«ذاك النجم غير موجود
على الخريطة!» لقد دوّت هذه الكلمات التي جهر بها طالب علم الفلك
.H. درِّسْت> في أرجاء قبة مرصد برلين ليلة 23/9/1846، ومنذ ذلك الحين
مازال صداها يتردد في المعاهد الفلكية.
«فعندما بُسطت خريطة نجمية على المنضدة أمام
<درِّسْت>، كان يقوم حينذاك بمساعدة أستاذ علم الفلك
.J. گالي> على تفحّص تنبؤ غير عادي طرحه عالم الرياضيات
.J .U. لوڤرييه>. فقد وضع هذا العالم الفرنسي فرضية مفادها أن كوكب
أورانوس ـ الذي كان حينذاك أبعد الكواكب المعروفة عن الشمس ـ كان يبتعد عن
مداره بسبب السحب التثاقلي gravitational
pull لكوكب غير مرئي. وكان <لوڤرييه> قد بعث قبل
خمسة أيام فقط إلى <گالي> رسالة قال فيها: «سترى، أنني أثبت أنه لا يمكن تفسير
أرصاد أورانوس إلا بافتراض تأثير كوكب جديد غير معروف حتى الآن؛ والجدير بالذكر
هنا أن ثمة موقعا واحدا في دائرة البروج يمكن أن يوجد فيه هذا الكوكب الذي يولد
الاضطراب في حركة أورانوس.»
وبعد أقل من نصف ساعة أمضاها <گالي> في الرصد، اكتشف
قرصا صغيرا أزرق اللون يبعد نحو درجة واحدة عن ذلك الموقع. وعندما رصد هذا
الجسم ثانية في الليلة التالية، وجد أنه غيّر موقعه قليلا ـ وهذه أَمارة ضمنية
على أن الجسم لم يكن نجما. وإذ ذاك كتب مباشرة إلى <لوڤرييه> يقول: «إن الكوكب
الذي أشرت إلى وجوده موجود فعلا!»
إن قصة البحث الرياضياتي الذي كان يُجرى بسرية،
واكتشاف الكوكب الذي أسماه <لوڤرييه> نپتون، هي واحدة من أشهر القصص المتداولة
في تاريخ علم الفلك. ومن القصص المعروفة أيضا الجدل الذي أثير عندما ظهر
للعيان، مباشرة بعد إعلان <گالي> عن هذا الاكتشاف، أن عالم رياضيات إنكليزيا
صغير السن، وذا شهرة محدودة، اسمه
،
عالج المسألة نفسها وتوصل إلى تحديد الموقع نفسه تقريبا، قبل أن يفعل <لوڤرييه>
ذلك.
نصر علم الميكانيك السماوي: أرشدت هذه الخريطة النجمية الفلكييْن الألمانييْن و .H. درست> إلى اكتشاف كوكب نپتون في ليلة 23/9/1846. وتشير الخربشات (التي يُظن أنها من فعل گالي) إلى مكان عثوره على نپتون، وإلى الموقع الذي تنبأ الفلكي الفرنسي بالعثور على الكوكب فيه. ومن دون أن يعرف <گالي> كان الرياضياتي الإنكليزي قد تنبأ بموقع في المنطقة نفسها. |
استقبل الفلكيون الفرنسيون ادعاء <آدامز> بالتشكك؛
لكن يبدو أن ادعاءه تلقى دعما قويا يتضح في وثيقة رسمية موجودة في سجلات
الجمعية الفلكية الملكية (RAS) تتضمن كلمة ألقاها
عضو الجمعية في اجتماع لهذه الجمعية
عُقد بتاريخ 13/11/1846. وقد أكد <إيري> في كلمته أنه علم بالموقع الذي تم
التنبؤ به من رسالة بعث بها إليه <آدامز> في خريف عام 1845، وأنه أجرى عملية
بحث غير معلنة عن الكوكب في فصل الصيف التالي. وقد أسفرت كلمته عن إجماع على أن
<آدامز> و<لوڤرييه> يحظيان بنصيبين متساويين من شرف هذا الاكتشاف.
