابد أنك مجنون بما أقدمت عليه
..
لابد
..
سيحدث لك
..سيحدث
لك لابد ما لم تفعل
..
كذا ، وكذا
...
وما فعلت
..
وما لم تفعل إلخ
..إلخ..
رجوته أن نرجئ المرحلة الثانية من التشخيص إلى الغد لأن ما معي من نقود لا
يفي بالغرض وغادرت العيادة
.
ذهبت إلى حال سبيلي ولم أعد إليها قط ، ومنذ ذلك العهد وأنا حي
.
لم أمت بعد ، والدليل أنني أحكي الآن هذه الحكاية وأنا في كامل حياتي
.
هل يوجد هذا التعبير في اللغة العربية ؟
..
كامل حياتي
!!..
ربما يوجد وربما لا يوجد
..
في الدارجة نقول كأس حياتي ، أما كامل حياتي فلأول مرة أسمعها من راوي هذه
القصة الذي ليس هو أنا ـ وأنا حريص جدا في هذه القصة بالذات أن تميزوا
بيننا ـ ، أقصد ، لأول مرة أقرؤها شأني في ذلك شأنك أيها القارئ الآن وأنت
تتابع تشعبات قصة حلم مؤلفها ذات يوم أن يكتب أجمل قصة في العالم!
الخلاصة إذن ، نسيت حكاية النزيف الأول ولم أتذكره إلا اليوم مع حدوث
النزيف الثاني الذي لا أعرف مصدره بعد ؛ أمن المعدة هو آت أم من الأمعاء ؟
..
بسبب مرض البواسير المزمن عندي أم لإسرافي هذه الأيام في شرب عصير الباربا؟(
هل ما ينتج عن عصيرالباربا يسمى عصيرا ؟
)..
لا أعرف بالضبط فأنا لست طباخا ماهرا ولا طبيبا حتى أتحقق من مصدر هذا
النزيف ولو أنه يخيل إلي أن للأمر علاقة بالكحول
.
أقصد بالويسكي أو البيرة
..
ولو أن المؤكد هو أن المخرج الذي أنزف منه واحد
(...)" .
سأتوقف الآن عن مواصلة كتابة هذه القصة لأنني لست متأكدا ما إذا كان يهم
القارئ أن يعرف
تاريخ
النزيف الدموي لإست بطل قصة متخيلة لاأساس لها في الواقع ، فقد شربت فعلا
أنا عبد الخالق البهجة في الليلة الماضية بيرة باردة للغاية أحسست بعدها
للتو أن أمعائي تتمزق بشكل شنيع
.
غير أن المشكل ، مع ذلك ، لا يكمن في أسباب أو نتائج الشرب ، بل في ضمير
المتكلم
.
فإلى أي حد يكون مناسبا لي ككاتب محترم في الحي الذي أقطن فيه وموظف موقر
في مكتب البريد الذي أشتغل به ، أن أقص ما وقع لي من نزيف في إستي ذات صباح
بضمير المتكلم ؟ ألن يكون من الحكمة إسناد هذه المصيبة إلى ضمير الغائب
فأبعد بذلك الشبهة عني، وبالضبط ، عن هذا الموقع الحساس من جسدي؟
..
ثم أي فائدة أجلبها لنفسي أو لغيري إن أنا عرضت مؤخرتي على قارئ مجهول
السيرة والنوايا والعادات ، بل والبليات، بدعوى الأدب ؟..
طبعا ، سيقول النقاد الأكاديميون إننا نعرف أن بطل قصتك ليس هو أنت المؤلف
..
وهذا يعني أن الإست المذكور ليس إستك الفعلي المثبوت أنه من لحم ودم بل
مجرد إست ورقي..
وبناء عليه ، ففي تقديرنا نحن النقاد الأكاديميون ما يرويه السي عبد الخالق
البهجة ليس هو الحقيقة ، بل مجرد خيال في خيال ، مهما أوهمت مواصفات الإست
الورقي للبطل بمطابقة مواصفات إست الشخصية الحقيقية
...
أما الناس العاديون فسيقولون..
النحافة وفقر الدم والبواسير ، هذا ما هو معروف عن السيد عبد الخالق البهجة
بين مقربيه
.
إذن ، كل ما سمعنا أنه كتبه عن البيرة الباردة والويسكية اصيك لا يمكن أن
يكون سوى إشاعات ،وفي أسوأ الأحوال كلام حرف عن صيغته الأصلية..
فالرجل مؤمن بالله
..
يؤدي الصلوات في أوقاتها
..
يصوم رمضان
..
يحلل رزقه وصيامه بالزكاة وقد رشح نفسه على الأقل ثلاث مرات للذهاب إلى
الحج في إحدى بعثات الوزارة الوصية ولا يزال ينتظر
!!
فكيف لرجل هذه سيرته وتلك أوصافه أن يشرب البيرة الباردة أو مجرد جغمة من
الويسكي اصيك؟!.أما
بهتان حكاية الإست
! ..
