"حنين
حنين حنين.. أنا دايبة فيك حنين.. والغربة دوبتني، لكن ما توهتني، عنّك
طول السنين.. عنّك طوال السنين". غالية بن علي في أذنيّ. عصفور يرعى قرب
قدمي ولا أكترث. ثم يطير. يعرج في طيرانه، كطفل صغير أو شيخ عجوز أو جنيّة
المكنسة التي تعيش فوق الأشجار. حشرة صغيرة، أصغر من الحرف، لا أعرف لها
اسما، تتجوّل على الورقة التي طبعت عليها قصة ياسين عدنان "تفّاح الظلّ".
العصفور يعود. أخلع قميصي الأصفر المشعّ كي لا يظنّ أنني أغويه كما لو أنّه
بعوضة. البعوض هو الذي ينساق الى الأصفر، والعصافير لا تحب أن يحطّ الناس
من قدرها، وهي تعي فرادتها الوجودية بشكل جيّد. أرمي له فتات الخبز الذي
اشتريته هذا الصباح. الخبز إسباني، هكذا قال لي جاري البقّال الإيراني، في
"بر دبي"، محاولا إغوائي، لكنّ العصفور، رغم ذلك، لم يكترث. يخطو فوق الخبز
كأنّه هند رستم في فيلم "شفيقة القبطية" تفشج فوق رأس حسين رياض المجثّى
تحت قدميها، وتختال في مشيتها كملكة العصور كلّها ويشرب الخمر من حذائها.
أحببت ذلك العصفور، رغم أنّه قرر أن يهرب قبل أن التقط له صورة بالكاميرا
الديجتال. ربما، لذلك أحببته. لأنّه فضّل أن يكون جزءا من ذاكرتي المنسيّة،
بدلا من أن يتجمّد في ذاكرتي الافتراضية المؤرشفة في ملفات صفراء على جهاز
الكومبيوتر. هكذا، تكون الغواية، دائما، أجمل. لكنني في كل الأحوال،
اكتشفت أنّ لا مكان لصورة مضافة تتسّع لها ذاكرة الكاميرا وانّه يتوجبّ
عليّ أن أمحو بعض صور، قبل أن ألتقط أيّ واحدة جديدة. هل كان العصفور
لينتظر؟ أضع الكاميرا في فردة الحذاء والهاتف في فردة أخرى. يعجبني المنظر.
التقط لهما صورة. لحظة، قلت الكاميرا في فردة الحذاء، كيف ألتقط لها صورة
اذا؟ يبدو أنها ليست الكاميرا تماما تلك التي كانت في فردة الحذاء. مجرّد
غطائها. شيء لا قيمة حقيقية له، سوى أنّه يغطّي عري الكاميرا. ويحافظ على
الصورة. هند رستم، في الفيلم، لا تتعرّى رغم أنّ في حذائها خمر. أقوم
بمباعدة الفردتين بزاوية، قد تكون ثلاثين درجة. بات لكلّ منهما اتجّاه
خطوات مختلف. تهاجمني صورة فتاة تأكل الكرز بشهوة حارقة.".. لم يكن حبا في
الحقيقة، بل فرحا أبيض دافئا ولذيذا. فرح بها وبحضورها الشفيف.."، أقرأ في
القصّة، فيما نسيم يلفحني في ظهري المتعرّق بفضل قماش قميصي الأصفر، الذي
تخالطه خيوط "نايلون"، والذي خلعته منذ دقيقة."..والأكيد أنّها تعرف حتى
الأشياء بالغة الخصوصية التي تحصل بيننا في غرفة النوم. فرجاء تحكي لها كلّ
شيء. كل شيء. مهما بدا صغيرا وتافها..ّ.".
هناك موسيقى تتصاعد من المجموعة التي تجلس تحت الشجرة المجاورة. نغمات
تشبه تلك التي تصدر عن عرائس الأطفال التي تدور حول نفسها مستعرضة بهاء
الفساتين المزدانة بخرز وتطريز يلمع.".. وإذ تتأوّه، كانت تفعل ذلك بصوت
كتيم..". أنتبه الى زقزقة. أظنّه، لوهلة الأولى، صديقي الذي لا يحب
الأسبان، وقد عاد. لكنّه كان هذه المرة نورسا. نورس في الحديقة، جاء من
البحر. من مجرى "الخور"، في الجانب الآخر، ليستطلع إغراء الأخضر في ظهيرة
جمعة مشمسة تنسّم في هوائها نغمات الموسيقى. كانت ميادة بسليس هي التي
تغنّي الآن. في حلب تقول لحبيبها "يا محلى الفسحة يا عيني على راس البرّ،
والقمر نوّر عيني، عيني عيني، على موو، على موج البحر..". يعود الطائر الى
محطّ النوارس ليخبر أصدقاءه كم أنّ الأخضر ساحر، وكم انّه يحسد سمك
الطحالب. من جهة البحر، يأتي سرب كامل من النوارس، يتأكّد من غواية البرّ.