ليست معظم روايات هذه الحكاية الشهيرة سوى صيغ مكررة
لما ذكره <إيري>. وقد نُسبت سمة مميزة إلى كل واحد من أبطال هذه الروايات
<لوڤرييه> و<آدامز> و<إيري> و [الفلكي
في جامعة كامبردج] الذي أجرى عمليات البحث البريطانية. ف<آدامز> كان البطل
الخجول الذي أُبِّن في مجلة الجمعية الفلكية الملكية بوصفه «أعظم فلكي رياضياتي
إنكليزي، باستثناء نيوتن فقط.» وقد قيل إن <آدامز> و<لوڤرييه> كليهما تساميا
فوق المنافسات القومية بين بلديهما وصارا صديقين مدى الحياة. وفي المقابل، كان
يُنظر إلى <تشاليس> بوصفه شخصا قوّالا، اتسمت عمليات بحثه بعدم الإتقان. أما
<إيري> فكان يمثل البيروقراطية الصميمة. وفي عام 1976 وصفه سيمون> بأنه «شخص حسود ومغرور ومحدود التفكير، كما أنه يدير مرصد گرينتش بأسلوب
استبدادي، وأنه إنسان ضيق الأفق مهووس بالتفاصيل، ومن ثم فقد كان لا يرى الصورة
الشاملة للأشياء. وقد كان هذا الشخص البغيض إلى حد مثير للغثيان هو الذي حاول
آدامز الاتصال به.»
وعلى مرّ السنين، ظل بعض الفلكيين يتساءلون عن صحة
قصة اكتشاف نپتون. وكان أحد أوائل هؤلاء، قبل نصف قرن، الفلكي البريطاني .W. سمارت>، الذي ورث مجموعة من الأبحاث العلمية التي أجراها <آدامز>.
وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، عثر تشابمان> [من جامعة أكسفورد] و [الذي
كان حينذاك في جامعة جونز هوپكنز] على وثائق إضافية لها علاقة بهذا الموضوع.
ومنذ أواخر القرن الماضي، قطع [وهو
محلل مستقل من بالتيمور] شوطا أبعد عندما ذكر أن فلكيي القرن التاسع عشر
البريطانيين قاموا بتزييف واع، أو أنهم، على الأقل، أضافوا أشياء إلى ملف قصة
اكتشاف نپتون.
نظرة إجمالية/ اكتشاف
نپتون(**)
• في بواكير القرن التاسع عشر، كان ثمة مسألة تقابل مسألة المادة الخفية المطروحة في هذه الأيام، وهي انحراف كوكب أورانوس عن مداره. وقد حُلّ هذا اللغز عام 1846 حين اكتشف الراصدون، الذين كان يوجههم علماء نظريون، كوكب نپتون. فثقالته هي التي كانت تدفع أورانوس إلى خارج مداره.
• طالما نسب المؤرخون الفضل في هذا الحل مناصفة إلى عالمين نظريين هما الفرنسي <J .J .U. لوڤرييه> والإنكليزي <C .J. آدامز>. كان دور <لوڤرييه> لا جدال فيه وكذلك دور <آدامز>، وظل الأمر كذلك حتى منتصف القرن العشرين.
• ومع بدء مزيد من المؤرخين بإعادة فحص دور <آدامز>، تبين أن مجموعة من الوثائق البالغة الأهمية مفقودة من المحفوظات (الأرشيف) البريطانية، ولم يُعثر عليها إلا عام 1998 في معهد الفلك التشيلي. وفي صيف عام 2003 عثر المؤلفون مصادفة على وثائق حاسمة أخرى.
• النتيجة الأخيرة هي أن <آدامز> نفّذ بعض الحسابات المثيرة للاهتمام، لكنه لا يستحق أن ينسب إليه الفضل في اكتشاف نپتون.
|
كان من الممكن الكف عن هذه الشكوك لو تمكّن الفلكيون
من الاطلاع على الوثائق الحقيقية التي ذكرها <إيري> لكنهم عندما كانوا يطلبون
الاطلاع على ملف هذه الوثائق، بدءا من منتصف الستينيات، كان القيّمون على مكتبة
مرصد گرينتش الملكي (RGO) يقولون لهم إنه «غير
موجود». وقد كان وجوده سرا مثل قصة نپتون ذاتها. فكيف يمكن أن تظل الوثائق
المتعلقة بحدث من أهم الأحداث وأروعها في تاريخ علم الفلك مفقودة طوال هذه
المدة؟
وقد اشتبه بقوة كل من <رولنز> وموظفي المكتبة في أن
يكون الملف موجودا في حوزة عضو الجمعية الفلكية الملكية .O. إيكين>، الذي كان المساعد الأول لرئيس الجمعية في بواكير الستينيات.
