صبحي حديدي
2011-10-16
انقضت
الآن خمسة أسابيع على اعتقال المحللة النفسية السورية رفاه توفيق ناشد (66
سنة)، بعد قيام مخابرات القوى الجوية باختطافها من مطار دمشق وهي تزمع
السفر إلى باريس؛ ثمّ إنكار وجودها لدى أيّ جهاز أمن أو شرطة، قبل الإقرار
بأنها نزيلة سجن النساء في دوما. القضاء السوري، وجرياً على مألوف ما
يتلقاه من تعليمات عليا، رفض الإفراج عن ناشد بكفالة مالية، وأبقى عليها
قيد الاحتجاز ريثما تفرغ السلطات الأمنية من تدبيج سلسلة الاتهامات
المعتادة: التحريض على التظاهر، إضعاف الشعور القومي، ثمّ ـ لكي لا تغيب
المفارقة عن التلفيق، وتتأكد المسخرة ـ التسبب في وهن... نفسية الأمة،
بالنظر إلى أنّ علم النفس هو اختصاص ناشد!
والحال أنه لا يُعرف عن هذه
السيدة أي انتماء سياسي، وهي ليست ناشطة في أيّ تجمّع ثقافي أو أكاديمي له
صبغة معارضة، كما أنها ـ في حدود ما أعلم شخصياً ـ لم توقّع على أيّ من
بيانات المثقفين السوريين التي طالبت بالإصلاح، خاصة تلك التي صدرت بعد
توريث بشار الأسد. هذه السيدة انخرطت، فور تخرّجها من جامعة باريس السابعة،
سنة 1985، في ميدان اختصاصها المهني، فمارست العلاج النفسي في مدينة حلب،
مسقط رأسها، ثمّ في العاصمة دمشق بعدئذ، سواء في المشافي الحكومية أو في
عيادتها الخاصة. وهي من روّاد، التحليل النفسي في سورية، ولها الفضل في
تأسيس 'مدرسة دمشق للتحليل النفسي'، وعقد مؤتمر مشهود حول علم النفس كان
الأوّل من نوعه في تاريخ سورية الحديث.
أمّا 'الجريمة' التي رأى النظام
أنّ ناشد قد ارتكبتها، واستحقت عليها الخطف من المطار والزجّ في زنزانة
واحدة مع القاتلات ومهربات الحشيش والجانيات المحترفات، فهي أنها سعت إلى
استخدام علومها من أجل لمّ شمل بنات وأبناء وطنها، وتشجيعهنّ على تبادل
الرأي والهواجس، وتحريضهنّ على الكلام غير المباح، وتهدئة مخاوفهنّ... ليس
في سياق مظاهرة أو اجتماع سرّي في منتدى أو محفل، بل في بقعة هادئة ومكشوفة
هي مركز اليسوعيين في دمشق. وفي أواخر آب (أغسطس) الماضي، وزّعت وكالة
الأنباء الفرنسية تقريراً عن هذه الجلسات، نشرته عشرات الصحف العربية
والأجنبية، تحت عناوين مختلفة ولكنها تتفق على الأساس: سوريون من أديان
وطوائف مختلفة يجمعهم أمر واحد هو الخوف من المستقبل.
التقرير أوضح أنّ
المشروع يقوم على اجتماعات أسبوعية، يحضرها في كلّ مرّة ستة من أصل 50،
تُطرح فيها مسائل شتى بأكبر قدر ممكن من الشفافية، والتخفف من المحرّم
والمسكوت عنه، لا سيما المخاوف الطائفية والدينية والإثنية، واحتمالات
الحرب الأهلية. كما أشار التقرير إلى أنّ ناشد تشترك في تنسيق المشروع مع
الأب رامي إلياس، المحلل النفسي ومسؤول المركز، واقتبسها تقول التالي:
'المفارقة هي أنّ الجميع يشعرون بالخوف في سورية. لماذا يستخدم النظام
العنف والقمع؟ لأنه يخاف أن يفقد السلطة. والناس الذين يتظاهرون، ألا
يشعرون بالخوف؟ بالتأكيد، ومع ذلك يذهبون' إلى المظاهرات. ثمّ نقرأ ما
يقوله مشارك من الطائفة العلوية (عبّر عن الهلع على نفسه وأولاده بعد
اقتحام جامع الرفاعي في دمشق)، ومشاركة من الطائفة الدرزية (قالت إنها لا
تخشى من الانقسامات الطائفية، بقدر خشيتها من التدخل الأجنبي الذي يمكن أن
يقسم البلد)، وثالث مسيحي (روى أنه كان مع النظام حتى ازدادت عمليات القتل،
فذهب للتظاهر في دوما، وآواه سكانها الذين يسميهم النظام 'سلفيين').
فما
الذي يمكن أن يوهن عزيمة الأمّة، إذا اجتمعت شرائح تمثيلية من بناتها
وأبنائها، وخاضوا في نقاشات مثل هذه، أو انقسموا حول هذا الأمر أو ذاك، بين
مؤيد للانتفاضة وخائف منها مباشرة، أو من تأثيراتها الخارجية؟ وكيف يمكن
لجلسات كهذه أن تضعف 'الشعور القومي'؟ أليس بعض هذا هو ما تنطح رأس النظام
إلى تحقيقه في ما سُمّي بـ'الحوار الوطني'؟ هي أسئلة نافلة، غنيّ عن القول،
لأنّ الأصل في قرار اختطاف ناشد كان تجميد مبادرتها هذه، فضلاً عن تعطيل
طاقااتها في العلاج السريري المباشر لمرض كبير عضال اسمه الخوف، مزمن في
سورية منذ 48 سنة، حين فُرضت قوانين الطوارىء والأحكام العرفية.
ممنوع
على رفاه ناشد استغلال سيغموند فرويد وجاك لاكان وجورج باتاي، أو حتى علماء
نفس عرب من أمثال مصطفى صفوان ومصطفى حجازي وسامي علي، في تدريب السوريات
والسوريين على كسر حواجز الخوف، وفتح كوى في جدران الصمت، والإبصار بعيداً
إلى أمام، نحو الحرية والكرامة والديمقراطية والمستقبل الأفضل. وإذا كانت
أجهزة النظام أجهل، بل أشدّ غباء، من أن تدرك خطورة أبحاث ناشد السابقة حول
المغزى الثقافي ـ السياسي لشيوع ظواهر الحجاب والنقاب والتديّن الشعبي،
وعلاقات الهوية بين الذات والآخر (كما جاء في مقالتها اللامعة 'قول ما لا
يُقال'، مثلاً)، فإنّ الأجهزة ذاتها لا يمكن إلا أن تستنفر وتستشيط غضباً
وحقداً حين تعكف ناشد على رفد الانتفاضة، وإنْ بطرائق غير مباشرة، لكنها
عميقة الأثر.
مثل توفير المضادات الحيوية الكفيلة بقتل الخوف، وتزويد الأمّة بكلّ المناعة المطلوبة للوقاية منه، مرّة وإلى الأبد!