يُعد كتاب «تمرد الجماهير»
للفيلسوف الاسباني خوسه أورتغا إي غاسيت "1883 ـ 1955 » من أكثر كتبه شهرة
وانتشاراً، إذ أنه يُبرز من خلاله كيفية وصول الجماهير إلى سدّة السلطة
الاجتماعية، وتتزامن صدور الترجمة العربية لهذا الكتاب، مع ارتفاع وتيرة
الحِراك الجماهيري، في مختلف البلاد العربية المطالبة بتغيير الأنظمة
الحاكمة واستبدالها بأنظمة أكثر انفتاحاً وتحرراً. والقارئ لسيرة أورتغا
سيجده كيف كان يدعو إلى قيامة الجماهير، والوقوف في وجه ديكتاتورية بريمودي
في اسبانيا، وكان يعتبر تمرّد الجماهير من« أكثر وقائع القرن العشرين
إيجابية».
عندما كتب أورتغا هذا الكتاب رأى بأن الشعوب الغربية، التي انطلقت طائرة
في سماء التاريخ، استطاعت أن تكون عبقريتها الخاصة، وخلقت فيما بينها جملة
من« الأفكار والطرائق والمشاعر المشتركة» وهو ما جعلهم متجانسين فيما
بينهم، وكان التعايش والمجتمع حدان متكافئان، ما أدى إلى إفراز« عاداتٍ
وأعرافاً ولغة وحقوقاً وسلطة عامّة» ووجود هذه الظواهر شكل حالة من التطور،
استطاع المجتمع الأوروبي أن يجد نفسه بها. وهنا يأتي التاريخ كواقع
للإنسان على اعتبار أن« إنكار الماضي غير معقول ووهم» والماضي هو« الطبيعي
في الإنسان الذي يستأنف الجري». لذا كان يتوّجب على الأوروبي أن يدمج
الماضي بداخله، ويعيشه. وتبرز لدى الكاتب فكرة التسييس الشامل عن طريق
ظاهرة تمرد الجماهير، والتي قام بشرحها على أساس فقدان الجمهور المتمرد« كل
قدرة على التدّين والمعرفة. وما كان يتسع صدره إلا للسياسة، لسياسة
مفرّطة، مجنونة خارجة من ذاتها، لأنها تطمح إلى أن تحلّ محل المعرفة والدين
والحكمة، وأخيراً محلّ الأشياء التي هي بجوهرها معدّة كيما تحتلّ مركز ذهن
الإنسان».
في البدء كان الجمهور يحتل« خلفية المسرح الاجتماعي» أما اليوم فإنه وصل
واستقر في الأماكن المفضلة في المجتمع، أي أنه استطاع أن يصل إلى أماكن
الضوء، فالمجتمع مكون من عامليّن أثنين هما« أقليّات وجماهير» ويفصل بينهما
على أساس أن الأقليّات هي« أفراد أو مجموعة أفراد مؤهلون كيفياً "نوعياً"
على شكل خاص» في حين تكون الجماهير« مجموعة من الأشخاص غير مؤهلين كيفيّاً
على شكل خاص». لذا فالجمهور هو الإنسان العادي.. ومن خلال هذه الطريقة
يتحول الكم ـ أي الجمهور ـ إلى حدٍّ كيفي. والجمهور في النهاية هو« كلّ من
لا يقوِّم نفسه، إن خيراً أو شراً، بأسباب نوعية، وإنما يحسّ بنفسه مثل
"سائر الناس" وهو لا يقلق مع ذلك، ويُحس بنفسه على ما يُرام عند إحساسه
بأنه طبق الآخرين».فالانقسام الحاصل ضمن المجتمع بين الجماهير والنخب
المميزة، لا يعد انقساماً داخل الطبقات الاجتماعية، إنما هو انقسام داخل
طبقات من البشر، وهو ما يُلزم وجود داخل كل طبقة اجتماعية أقليّة حقيقية،
وهذا الجمهور نفسه أعلن العزم على أن يكون ضمن الصفوف الأولى للمجتمع، فهو
يريد أن يحتل الأمكنة، ويتمتع بالملذات المقصورة على القلة فقط.
وإذا ما أردنا العودة إلى التاريخ، نجد أن تاريخ الإمبراطورية الرومانية
تاريخ تمرد، وسيطرة للجماهير التي قضت على الأقليّات الحاكمة وحلت
محلها، ونجد أن الصيرورة التاريخية تُعيد نفسها اليوم، فالجماهير أصبحت
تمارس أعمالاً كانت من قبل مكرسة للأقليات، وهي نفسها أصبحت« عصية على
الأقليات، فهي لا تطيعها ولا تتبعها ولا تحترمها وإنّما على العكس، تُعرض
عنها وتحلّ محلّها» فنحن اليوم نعيش عصر التسويات، والجماهير في هذه اللحظة
الراهنة تريد أن تسوِّي« مابين الثروات، وتُسوِّي الثقافة فيما بين
الطبقات الاجتماعية المختلفة، ويُسوِّي مابين الجنسين..» وتبرز الحياة
اليوم على أنها ذات حجم أكبر من كل الحيوات، وهو ما يؤدي إلى هدم جميع
الكلاسيكيات القديمة، فالعصر الذي نعيشه الآن يُعد أرفع« من العصور الأخرى،
ودون ما في نفسه. هو قويّ للغاية وغير مطمئنّ إلى مصيره في الوقت ذاته.