فقد استعار الملف ليكتب مقالات عن السير الذاتية ل<إيري> و<تشاليس> وبذا كان
آخر شخص معروف استعار الملف. بيد أن <إيكين> الذي رحل بعد ذلك إلى أستراليا ثم
إلى تشيلي، أنكر وجود الملف لديه، ثم إن موظفي المكتبة، الذين خشوا أن يقوم
<إيكين> بإتلاف الوثائق (إن كانت لديه فعلا) ليخفي آثارها، أحجموا عن الضغط
عليه بقوة لاستردادها.
وظل الأمر سرا إلى الشهر10/1998، وذلك بعد مرور أكثر
من ثلاثين سنة على آخر مرة شوهد فيها الملف. فعندما مات <إيكين> في 2/10/1998
وبدأ زملاؤه بتفقّد شقته في معهد تشيلي للعلوم الفلكية، عثروا على الوثائق
المفقودة (إضافة إلى كثير من الكتب النفيسة المأخوذة من مكتبة مرصد گرينتش
الملكي). وقد وضعوا هذه الوثائق والكتب، التي تجاوز وزنها 100 كيلوغرام، في
صندوقي شاي كبيرين، وأعادوها إلى مكتبة جامعة كامبردج، حيث توجد الآن محفوظات
(أرشيف) مرصد گرينتش الملكي. (وقد قام الموظفون فورا بتصوير نسخ لها). إن
استرداد هذه الثروة، وكذلك اكتشاف وثائق لها صلة بالموضوع في محفوظات أخرى،
سمحا لنا بإعادة فحص اكتشاف نپتون من منظور آخر.
انحراف عن المسار(***)
إن الكواكب الخمسة ـ عطارد، الزهرة، المريخ،
المشتري، زحل ـ تُرى بسهولة بالعين المجردة، ومن ثم فهي معروفة منذ غابر
الأزمان. وأول كوكب اكتُشف بوساطة مقراب هو أورانوس. ففي ليلة 13/3/1781 كان هيرشل> [وهو رغّان(1) إنكليزي ألماني المولد وفلكي هاو] ينفّذ ما أسماه مراجعة
للسماء، وهي عملية مسح منهجية لمحتويات السماء في الليل بمقراب عاكس قطر فتحته
ستة إنشات مصنوع محليا. عند ذلك اكتشف في الحال أن القرص الدقيق ذا اللون
الأصفر المشوب بالخضرة الذي كان يجتاز كوكبة الجوزاء(2) هو دخيل عليها، وربما
كان مذنّبا. لكن الأرصاد والحسابات اللاحقة التي أجراها فلكيون آخرون، بينت أن
جرم هيرشل لم يكن مذنّبا، لأن لمدار المذنب شكلا إهليلجيا شديد التطاول. لقد
كان الجرم السماوي كوكبا مستوفي الصفات، يتحرك حول الشمس في مدار مستقر دائري
تقريبا، ويبعد عن الشمس نحو ضعف بُعد زحل Saturn
عنها.
ملفات اكتشاف الكوكب (****)
لقد عُثر على ملف نپتون عام 1998 بعد أن كان مفقودا مدة طويلة. فبعد أن سرقه، قبل 30 عاما، الفلكي <O. إيكن> من مكتبة مرصد گرينتش الملكي لأسباب لاتزال غير واضحة، عُثر عليه بعد وفاته بين ممتلكاته الشخصية المنقولة. وتوفر هذه الوثائق رؤى جديدة في طريقة قيام فلكيي العصر الفكتوري بتأليف القصة الرسمية لاكتشاف نپتون.
يتضمن الملف هذه الفكرة التي طالما استُشهد بها بوصفها الدليل الرئيسي على أن <C .J. آدامز> كان أول من تنبأ بوجود نپتون وبموقعه. فقد ترك <آدامز> قصاصة الورق هذه في صندوق بريد عضو الجمعية الفلكية الملكية <B .G. إيري> في الشهر 10/1845. لكن المذكرة لا تترك انطباعا مثيرا لدى من يقرؤها، ذلك أنها تورد نتائج حساب أجراه <آدامز>، ولا توفر أي تفصيلات أخرى.
