ربيعة " ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
عدد الرسائل : 204
تاريخ التسجيل : 26/10/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | في مفهوم العدالة | |
التقديم لماذا وقع اختياري على راولز؟ لأنه يُعتبر أحد الوجوه البارزة المنخرطة في النقاش السياسي المحتدم حول مشروعية الليبرالية السياسية (Le Libéralisme Politique) وحول مستقبل الديمقراطية في العالم المعاصر ومآلات الحداثة السياسية وما تخللها من أزمات وتوترات بين الحرية والمساواة، بين الفرد والدولة، بين العدالة والخير، بين الاستقلالية والعمومية، بين الدائرة الخصوصية والفضاء العمومي. ضمن كتابه الشهير نظرية العدالة (Théorie de la Justice) يعرض فلسفته التي تُعْتَبر محاولة لتجديد الليبرالية السياسية المعاصرة، ولتليين وتلطيف جموحها بما يتلاءم مع المبادئ الأخلاقية للعدالة والإنصاف (Equité). تتموقع فلسفته السياسية اللبيرالية ما بين الليبرالية الراديكالية، وبين الجماعتية (Communitarisme) بوصفهما منزعان أحدهما مفرط في الليبرالية (Libéralisme) والآخر منتقد لها. يعود اختياري لراولز إذن إلى كونه أحد الفلاسفة السياسيين القلائل الذين فتحوا نقاشا سياسيا واسعا في الولايات المتحدة الأمريكية بين الليبرالية اليسارية المناهضة للفوارق وما تمثله من مخاطر على التماسك الاجتماعي والتوافق السياسي، وبين النيوليبرالية (Néolibéralisme) المناهضة للعدالة التوزيعية وما تمثله من مخاطر على الحريات الفردية. وقد تغذى هذا النقاش فضلا عن ذلك مما أفرزته الحركات من أجل الحقوق المدنية (Droit Civiques) من مطالب مساواتية في الولايات المتحدة الأمريكية نهاية الستينات وبداية السبعينات. كما تمخضت هذه المناقشات والمُطَارَحَات السياسية (Débats politiques) عن إعادة التفكير في دور الدولة الليبرالية، وبرزت أسئلة حول حيادها (Neutralité) وانخراطها في معمعة المطالب الإجتماعية. نظرية العدالة تلتقي في كتابه الشهير هذا عدّة أطياف فكرية قادمة من آفاق فلسفية رحبة أَنْجْلُوساكسونية وقارِّية على حد سواء. استقى راولز مفهوم العدالة التوزيعيةJustice) .Distributive) من أرسطو وإن كان قد أفرغها من حمولتها الأخلاقية، ومَتَحَ من كانط مفاهيم الإستقلالية (Autonomie) والكونية والإستعمال العمومي للعقل (L’usage publique de la raison). يقول راولز: «Le sujet est essentiellement un agent souverain qu’effectue des choix, et en particulier se donne à lui même ses propres fins» P. 198 Rawls استهم راولز كانطية بدون ذات متعالية على حد تعبير بول ريكور: «Kantisme sans sujet transcendental» واستفاد من نظرية التعاقد عند روسو وإن كان قد اعتبر نظرية العدالة على قدر كبير من التجريد. وأخيرا استلهم من النفعية والبراجماتية الأنجلوسكسونية. يطرح الكاتب مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية، ولإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطية ذات المنحى الليبرالي في المجتمعات المابعد-حداثية (S post-modernes) المركبة هوياتيا والمتعددة ثقافيا (Multiculturalisme) وما تمخضت عنه من أزمة وصراع بين المنزع المساواتي والمنزع الحرياتي (Egalitarisme, Libértarisme)، ومن ثمة رصد الاختلالات التي تخترق الجسم الاجتماعي الليبرالي. يسعى هذا المشروع