يمكن أن نخمّن أن المفكّر والباحث السوري بو علي ياسين (1942- 2000) إنطلق في صياغة نظامه المعرفيّ من فكرة أن "نقد المحرّمات هو الطريقة الأجدى لتقويضها". فتناول الظواهر الإجتماعية والسياسية والثقافية العربية الأكثر بروزاً وتأثيراً وعرقلةً لتطوّر المجتمع والفكر العربيين.
كانت ألمانيا هي المكان الأول الذي هزّ وعي بو علي ياسين، لكنه لم يقرأ فيها فيخته، كما أوصاه البعثي المؤسس وهيب الغانم، بل قرأ ماركس.(1) وحين وجد أن جامعة بون التي يدرس فيها العلوم الإقتصادية (1962)، تسيطر عليها العقلية الإقتصادية الأميركية، كان عليه إما أن يترك الدراسة أو أن ينتقل الى جامعة أخرى. فوجد أن جامعة ماينتس أقل عرضةً للهيمنة الأميركية، فانتقل اليها بين عامي 1965 و1969، (2) وهناك شارك في الحركة الطلابية 1968، وكان أحد أعضاء كومونة فرانكفورت.
حين عاد الى سورية، كانت "الهزة الألمانية" قد استقرت، ولكن بعد أن صاغت وعيه وأسست لنظام معرفي، جعله يدرس الظواهر الأكثر خطورة، وهي: الدين والجنس والسياسة، من دون مراعاة إلا لشرط المعرفة والبحث العلمي، واضعاً نفسه منذ ذلك الوقت تحت الأنظار... ولا سيما أنظار الرقيب.
إذا كان الإعلام العربي يتدخل في كثير من المرات لفضح الممارسات السلطوية في حق الكاتب الذي يمسّ محرّماً، فإن ما حدث لبوعلي ياسين لم يظهر على الساحة الإعلامية. وقد يُعزى ذلك الى السلوك الصوفيّ، الذي اختاره الكاتب منذ بداياته الفكرية وقاده الى الإبتعاد– ما أمكن- عن الإعلام، والى العمل بصمتٍ نادر، وتحمّل التبعات وحده. وهذا كله، يجعل الكتابة عن الرفض السلطوي، المتمثل في منع طباعة بعض كتبه ومصادرة بعضها الآخر، وتهديده بالقتل في بعض الأحيان- تحيل على الذاكرة الشفاهيّة لا على المكتوب.
يُعتبر أول كتبه، وهو "الثالوث المحرّم- دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي" (1973)، من أكثر الكتب العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت ذيوعاً وشهرةً حتى لمن لم يقرأه. ولكن، إذا كانت الكتابة في واحد من المحرّمات تقود الى نتيجة كارثية، فإن الخوض فيها جميعاً يؤدي- وقد أدى فعلاً- الى منع طباعة الكتاب في الأراضي السورية. ومع أن الكتاب طُبع في بيروت، فإنه مُنع من الدخول لا الى أراضي سورية فحسب، بل الى معظم البلدان العربية. وهو ما اضطر المثقفين والمهتمين الى تداوله بطريقة سريّة سنواتٍ طويلة قبل أن يُفرج عنه. وراحت الأجيال اللاحقة تقرأه بوصفه منشوراً سرياً، كان إفتضاح أمره يؤدي الى مساءلة أمنية في بعض الأوقات.
إن صفة المنشور السريّ، التي اتخذها الكتاب ناجمة عن شدّة المساءلة الأمنية إزاءه، لا عن أسلوب كتابته. فقد اتخذ الأسلوب طابع البحث العلمي المستند الى مصادر ومراجع موثّقة وفق المدرسة الألمانية البالغة التشدّد في التوثيق. وقد لجأ كذلك الى إحصائيات رسمية، حين دعت الحاجة، وفي الطبعات اللاحقة عُدّل من الإحصائيات بما يتناسب والمستجدات. وقد يكون أقرب دليل على اعتباره بحثاً علمياً موثوقاً، أن بعض كبار الباحثين العرب إستند اليه في دراساته ذات الصلة.