استلت هذه الرسالة المكتشفة حديثا من محفوظات (أرشيف) كورنوول. وقد بدأ <آدامز> بكتابتها ليبعث بها إلى <إيري>، لكنه لم يكملها. وهي تسلط الضوء على الأحجية التالية: لماذا لم يستجب <آدامز> قط لطلب <إيري> بإعطائه مزيدا من المعلومات؟ لو أنه فعل ذلك، فربما اكتشف البريطانيون نپتون قبل نجاح الجهود الفرنسية الألمانية. وتبين الرسالة أن <آدامز> اعتبر فعلا استفسار <إيري> بالغ الأهمية، خلافا لتقاريره المتأخرة. ومن الواضح أنه كان ثمة أولويات أخرى شغلته عن متابعة هذا الموضوع.
|
وفكرة أن منظومتنا الشمسية تؤوي عالما كاملا آخر
كانت قد أسرت فلكيي ذلك الوقت، الذين كانوا قبل ذلك يرفضون هذه الفكرة. لذا فقد
أخذوا يراجعون الفهارس (الكاتالوگات) النجمية التي وضعها راصدون سابقون،
وتوصلوا إلى أن الكوكب، الذي أعطاه الفلكي الألماني .J. بودي> اسم أورانوس، شوهد فعلا 20 مرة قبل عام 1781، إحداها في وقت
مبكر عام 1690، لكنهم كانوا يظنونه نجما. وفي عام 1821، جمّع الفلكي الفرنسي بوفار> جميع أرصاد أورانوس، وعندئذ واجه مشكلة كبيرة. فحتى بعد إدخاله
التأثيرات التثاقلية gravitational للكوكبين
العملاقين المشتري وزحل، لم يتمكن من التوفيق بين بيانات أورانوس التي حصل
عليها وبين قوانين نيوتن في الحركة والتثاقل. فهل كانت القوانين خاطئة؟ هل كان
يتخلل الفضاء وسط مقاوم يؤخر تقدم الكوكب؟ أو هل كان من المحتمل تأثر أورانوس
بعالم مجهول آخر؟ وكما أن المادة الخفية dark
matter في التي تولد إرباكا شديدا لفلكيي هذه
الأيام، فإن انحراف أورانوس عن مداره كان يسبب إرباكا مماثلا لفلكيي القرن
التاسع عشر.
إن كوكب أورانوس الذي كان يبتعد عن مداره، كان يتحرك أحيانا بسرعة أكبر، وأحيانا بسرعة أصغر مما كان متوقعا. وانطلاقا من هذه التباينات، استنتج <آدامز> و<لوڤرييه>، كل بمعزل عن الآخر، موقع الجرم الذي سمي في وقت لاحق نپتون. |
كان الفلكي الألماني العظيم .F. بسّل> ينوي النظر في هذه المشكلة، لكنه توفي قبل أن يتمكن من إنجاز
الكثير في اتجاه حلها. وقد نشر <لوڤرييه> أول بحث كامل في هذا الموضوع بتاريخ
1/1/1846 في مجلة الأكاديمية الفرنسية للعلوم. تنبأ <بسّل> في بحثه هذا بأن ثمة
كوكبا سيجتاز مدار أورانوس، وأنه سيُعثر عليه في طول متوسط(3) قدره 325 درجة في
يوم 1/1/1847 [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وقد وصل عدد المجلة إلى إنكلترا في
أواخر الشهر 1/1846، وحالما قرأه <إيري>، تذكر أنه رأى نتيجة مشابهة في خريف
1845، مكتوبة بشكل يعوزه الترتيب على قصاصة من الورق تركها له زميل من كلية
سينت جون التابعة لجامعة كمبردج.