النظري عند راولز إلى خلق توازانات جديدة بين الحرية والمساواة على قواعد أخلاقية للعدالة كإنصاف (La justice comme équité). إن مدار نظرية العدالة هو معالجة الانحرافات (Dérives) التي آلت إليها الليبرالية السياسية، والتشوهات التي نالت من الديمقراطية الليبرالية، والمخاطر التي تتربص بالحداثة السياسية في عالمنا المعاصر، وكلها بادية للعيان في تجلياتها المختلفة: تعاظم الأنانية وتضحم الفردانية الاستحواذية (Egoisme possessif) وتفكك الأواصر الاجتماعية وانحسار مفهوم المواطنة واستشراء اللامبالاة السياسية (Dépolitisation) وتضخم الحرية على حساب المساواة. كلها انحرفات تجعل نهج الليبرالية السياسية محفوفا بالمخاطر. يتسم هذا المشروع النظري بعودة السؤال الأخلاقي إلى صلب الإشكالية السياسية: إعـادة تفكير في الليبرالية السياسية في المجتمعات ما بعد- الحداثية بناء على أسس العدالة، للحيلولة دون استشراء النزعة الأداتية-النفعية (Utilitarisme) والفردانية الاستحواذية ومسألة التعدد الثقافي والهوياتي (Multiculture identitaire) أو حسب تعبير ماكس فيبر (Polythèisme) وتضارب تصورات الخير (Conceptions du bien) في سبيل استشراف آفاق الديمقراطية التوافقية؛ ومحاولة التوفيق بين المذاهب الغائية للخير والمذاهب الإستعمالية والأداتية لمفهوم المنفعة. يطرح راولز في كتابه نظرية سياسية ذات منحى ليبرالي ولكن بمراجعة المبادئ الليبرالية على ضوء المبادئ الأخلاقية. يضع راولز مفهوم "العدالة" في صلب نظريته السياسية، إذ يعتبرها الفضيلة الأولى للمؤسسات السياسية؛ لا للقواعد الدستورية منها فحسب، بل أيضا للبنيات القاعدية السوسيو- اقتصادية للمجتمع. لا مُسَوِّغ، في مجتمع مهما كان يتبجح بالحرية، لسياسة ليبرالية ما تنفك تخلق الإختلالات، وتعمق الفوارق بين الأفراد. فالعدالة هي بمثابة الترياق "Contre-poison" للإختلال الذي يسببه الفائض الحرياتي في المجتمعات الليبرالية على حساب المطلب المساواتي؛ تلعب دور تصحيح وتصويب ما آلت إليه هاته المجتمعات من فوارق وتفاوتات تنسف وعود الحداثة السياسية بالتحرر من أساسها. تمثل العدالة القاعدة الأساسية لكل مجتمع منظَّم عقلانيا يروم إرضاء النفع العام وينال رضى كل المتعاقدين (Sociétaires) المنضوين فيه تحت تعاقد مضمر أو معلن. ويستنتج أن العدالة أسبق من الخير (Primauté du juste sur le bien) بدليل أن الأولى توحد، والخير يفرق: فلا يختلف البشر حول شيء مثل اختلافهم حول تصورات الخير ولا يجمعهم ولا يوحدهم شيء أكثر من العدالة؛ فهي أول ما يحدسه كل انسان. فضلا عن ذلك؛ لا يستقيم مفهوم الخير في المجتمعات الما - بعد حداثية التي يسودها التعدد الثقافي والعقائدي (المذهبي). ولا سبيل إلى توحيد هذا التعدد سوى بفضل مفهوم العدالة بما هي إنصاف. شتان إذن بين كونية مفهوم العدالة وخصوصية مفهوم الخير. فما يمكن أن يراه بعضهم خيرا، قد يراه الآخرون وَبَالاً وشرا. أما العدالة فتحظى بإجماع الكل. فهي تحافظ على اختلافاتهم دون أن تفضي إلى الانشقاق والتمزق الذي يهدد المجتمعات الليبرالية. ومـادام الأمر كذلك فالعدالة عند راولز إجرائية (Justice Procédurale) لا تحيل إلى أي تصور جوهراني "substantialiste"، إنها بالأحرى عدالة توزيعية (J.Distributive) وإنصاف في مجتمعات تعمقت فيها الفوارق (Inégalités) واتسعت الهوة بين