فهل يوجد من يلطخ سمعته بهذا الشكل السافر لمجرد إرضاء نزوة من نزوات ما
يسمى بالكتبة ؟
..
الخوار هذا
..
نأتي الآن إلى مشكل آخر
.
إذا كنا نعرف ماذا سيقوله النقاد الأكاديميون الذين يميزون بين السارد
والمؤلف ،وإذا كنا نعرف ماذا سيقوله غيرهم من الناس العاديين ، فماذا عن
الموظفين زملاء السيد عبد الخالق البهجة في إدارة المكتب المركزي للبريد ؟
فأنا أفكر في نشر هذه القصة بالذات على صفحات أكبر جريدة في البلد كي أضمن
قراءتها من لدن الأصدقاء والأعداء
.
لماذا ؟ لأنني ، ببساطة ، أحب الشهرة والانتشار ، ويكذب من يقول إنني أكتب
لمجرد تزجية أوقات الفراغ ، أو حتى طمعا في تحصيل المال
! ..
فأنا كغيري ممن يكتبون أموت في الشهرة ، لذلك أكتب من أجل الشهرة والشهرة
فقط
..
ولأن قراء أكبر جريدة في البلد ليسوا جميعهم نقادا أكاديميين فلا شيء يضمن
لي حصانتهم بعد قراءة قصتي من التفكير مباشرة في مؤخرتي ؛ أقصد تحديدا،
إستي أنا المدعو عبد الخالق البهجة
.ألن
تكون هذه مصيبة ؟ أنا عبد الخالق البهجة تسلط الأضواء دفعة واحدة على
مؤخرتي ، ولماذا ؟ ثم من يضمن لي أن لا أكون سيء الطالع يوم النشر فيقرأ
قصتي هذه بالذات كل راكب قطار مسافر إلى أي مكان يدفع عنه سأم السفر ، أو
كل مبحلق محاصر في أي موعد بأي قاعة انتظار في أي عيادة طبيب أسنان ، وقد
يكون صاحب السن المسوسة ذاك أحد زملاء المهنة
..
لم لا ؟..
يا للمصيبة بعد ذلك..!
سيلتهم القصة بشراهة ويفهمها طايرة مادمت أكتب قصصي بأسلوب شعبي بسيط وواضح
في متناول العقول الصغيرة والكبيرة على اختلاف قدراتهم ومداركهم ومستوياتهم
الدراسية
.
إن زميلي الموظف صاحب السن المسوسة الذي قد يقوده ألم الأسنان إلى قاعة
انتظار عيادة دكتور ما حيث أكبر جريدة وأهمها على الإطلاق في البلد منشورة
على مائدة الصالون الزجاجية لن يرحمني ؛ وكيف له أن يرحمني وهو لن يكتفي
بالقراءة العابرة بعد ضبط الفضيحة ، بل سيحتفظ بالجريدة ، أو يحتفظ فقط
بالصفحة المخصصة منها للأدب كي لا يتهم بالسرقة ، ولما يصل إلى بيته يبحث
عن المقص ، وبالمقص يقتطع كل ما بين الإطار من حروف فيها القصة المعلومة
.
بعد ذلك ، لا أحد يضمن لي أنه سيتجه فورا نحو أقرب كشك للاستنساخ ، يجعل من
القصة الواحدة ألف ، يشجعه على ذلك التخفيض الكبير في ثمن الاستنساخ الذي
صارت تعرفه هذه التجارة المربحة..
ثم
..
لا
..
هذا أمر فظيع أجد صعوبة الآن في مجرد تصوره، فحصول كل موظف في إدارة البريد
المركزي التي أعمل بها على نسخة من القصة يعني أن مؤخرتي الورقية ستصير في
متناول كل واحد من زملاء المهنة
.
نعم ، سيتعلق الأمر بإستي لأن موظفي مكتب البريد الذي أعمل به لا يميزون
بين السارد والمسرود له ، ولا ما يجعل الإست الورقي لبطل القصة مختلفا بشكل
جذري عن إست من اللحم والشحم لشخص المؤلف عبد الخالق البهجة
.
فأكبر شهادة عند أكثرهم تعلما لا تتجاوز مستوى البكالوريا
..
وهؤلاء الموظفون أنا أعرفهم فهم لا يفقهون لا في الأدب ولا في ألاعيبه ،
وعندما سيقرؤون قصتي الموزعة عليهم في شكل مستنسخات إشهارية بالمجان
سيقرأونها ، رغم كل شيء ، سيقرؤونها بنهم وفضول كبيرين
.
وأول رد فعل سيصدر عنهم جميعا هو الإحساس بالتقزز من حديث زميل لهم على
الملأ بالقلم المليان عن إسته في المرحاض دون حتى قول حاشاكم للسامعين ،
أقصد ، للقراء ، وطبعا ، لن يكون إلى جوار أي واحد منهم من يدقق له الفرق
بين الصواب المطلوب في كلام الزنقة وحرية الكتابة دون الخوف على الأخلاق
العامة
..