سماوي(*****)
كان اسم هذا الزميل <آدامز>، وكانت حياته مماثلة
لحياة <نيوتن> في بعض النواحي، فكلاهما ترعرع في الريف الإنكليزي، <نيوتن> هو
ابن فلاح أمّي من لانكشِر، و<آدامز> ابن مُحاصص(4) من كورنوول؛ وكان كل منهما
مهتما منذ مرحلة مبكرة من حياته بالانتظامات في الرياضيات والظواهر الطبيعية؛
ثم إنهما كانا يُدخلان أسافين أو يحفران ثلما على النوافذ أو الجدران باعتبارها
علامات على الحركة الموسمية للشمس. وقد كان لهما خصوصيات متشابهة في العادات:
اعتدال في تناول الطعام والشراب، وصعوبة في الإرضاء، وقدر كبير من الشكوك
الدينية. وقد كان معاصروهما ينظرون إليهما بوصفهما شخصين حالمين غريبي الأطوار
وشاردي الذهن. وربما كان <نيوتن> و<آدامز> كلاهما يعتبران في أيامنا هذه مصابين
بمتلازمة أسبيرگر(5)، التي تُعرف أحيانا بالتوحد الحاد الذكاء(6).
وعندما بلغ <آدامز> الذي ولد بتاريخ 5/6/1819،
العاشرة من عمره، لوحظ أنه كان يمتلك موهبة استثنائية في الرياضيات جعلت أحد
معارف عائلته يعتبره طفلا معجزة prodigy ويقول
لأبيه: «لو كان ابني، لبعت قبعةَ رأسي كي أرسله إلى الجامعة.» قرأ <آدامز> جميع
كتب الرياضيات والفلك التي وقعت عليها يداه؛ وعندما كان في سن المراهقة، حَسَب
التوقيتات المحلية لحوادث الكسوف الشمسي الذي يُرى في كورنوول ـ وهذه مهمة ليست
بالسهلة في الأيام التي سبقت الحاسبات الإلكترونية والحواسيب. وثمة أسطورة
انتشرت بأنه كان يرصد السماء خلال اتكائه على صليب سلتي
celtic قديم قرب منزله، لكن ضعف بصره منعه من التفكير في امتهان علم
الفلك الرصدي. هذا وإن اكتشاف كمية من المنغنيز، الذي يُستعمل في صناعة
الفولاذ، في أرض عائلته انتشله من الفقر ومكنه من الانتساب إلى جامعة كمبردج.
وحال وصول <آدامز> إلى كمبردج عام 1939، برزت لديه
قدرات العالِم الفذ. وفي هذا الصدد قال واحد من زملائه: «أصبت باليأس، لأنني
ذهبت إلى كمبردج بآمال عريضة، لكن أول شخص قابلته كان شيئا يتجاوزني بلا حدود.»
وقد ظل <آدامز> يفوز بجميع الجوائز في الرياضيات التي قدمتها الجامعة. بيد أنه،
من ناحية أخرى، بدا منسيا، وكأنه روح بلا جسد. وقد تذكره طالب آخر بوصفه «رجلا
صغير الجسم، يمشي بسرعة، ويرتدي معطفا باهتا لونه أخضر داكن.» وقالت عنه صاحبة
الفندق الذي أقام فيه: «نادرا ما كنت أراه مستلقيا على الأريكة من دون أن يكون
في جواره كتب أو أوراق... وعندما كنت أريد التكلم معه، كانت الطريقة الوحيدة
لجذب انتباهه هي الصعود إليه ومس كتفه؛ كان الاتصال به أمرا صعبا.»
وفي الشهر 7/1841، عندما كان <آدامز> في منتصف
مرحلته الجامعية، اكتشف خلال تجواله في مكتبة بكمبردج بحثا بعنوان «تقرير عن
تقدم علم الفلك» كتبه <إيري> عام 1832، وأورد فيه الانحراف المتزايد لأورانوس
عن مداره الذي حدده الفلكيون. وبعد قراءة هذا البحث، كتب <آدامز> في مفكرته ما
يلي:
سأقوم بأسرع وقت ممكن بعد حصولي على شهادتي الجامعية
بدراسات حالات عدم الانتظام في حركة أورانوس، التي لم تُفسَّر حتى الآن، وذلك
لمعرفة ما إذا كانت تُعزى إلى تأثير كوكب لم يُكتشف بعد موجود وراء أورانوس.