لا أفهم لماذا وضع ياسين في ختام قصّته كلمة "ورزازات"؟ "ربما العشّاق في
المغرب يجمعون كلمة وردة على هذا النحو"، أقول قبل أن أتنبّه أنني غبيّ من
المشرق. ورزازات هو اسم مدينة، على الأرجح. فالكتاب يضعون أسماء الأمكنة
التي كتبوا فيها قصصهم في آخر النص. "ورزازات- 20 ماي 2003". أحيانا، قد
يضعون أيضا أسماء حبيباتهم قرب المدن والتواريخ. هل قلت أنني غبيّ من
المشرق؟ أنا أكثر من ذلك. فـ"ماي" تعني شهر "مايو" أو "أيّارّ"، وهو ليس
اسما لحبيبة ياسين. الهندي الذي يمرّ الى جانبي يغنّي. بدا لي وكأنّه
يفعلها. لم أسمعه لأن الموسيقى كانت لا تزال في أذنيّ، لكنّ حركة رفيقه
الذي كان ينظر الى عينيه بولع ويلوّح بأصابعه كمن يهدهد النغمات، أوحت اليّ
بذلك. يا الله، كان عليّ أن أنتظر سنتين في دبي، كي ألمح هنديا يغنّي.
ولطالما سألت نفسي ما اذا كان العمّال الهنود يغنون تحت الرافعات وعلى
"سقالات" الأبراج، حيث يمضون نهاراتهم وأقساطا من الليل، ولمن يغنون، وكيف
يختلط الغبار على سراويلهم الزرقاء بذرّات الدندنة التي تروي الشغف والحب
والتعب والبؤس والغربة والاشتياق والحنين: "حنين حنين حنين.. أنا دايبة فيك
حنين.. والغربة دوبتني، لكن ما توهتني، عنّك طول السنين.. عنّك طوال
السنين". لا بدّ أنّ هناك أغنية باللغة الأوردية تشبه أغنية بن علي
التونسية. أغنية تكتب الأمهات والزوجات كلماتها على ظهور الصور التي يرسلها
العمّال من دبي ويظهرون فيها دوما ضاحكين، قرب الأبراج التي صنعوها. تحت
الوسادات في "بومباي" تنام الكثير من أبراج وشوارع دبي على إيقاع دندنات
المشتاقات. الآن، ماريا تيريسا وأنتونيو كارلو يغنيان "نافي كيرا بريسيسو..
فيفي نومي بريسيسو". يسحرني النغم. أصير كزافييه في فيلم "هافانا نايتس"،
تملّس حبيبتي على زغب صدري. تحت أظافر يدها، علق وحل من الحديقة، فنبتت من
صدري وردة قطفتها وثبتها في العروة الثانية لقميصها الأبيض الضيّق. نهداها،
"تفاحتا الظل"، أشهى من غالية وماريا وميادة وهند وتوق النوارس ورسائل
"بومابي" ولعب الأطفال. لكنّ دمشق فادي عزّام تسرقني من كوبا، تعيدني الى
باب توما. رائحة نصّه، "إنها دمشق يا أولاد القحبة"، الذي كان في حقيبتي
أيضا، تعيدني الى رائحة المطر والخمر وصوت فيروز ورطوبة الجدران والحانة
المحشورة في آخر الزقاق وعطا الجولاني والأصدقاء وحماسة الأحلام المخدّرة
وطراوة الوحل يعلق رقبتها.".. ولديها من الوقت ما يكفي لترتب قبلة مع مذنب
عابر، ومن الشهوة ما يدعو نحل الكون لرحيقها..". كيف كان كلّ هذا الحبّ في
حقيبتي طوال الأسبوع الماضي، ولم انتبه. كل هذا الشغف والمطر والشجر
والذكريات.
تلك النحلة الصفراء التي تهاوت فجأة من السماء الى كيس
الخبز، لم تكن نحلة. كانت ورقة شجرة تحب رائحة السكّر المحروق. هكذا يفعل
الأسبان، يحرقون السكّر على العجين، ويغنون "نافي كيرا بريسيسو.. فيفي نومي
بريسيسو"