لقد سبق بوعلي ياسين المختصين العرب، وعلى رأسهم الأنثربولوجيون، في الإهتمام بالثقافة الشعبية وضرورة تدوينها، لكون الإحجام عن ذلك ظاهرة من ظواهر "التخلف الثقافي"(3). فوضع عدة كتب مُنعت جميعاً، في هذا الموضوع الصعب والحيوي. أما صعوبة الموضوع، فناجمة عن ندرة المراجع والمصادر، لأنه ثقافة "شعبية" غير مدوّنة. وأما حيويته، فلأن فعل الكتابة هو الأكثر مجابهةً وتغييراً للواقع، على خلاف الشفاهيّ الذي لن يكون مجدياً دائماً لكونه عرضةً للتقولات والإضافات والحذوفات، التي يمارسها الراوي بما يلائم ثقافته وتوجّهه وانتماءه السياسي والإجتماعي؛ فتأتي الكتابة لتوثيق القول الثقافي "الشعبي"، وترفعه من دائرة الحذف والإهمال التي ترسمها له المؤسسة بما يرضي وجودها ويكرّسه. كما أن الثقافة الشعبية هي المصنّع الأول للذاكرة الجمعيّة والفرديّة، أي أنها تشكُل أول للثقافة التي سيتم إنماؤها، بحيث تكون الثقافات الأخرى في العالم مشاركةً في ثقافة الأمة المعنيّة لا ثقافة هذه الأمة الوحيدة.
ولكن بوعلي ياسين كتب في الثقافة الشعبية لا بهدف تمجيدها أو رفضها بل لنقدها، وذلك إنسجاماً مع توجّهه المعرفي. فالعقل النقدي، وفق ما يشير أوكتافيو باث، لا يكتفي بنقد العالم، بل ينقد نفسه أيضاً. (4)
أول هذه الكتب هو "عين الزهور- سيرة ضاحكة" (1993)، وهو كتاب سيريّ، إلا أنه خاص. يقول صاحبه: "هذه سيرة مخالفة للأصول. فهي ليست مجرد سيرة شخصية، بل هي الى حدٍ ما سيرة لمحيطي الشخصي والإجتماعي: الضيعة، الأهل، الأصدقاء، الأماكن التي عشت فيها، الناس الذين عشت بينهم"(5). ثمة بنيتان تتشكلان جنباً الى جنب فيه: بنية السيرة، وبنية "إضحاكيّة" مستقلة، تشكّلت على هيئة نكات وطرائف حدثت مع الكاتب أو أصدقائه أو عائلته أو جواره. وكي لا تكون البنيتان منفصلتين بما يؤدي الى شرخٍ في الكتاب، عرض ياسين النكتة أو الطرفة بما يلائم السيرة المعروضة.
في هذا الكتاب يبدو أن مراعاة المحرّمات لم تكن تامة؛ "ذلك لأنها (الثقافة الشعبية) نشأت بالأصل دون حسيب أو رقيب"(6). ولهذا حورب الكاتب والكتاب، إنما من قبل السلطة الإجتماعية في أول الأمر. فقد وافقت الرقابة على طباعته وعلى تداول الكتاب، وتمّ توزيعه بصفة محدودة لكونه يكشف ما يستره "الناس" في العادة ويكشف –بشكل خاص- المسكوت عنه في السلوك اليومي لرجال الدين المحليين، مما يتندّر به الناس شفاهياً. فأثار حفيظة المجتمع بتحريك من هؤلاء الرجال، وحلّت الكارثة: إتصالات هاتفية متوعّدة تلقّاها الكاتب، محاولة لصدمه بسيارة، مضايقات متعددة لأفراد أسرته، وترافق ذلك كلّه مع تهديد بالقتل. هنا استجابت السلطة السياسية لهذا الضغط الإجتماعي- الديني، واضطرت الى التدخل، لا لحماية الكاتب، بل لمنع توزيع الكتاب تحت أية صيغة كانت.
ولكن، يمكن أن نلاحظ أن للموقف الرسمي، الذي ظهر وكأنه إستجابة فحسب للموقف الإجتماعي- الديني، ينطوي على إستقلالية خاصة. فالكتاب يحفل بإنتقادات حادة وجّهها الكاتب الى جمال عبد الناصر، معتبراً أنه يؤسس لنظام "مباحثي"(7)، يشجّع على "الإنتهازية والغوغائية"(8) ويدفع إليهما أحياناً. يقول الكاتب: "لقد كرهنا في الحقيقة نظام عبد الناصر بتقييده للحريات وبملاحقات مباحثه...، باحتوائه في الإتحاد القومي لكل منافق مهما كان إنتماؤه الطبقي أو العقائدي أو السياسي وكيفما كانت ممارساته وأخلاقه"(9). وواضح أن ما يثيره الكاتب من إنتقاد لعبد الناصر وبهذه الحدّة، إنما يشوش على الإيديولوجية السورية الرسمية، القومية أيضاً، والمنسجمة –في هذه القضية- مع طروحات عبد الناصر آنذاك.