المحرومين والمحظوظين إلى حد أن المبدأ الحرياتي الليبرالي بات مهددا، وبدأت تحوم الشكوك حول جدوى الحرية بالنسبة لمن لا يملك شيئا، ولمن هو في الدَّرَك الأسفل في المجتمع، فما عسى أن تمثل قيمة الحرية بالنسبة إليه وهو لايجد ما يضمن كرامته. ولعل في هذه الحالة ينطبق النقد الماركسي على الحرية الليبرالية لكونها حرية مجردة. وصارت الديمقراطية نفسها تحدق بها مخاطر جمة: ولعل هذا ما يفسر اللامبالاة المتنامية للمواطنين بالشأن العام، وعدم الإكتراث المتزايد بالسياسة، وانحسار روح المواطنة وانتشار نوع من الرواقية (Stoïcisme) والقدرية، واتساع دائرة الشك والارتياب في الحداثة السياسية، واللُّهاث وراء نوع من اللذية (Hédonisme). يرمي راولز من وراء نظريته السياسية إلى بعث الأمل في الليبرالية السياسية من جديد وإلى إحلال توازنات جديدة بين الحقوق - الحريات والحقوق - الواجبات، فالعدالة هي البلسم الذي يشفي الحداثة الليبرالية من أدوائها، وينجيها من أمراضها. فهناك نبرة متفائلة لدى راولز في أن تنفخ العدالة بما هي إنصاف روحا جديدة في الليبرالية، وفي أن توفق بين متناقضات الحداثة والديمقراطية: بين الحرية والمساواة. باعتبار أن راولز فيلسوف سياسي ليبرالي، فإنه لا يُفَرِّط في مبدإ الحرية بأي ثمن، ولا يمكن التضحية بالحريات الأساسية والفردية حتى لو كانت في مصلحة الجميع، لأن من شأن ذلك أن يُشرع الباب على مصراعيه للأنظمة التوتاليتارية والكليانية(Totalitarismes) التي تتذرع بشتى المبررات لمصادرة الحريات وهضم حقوق الإنسان. "لايمكن تقليص الحرية سوى في سبيل الحرية" "On ne peut restreindre la liberté qu’au bénéfice de la liberté" p.140 IBID " لا يمكن دفع الحرية ثمنا للحياة الرغيدة " "On n’achète pas le bien - être au prix de la liberté" 140 (MBID) ولكن راولز في نفس الوقت لايقبل الفوارق الناجمة عن توسيع النظام العام للحريات الأساسية. فالفوارق المقبولة والمستساغة أو المسموح بها "Tolérables" هي تلك التي في مصلحة الجميع، وما الظلم أو الجور (Injustice) في الحقيقة سوى تلك الفوارق التي لا تعود بالفضل على الجميع أي تلك التي تفيد البعض دون البعض الآخر. "L’injustice, ce sont les Inégalités qui ne bénéficient pas à tous" page 150 (MBID) ومع ذلك يظل راولز فيلسوفا ليبراليا، فهو يَسْتَسْوِغُ اللامساواة لأنها ثمن الحرية، حتى وإن كان يشرطها بمصلحة الجميع. من غير المعقول انتزاع ما يعود إلى المحظوظين الأكثر إنتاجا ومنحه للمحرومين الأقل إنتاجا لأن في نهاية المطاف لن يوجد ما يمكن اقتسامه أو توزيعه، فالأكثر إنتاجا سيصبحون أقل إنتاجا، وهذا نقد مبطن للإشتراكية والشيوعية، لا يمكن التفريط في الحرية من أجل المساواة مهما كانت الدواعي والمبررات. فاللامساواة هي الثمن الذي يتوجب دفعه لنيل الحرية والحيلولة دون الإنزلاق إلى التوتاليتارية. يفضل راولز أن يوجَد ضحايا في النظام الليبرالي على أن تصادر الحريات في الأنظمة التوتاليتارية. ويفترق راولز، رغم ليبراليته عن الليبرتارية Libertarisme في مسألة هامة؛ والتي تتعلق بمفهوم الدولة، ومفهوم الديمقراطية، فلا يوافقها على مفهوم الدولة - المحايدة (L’Etat Neutre)، التي ينحصر دورها على حفظ الأمن وحماية النظام (L’ordre) وهو ما يصطلح عليه بـ"الدولة-الدَّرَكِيَّة" (Etat-Gendarme)، وفي