ولهذا سيقول قائلهم
"
كان أولى به مادام الأمر وصل إلى هذا الحد أن يستعمل مفردة الحمام بدل
المرحاض
..
وبدل الحديث عن إفراغ ما في البطن ، ألم يكن ممكنا القفز على هذه الفقرة
ككل ، والاكتفاء بالإشارة كالقول مثلا
"
دخلت نطير الما
"
، ففيها فائض المعنى وبعد ذلك يعود إلى السطر دون تعمق
..
هه
..
أليس كذلك آ السي عبد الخالق ؟..
"
وكيفما فكر هؤلاء الموظفون فسيتعلق الأمر بمصيبة!..
فقناة الإفراغ البطني ومحتواه أمران مقززان ، وهذا فيه إجماع العقلاء
والمجانين على السواء
.
ثم من يضمن لي أن هؤلاء الزملاء الخبثاء لن يستحضروا المشهد برمته فيعيدوا
تشخيصه في إحدى جلساتهم الخاصة أو العامة، وعندها ، مرة أخرى ، ستتحول
مؤخرتي إلى مسرح
..
يا لطيف
!! ..
إستي يصير فرجة كونية أنا السيد عبد الخالق البهجة المحترم الوقور
!!..
أهذا هو الأدب ؟
..
أهذه هي الكتابة ؟
..
مؤخرتي في شكل لوحة من لوحات بيكاسو
..
ثقب أسود ودماء حمراء
..
يا لطيف
!..يا
لطيف
!..
فحتى بيكاسو حسب علمي لم يسبق له أن رسم إسته ، ولو قدر له وفعل ، فإنه
سيفكك عناصره ويعيد تركيبها لتبدو في شكل مطيشة خضراء أو بطيخة زرقاء واضعا
لها عنوانا غير مباشر مثل السماء الصفراء
..
أو مغارة الفقراء
..
نعم
!..
يشخصها في شكل تكعيبي غامض و..
آه
..ماذا
قلت ؟
..
الغموض
! ..
وجدتها
..
لماذا لا أكتب القصة نفسها بشكل غامض ، وبدل أن أقول الإست أقول البئر ،
وعوض المرحاض أتحدث عن المغارة أو أي شيء آخر يبعد القارئ عن جسدي ؟..
وما دام الضمير السردي مجرد لعبة نخبوية بين النقاد لا يفهم فيها القراء من
أمثال موظفي مكتب البريد ، فلماذا لا أتجنبه وأحيل كل المصائب على شخص أو
أشخاص مجهولين
..
هو أو هم لايهم..
لكن ، بعد كل هذا ، ثمة مشكلة أخرى قد تظهر فجأة ، فمن يضمن لي بقاء نفس
القصة بعد حذف كلمة إست وتعويض كلمة مرحاض بأخرى وإحالة كل شيء على ضمير
الغائب
..
ألن يتغير مجرى القصة ككل ؟ ألن تتغير القصة فتصير قصة أخرى لا علاقة لها
بهذه ؟..
وليكن ، على الأقل في مثل هذه الحالة سأبعد الشبهة عن شرفي
..ماذا
قلت ؟
..
شرفي
!!..
يا لطيف
!..
من الرغبة في كتابة أجمل قصة في العالم إلى ورطة الدفاع عن الشرف
..إنني
أدرك الآن بوعي تام أن هذه الكتابة لعبة خطرة
..
أقصد ، الكتابة لعب بالنار
..
فأنا مواطن ليس مستعدا في كل الأحوال لتقبل أي شيء يحطم سمعته الجيدة بين
الناس
..وبما
أن الحديث عن مضاعفات البيرة الباردة التي شربتها أمس قد ورطني في كل هذه
المتاعب التي باتت تهدد شرفي وسمعتي ، وبما أن الحديث عن إستي يزعجني ويمس
بالأخلاق العامة في الصميم ، وبما أنني لا أملك موضوعا بديلا لكتابة أجمل
قصة في العالم فإنني قررت ، وقراري هذا نهائي لا رجعة فيه ، قررت عدم كتابة
هذه القصة اللعينة بالمرة ، وبهذا سأريح وأرتاح ، على أن الأمر سيتعلق في
هذه الحالة ليس بأجمل قصة في العالم بل بقصة لم يسبق لأي أحد أن كتبها
أصلا،لا أنا ولا غيري ، وليس ذلك وحسب ، فلن تتوفرأي حجة لأي كان على أنني
فكرت في هذه الأمور مجرد تفكير، لا اليوم ولا غدا، لا في المونولوج ولا في
الديالوج، والسلام!!!..
سدينا
الخميس أكتوبر 27, 2011 4:57 am من طرف سبينوزا