وهو فخور بقواه ويخشى هذه القوى أيضاً» فالحياة في النهاية ليست سوى ما
نستطيع أن نكون، وبالتالي يكون الظرف والقرار من العناصر المهمة في تكوين
هذه الحياة، ويؤكد أورتغا على أن الثورة« ليست تمرّداً على النظام الموجود
سابقاً، وإنما هي غرس نظام جديد يزعزع أسس القديم.» وإذا ما أردنا المقارنة
بين الجمهور والإنسان النخبة، نجد أن الأول يشعر بنفسه كاملاً، في حين
الثاني كي يشعر بنفسه كاملاً يحتاج أن يكون معجب بنفسه على شكل خاص، لذا
نجد أن الإنسان الجمهور أذكى وأقدر عقلياً من الإنسان النخبة« لكن هذه
القدرة لا تخدمه في شيء؛ والإحساس الغامض بامتلاكها يخدمه في الواقع، بأن
يزداد انغلاقاً على نفسه، ولا يستعملها.» فهو يقدس ولمرة واحدة مقولاته،
ونسق أفكاره، ومفرداته الفارغة التي راكمتها المصادفة في داخله. فالهيمنة
الممارسة من قبل القوى الفكرية، جعلت الجمهور لا يؤمن بأن لديه أفكاراً،
وما لديه ليس سوى معتقدات وتقاليد وأمثال..إلخ، ولم يتخيل أن لديه أراء
نظرية حول ماهية الأشياء، ولم يكن يحدث نفسه بمعارضة أفكار الرجل السياسي
بأفكاره، وما كان يمنعه ليس سوى« وعيٌ نظري بمحدوديّتها، وبأنها غير مؤهلة
للتنظير». وهنا لابد من أن يكون تمرد الجماهير إما عبوراً إلى تنظيم بشري
جديد، أو كارثة على المصير البشري، فما تريده الجماهير اليوم ليس سوى إرث
حضاري يمثل« وساءل الراحة والأمن، ومنافع الحضارة..».فالجمهور ـ وبحسب
أورتغا ـ هو من لا يعمل بنفسه، فهو وجد في الحياة كي يكون« مَقوداً
ومتأثّراً بغيره وممثَّلاً ومنظَّماً كيما يكفّ عن أن يكون جمهوراً» فهو
إذا ما أراد أن يتصرف بنفسه نجده يشبه القاضي الأمريكي لينش «Lynch» الذي
كان يحكم بالإعدام دون محاكمة، فهو لا يملك أي وسيلة تصرف غيرها.
يتحدث أورتغا في الجزء الثاني من الكتاب« والذي قام بنقله للعربية
المترجم علي إبراهيم أشقر.. وصدر عن دار التكوين» عن نظرية الحكم، وكيفية
انتقال السلطة للجماهير، ويرى بأن لكل حاكم بدائي طابع مقدس، لأنه حكمه
مؤسس على صيغة دينية، ويؤكد على أن الديني هو« الشكل الأوّل الذي يظهر في
ظلّه دائماً ما سوف يصبح روحاً وفكرةً ورأياً..» فالكنيسة كانت تعمل باسم«
السلطة الروحية» إلا أن التطور الذي حلّ في العالم، أدى إلى هدم الكنيسة عن
طريق ظهور الديمقراطيات للواجهة ومطالبة الجماهير بها، ونتج عن ذلك تفعيل
نظام الاقتراع عن طريق العملية الانتخابية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا
كان« نظام الاقتراع موفقاً، وإذا تطابق مع الواقع، فكلّ شيء يسير سيراً
حسناً، وإمّا لا، فكلّ شيء يسير سيراً سيّئاً ولو سارت البقيّة على شكل
أمثل».
يُعد تمرد الجماهير من أكثر وقائع القرن العشرين إيجابية، وقوته الغير
مسبوقة جلبت في آن واحد وبالقوة، مخاطر هامة وجديدة جداً، وإنّ تحقق
توقعات« خوسه أورتغا إي غاسيت» الآن والتي تعود إلى منتصف القرن الماضي،
يمكنها أن تسهم في قراءة الكتاب اليوم بإمعان أكبر لفهم، ومعرفة شروط
اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم، فجوهر الكتاب يقوم على« مذهب حول
الحياة البشرية».