علاوةً على ذلك، سيُلقى على الرقيب عبء جديد، أو سينفتح له حقل آخر لممارسة سيادته. ذلك أن الثقافة الشعبية، التي "نشأت حرّة دون حسيب أو رقيب"، تنطوي على "كلّ" ما يقوله الناس –والناس يقولون "كلّ" شيء بما في ذلك "الكلام البذيء".
وإذا كُتبت الثقافة الشعبية بعد "تهذيب" هذا الكلام، فإنها ستكفّ عن كونها كذلك. وبدءاً من هنا، سيُضاف محرّم جديد يُحظر الدخول فيه، وهو: البذاءة. ومن هنا، وبدءاً من هذا الكتاب، سينضاف الى المحرّمات الثلاثة، حين يتعلق الأمر بالثقافة الشعبية، محرّم رابع يتخذه الرقيب ذريعة إضافية لمنع الكتب ومصادرتها وملاحقة الكتّاب.
الكتاب الآخر في مشروع ياسين هذا، هو "بيان الحدّ بين الهزل والجدّ- دراسة في أدب النكتة" (1996). في هذا الكتاب يدرس بوعلي النكتة، فيفكك بنيتها بدءاً من مفهومها وانتهاءً بأنواعها- بما في ذلك النكات المحرّمة، السياسية والدينية والجنسية.
يتساءل الكاتب في مقدمة كتابه: "يروون (أي عامة الناس) لكَ النكات المحرّمة والبذيئة، ثم يغضبون ويحتجون إذا نشرتها. فلماذا هذه الإزدواجية؟ ولماذا هذا الإصرار على شفهية الثقافة الشعبية؟"(10) وذلك في إشارة الى الصخب العارم الذي واجهه في كتابه "عين الزهور". ويتابع ضمن إصراره على مشروعه، بصرف النظر عن النتائج: "لا معنى للكتابة إذا أراد المرء أن يتجنب أي إشكال أو مساءلة على حساب أصول العمل الفكري وأخلاقيته"(11). ويقول مدركاً خطورة إنتقال السلطة الرقابية من الحكومة الى المجتمع: "كنا- نحن الكتّاب- في السابق نشكو من رقابة أجهزة دولنا، فصرنا الآن نحسب حساباً لأمزجة الناس"(12).
ومرة أخرى، يُصادَر بوعلي ياسين.
في سورية، يجب أن ينال الكتّاب، كل الكتّاب، موافقتين: موافقة على الطباعة، وأخرى على التداول (التوزيع). ولما كان الناشر، آنذاك، يطبع إصداراته في بيروت، فلم تكن ثمة حاجة الى الموافقة على الطباعة، لكنه مُنع في سورية من التوزيع، أي مُنع من الدخول الى الأراضي السورية. وكان يتعيّن على الكاتب أن يحذف الفصل الخاص بِ "النكتة الدينية"، ليُصار الى إعادة طباعة الكتاب وتوزيعه مجدداً، لكنه رفض ذلك إيماناً منه بأن الكتابة يجب ألا تكون على مقاسات الرقابة، بل على مقاسات الإبداع. وهكذا بقي هذا الجهد أسيراً في مستودعات الناشر.
لكن، يمكن الظن أنه حتى لو حذف الكاتب الفصل المشار اليه فسيُمنع، لكونه يقتحم كافة المحرّمات، شأنه شأن كتابه الأول "الثالوث المحرّم"، بإضافة محرّم رابع (هو البذاءة) يكمّل أبعاد الرقابة كلها.
يمكن أن نشير أخيراً، الى آخر كتبه الممنوعة ضمن مشروعه هذا، وهو "شمسات شباطية- ديوان المفارقات العربية الحديثة" (1999). يقع هذا الكتاب ضمن ما يُسمى تراثياً بِ "المستطرفات"، ويذكّرنا بالأبشيهيّ. النكتة هنا، هي التي تروي وتقول عوضاً عن الكاتب. وكل فصل فيه يتحدّد بموضوع معيّن، وينطوي على مجموعة من النكات والطرائف ذات الصلة المباشرة بموضوع الفصل.