نفس لا يستسوغ تدخل الدولة في كل دقيقة وجليلة أي الدولة-الوصية، ويختار موقفا وسطا وهو الدولة الإجتماعية (Etat Social) التي تعمل بمعية المجتمع المدني على تقليص الفوارق في حدود لا تتعداها، حتى لا تتطاول على الحريات. يقترح في نظريته السياسية ديمقراطية اجتماعية، أو ديمقراطية ليبرالية ذات وجه إنساني (A Visage Humain). وقبل التطرق إلى الديمقراطية بشكل مفصل يجمل بنا أن نتطرق مجددا، ونستأنف القول في المعادلة الصعبة بين المبدإ المساواتي والمبدإ الحرياتي. فنظرية العدالة التي يتطارحها بِمُكْنَتِها، ردم الهوة بين هذين المبدأين، وملء الشرخ الذي يتهدد المجتمعات الليبرالية بالإنفجار. يطرح راولز نظرية العدالة بما هي انصاف ويؤسسها على مبدئي التوحيد والتفريق: أ- كل الناس أحرار (الحرية) ولهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية بالتساواي (المساواة). ب- من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة بين الناس لكن شريطة أن تُنَظَّم بكيفية: 1. تكون في مصلحة الأكثر حرمانا (Les plus défavorisés) أي ضحايا النظام الليبرالي 2. وتكون نابعة من مبدإ تكافؤ الفرص (Egalités des chances) في الوظائف وفي الوضعيات. لا يرى راولز غضاضة في اللامساواة، إذا كانت في مصلحة الأكثر حرمانا والأقل حظا من الناس، وإذا كانت أيضا حصيلة تكافؤ الفرص التي يتيحها النظام الليبرالي. يستدل راولز على وجاهة وصواب نظريته في العدالة بحجة لم تخل من انتقادات من طرف كثيرين وعلى رأسهم هبرماس، والتي يسميها ب "حجاب الجهل" (le voile d’ignorance) ويُنَزِّلها منزلة الوضعية الأصلية للبشر(Position originelle): إذا أُخِذ البشر على حين غرّة وفيما هم على غفلة من أمرهم، وحيث لا يدرون شيئا عن فئتهم الإجتماعية، ولا عن حظوظهم وامتيازاتهم، وطلبنا منهم أن يختـاروا بين العدالة والخير (المنفعة) فهم لا شك سيختارون العدالة، لأنها بمثابة الحدس البديهي الذي لا يختلف فيه إثنان. فهذه الحالة أشبه بالتعاقد، وإن كان راولز لا يوافق أصحاب نظرية التعاقد على ما ذهبوا إليه من مذهب الحق الطبيعي الذي يساوونه مع القوة والقدرة والإقتدار. ويعتبر اختيار البشر للعدالة هو الاختيار العقلاني عن جدارة. لأن العدالة دمج بين الحرية والمساواة ولا يمكن تصور اختيار ما، يعارض كونهم أحرارًا ومتساوين أو أندادًا. ما القول في الديمقراطية الليبرالية حسب التصور الراولزي"؟ من مرتكزات الديمقراطية الليبرالية ألا تطغى الأغلبية على الأقلية أو ما يسميه توكفيل بالاستبداد الحديث (Tyranie Moderne)، كما تفضل الليبرالية الديمقراطية التمثيلية على الديمقراطية المباشرة، والدستور على سيادة الشعب، والحقوق - الحريات على الحقوق - الواجبات. ورغم ذلك تعاني الديمقراطية من عجز (Déficit) يتمثل في انزواء وانصراف الفرد إلى دائرة حياته الخاصة، وفي اللامبالاة بالفضاء العمومي، وعدم الاكتراث بالسياسة وانخفاض حرارة الحس الوطني، واللهاث وراء اللذات أو ما يدعى باللذية (Hédonisme) وفي الاستسلام إلى نوع من الرواقية (Stoïcisme). حاول راولز استعادة الأمل الديمقراطي بفضل مفهوم العدالة التوزيعية التي تستهدف الفئات الأقل حظا والأكثر حرمانا في المجتمع، وإحياء ثقة المواطنين في المؤسسات الدستورية، وبعث التضامن في نفوس الأفراد الذي لا يكترثون سوى بأنانيتهم الإستحواذية. | |
|