هواية آدامز(******)
وخلال السنوات الخمس اللاحقة، يبدو أن آدامز كان
يعتبر مسألة حركة أورانوس هواية. لم تكن المسألة مستعجلة، فقد كانت تنتظر حلا
لها طوال سنوات. وبعد تخرجه عام 1843، تمكن من الحصول على بيانات رصدية
لأورانوس عن طريق وسيط هو <تشاليس>، الذي كان مرصده يتطلب من آدامز قطع ميل
مشيا على الأقدام ليصل إليه. وبسبب انشغاله بالتدريس، فقد كان <آدامز> يُجري
حساباته خلال إجازاته التي كان يمضيها في كورنوول. كانت الحسابات تتطلب جهدا
وكدحا، لكنه كان يستمتع بهذا النوع من العمل.
وكتقريب أول، افترض أن الكوكب الافتراضي يقع على
المسافة المتوسطة (38 وحدة فلكية، وهذه تعادل ضعف بُعْد أورانوس عن الشمس) التي
تنبأ بها قانون بُود Bode's
Law ـ وهو علاقة تجريبية وفرت، لأسباب مجهولة،
المسافات المدارية لجميع الكواكب المعروفة. وباقتراح قيم حددها اعتباطا لوسطاء
مدار كوكب افتراضي، حاول <آدامز> تخفيض البواقي
residuals (التباين الحاصل بين الموقع المتنبأ به والموقع المرصود
لأورانوس) وذلك بسلسلة من التقريبات المتتالية، وهذه طريقة تسلكها نظرية
الاضطرابات(7) التي صارت في وقت لاحق دعامة أساسية للفيزياء الرياضياتية.
إن الشكوك الفرنسية المبكرة المتعلقة بشرعية ادعاء البريطانيين بإسهامهم في اكتشاف نپتون يعبر عنها برسم كاريكاتوري نُشر بالعدد المؤرخ في 7/11/1846 من المجلة L'Illustration. وفيه يقرأ القبطان الجملة التالية: «السيد <آدامز> وهو يكتشف الكوكب من تقرير السيد <لوڤرييه>.» وقد خمدت هذه الشكوك بعد العثور على دليل وثائقي. هذا ولم ينتحل <آدامز> عمل <لوڤرييه> لكن البريطانيين قاموا لاحقا بتعديل إسهاماته |
وفي منتصف الشهر 9/1845، بعث، بطريقة ما، إلى
<تشاليس> النتائج التي حصل عليها في إحدى عطلاته الصيفية. لكن كيف حدث ذلك؟ لقد
استنتج كثير من المؤرخين أن ثمة صفحة واحدة في ملف <آدامز> قد توفر إجابة عن
هذا السؤال: فهي تشير إلى «الكوكب الجديد»، وفي حاشيتها تعليق كُتِبَ بيد
<تشاليس> وهو «تُسلِّمت في الشهر 9/1845.» لكن هذا الاستنتاج غير موثوق، فإضافة
إلى ملاحظات أخرى، لم تكن عبارة «الكوكب الجديد» New
Planet شائعة الاستعمال إلا في وقت لاحق. وليس من
الواضح إطلاقا أن <آدامز> بعث بنتائجه إلى <تشاليس> كتابة؛ ولو فعل ذلك، فربما
ضاعت الورقة التي كتبت عليها هذه النتائج. واستنادا إلى الطبيعة الغامضة لطريقة
إرسال النتائج، فليس مفاجئا أن يكون <تشاليس> قد وجد فيها ما يغريه برصد السماء
في الليل. فكان يتشكك في قدرة نظرية الاضطرابات على التنبؤ بالمواقع الكوكبية
بدرجة كافية من الدقة، وقد أوضح ذلك فيما بعد بقوله: «في حين كان الجهد المبذول
في العمل أمرا مؤكدا، فإن نجاحه غير مؤكد.» بيد أنه كتب تقريرا ل<إيري> ذكر فيه
أن <آدامز> أتم بعض الحسابات.
قرر <آدامز>القيام بزيارة ل<إيري> في رحلة عودته إلى
كمبردج بعد قضاء عطلته في كورنوول. وبتاريخ 21/10/1845، عرّج على بيت <إيري> في
گرينتش هيل مرتين، لكنه لم يجده. وذلك أمر متوقع، إذ إن الزيارة لم تكن محددة
بموعد سابق، ثم إنها زيارة لواحد من أكثر الموظفين انشغالا في البلاد. لذا لم
تتح قط للاثنين فرصة اتصال أحدهما بالآخر. ومع أن بعض الروايات وجَّهت من دون
حق اللوم إلى كبير خدم <إيري> لعدم تقديمه بطاقة <آدامز> لسيده، فقد اكتُشفت
حديثا رسالة من زوجة <إيري> تبرئ ذلك المسكين، وورد فيها أن البطاقة قدِّمت
فعلا، لكن <إيري> كان خارج منزله.