أرسل الناشر قائمة بأسماء الكتب وأسماء مؤلفيها التي يودّ المشاركة فيها في معرض الكويت للكتاب، وضمن القائمة إسم هذا الكتاب وإسم الكاتب. ولما كان ياسين ينتمي الى الأسماء الأولى من الكتّاب المرفوضين سلطوياً، فقد جاء ردّ الجهات المسؤولة في الكويت (وزارة الإعلام) أن بوعلي ياسين (مع كتّاب آخرين) يُمنع من المشاركة في المعرض(13).
وبهذا، نكون قد دخلنا ظاهرة أشد خطورة من سواها، وهي أن المنع هنا طال الإسم دون الإطلاع على الكتاب، وانضاف الى الثقافة العربية المعاصرة منع جديد يتمثل في مصادرة كل ما يكتبه كاتب بعينه بصرف النظر عما يطرحه.
"الناس على دين ملوكها"، لقد كان ابن خلدون قارئاً عظيماً للعلاقة بين الناس وملوكها. ففي الوقت الذي تنسحب فيه الحكومات مؤقتاً من ميدان الصراع، يحلّ "الناس" محلّها تحت تسميات مختلفة، قد يكون أكثرها تأثيراً حماية "الدين". فتبدو السلطة الإجتماعية بمثابة قفا السلطة السياسية، وتتمفصل من جديد العلاقة بينهما. وقد رأينا منذ قليل، أن السلطة السياسية متمفصلة مع الدينية، الأمر الذي يجعل إمكانية الفصل بين هذه السلطات طوباوية وغير ذات جدوى.
لقد أعاد كارل ماركس الصيغة الخلدونية، ولكنه أضاف بعداً ثقافياً في مقولته أن الثقافة السائدة (وهي هنا ثقافة "الملوك" بصيغةٍ ما)، تسود على البروليتاريا نفسها (وهي هنا "الناس" بصيغةٍ ما). وفي وعي ماركس (وابن خلدون أيضاً)، أن "الناس" على تناقض حادّ، ثقافي أيضاً، مع "ملوكها". وهنا تظهر الإشكالية الكبيرة في حلّ هذا التناقض وتسويته.
إن التماثل الثقافي بين الناس وملوكها، هو الذي يحلّ هذا التناقض ويسوّيه، وهو ما تسعى الحكومات الى فرضه ولو عنوةً. وهنا تبدو أهمية النخب الثقافية النقدية لتقويض هذا التماثل. كما أن الثقافة العربية تلقي على كاهل التنويريّ أو الحداثيّ العربيّ، أن يضع البديهية المتمثلة بضرورة فصل الدين عن الدولة على طاولة البحث، لا كبديهية، بل كسؤال معرفيّ وغير محسوم.
* المصادر والمراجع
(1) أنظر بوعلي ياسين، عين الزهور- سيرة ضاحكة (دمشق: دار الحصاد، 1993)، ص 160.
(2) المصدر نفسه، ص 211- 213.
(3) بوعلي ياسين، بيان الحدّ بين الهزل والجدّ- دراسة في أدب النكتة (دمشق: دار المدى، 1996)، ص 11.
(4) أوكتافيو باث، الشعر ونهايات القرن، ترجمة ممدوح عدوان (دمشق: دار المدى، 1998)، ص 31.
(5) عين الزهور، مصدر مذكور، ص 7.
(6) المصدر السابق، ص 9.
(7-8-9) المصدر نفسه، ص 121.
(10-11-12) بيان الحدّ، مصدر مذكور، ص 9-10.
(13) أوردت قائمة الممنوعين من المشاركة مجلة قرطاس الكويتية، عدد 46 لسنة 1999. أنظر أيضاً علاء اللامي، كتابات ضد التيار (بيروت، دار الكنوز الأدبية، 2001)، ص 166.
عن مجلة الآداب- العدد 7/8 تموز (يوليو)- آب (أغسطس) 2002-
مجلة جسور: العدد (0) - السنة الأولى - شباط/فبراير 2005
مجلة جسور
الإثنين يناير 18, 2010 4:32 am من طرف سبينوزا