ترك <آدامز> قصاصة من الورق ل<إيري> هي الوثيقة
الحاسمة التي تمثل المستند الأساسي لادعاء الاكتشاف البريطاني [انظر الإطار في
الصفحة 21]. وقد ورد في هذه المذكرة الموجزة العناصر المدارية(8) للكوكب
الافتراضي. ومدار هذا الكوكب بعيد جدا عن الشكل الدائري التام، وبلغ طوله
المتوسط 323 درجة و34 دقيقة بتاريخ 1/10/1845. ولو نظرنا فعلا إلى ذلك الموقع
في ذلك التاريخ، لوجدنا أن نپتون يبعد عنه نحو درجتين، وهذه دقة لا تُعدُّ
بعيدة عن تلك التي حدد بها <لوڤرييه> الموقع في وقت لاحق.
وفّرت المذكرة أيضا أعمدة للبواقي، التي قيمتها نحو
ثانية قوسية واحدة، والتي وضعها <آدامز> ضمن قائمة كي يثبت أن نظريته تفسر حركة
أورانوس الشاذة. لكن المذكرة، من جهة أخرى، لم تقدِّم معلومات عن النظرية التي
طبقها، ولا عن الحسابات التي أجراها للتوصل إلى قائمته تلك. إلى ذلك، فقبل أن
يكون باستطاعة راصدٍ استعمال المعلومات لتوجيه مقرابه، لا بد أن يكون شخص قد
ترجم العناصر المدارية الوسطية إلى مواقع فعلية في السماء. وقد جرى تحرير نسخة
من المذكرة التي نشرها <إيري> في وقت لاحق، لكن سقطت منها جملة مهمة وذلك في
محاولة واضحة لإخفاء هذا العيب.
سكوت يتعذر تفسيره(*******)
ومع أن كثيرا من النقاد قد يوجهون اللوم إلى <إيري>
لإخفاقه في إدراك أهمية هذا البحث الخطير، إلا أن <إيري> لم يهمله؛ إذ بعث
برسالة إلى <آدامز> جاء فيها:
أنا شاكر جدا لك على النتائج التي أوردَتها في بحثك
الذي تركته لي قبل بضعة أيام، والذي يبين أن اضطرابات [قيم الأخطاء في خط طول
longitude] أورانوس ناجمة عن كوكب له عناصر معينة
مفترضة. وتسرني جدا معرفة ما إذا كانت هذه الاضطرابات المفترضة توضح [أيضا]
مقدار نصف قطر أورانوس.
وكان <إيري> يشير بطريقة غير مباشرة إلى هذه
الحقيقة، إذ كان هو نفسه قد قرر، بعد إجرائه سلسلة مستفيضة من الأرصاد في
الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، أن أورانوس، إضافة إلى وجود انحرافات في خط
طوله، يبعد عن الشمس أكثر مما يجب. ولو أجاب <آدامز> عن الاستفسار الذي بعث به
<إيري> إليه، لكان <إيري> قد أخذ في البحث عن الكوكب المفترض، وعندئذ ربما نسب
البريطانيون شرف اكتشاف نپتون كله إليهم. لكن <آدامز> لم يجب. تُرى لماذا لم
يفعل ذلك؟
لم يقدم <آدامز> إجابة مباشرة قط عن السؤال الحاسم.
وفي سن متأخرة، قال إنه اعتبر استفسار <إيري> «ساذجا» لا يستحق الإجابة عنه.
لكنه اعترف في بحث لخص فيه حساباته ونشره بعد اكتشاف نپتون أن الخطأ في تقدير
نصف قطر مدار أورانوس كان «كبيرا أحيانا.» وفي الشهر 12/1846، وجه سيدكويك> [وهو جيولوجي من كمبردج]. سؤالا إلى <آدامز> عما إذا كان إحجامه عن
الرد يعود إلى غيظه من عدم تمكنه من مقابلة <إيري>، وكان جواب <آدامز> بالنفي.
لقد عزا عدم الرد، بدلا من ذلك، إلى عادته في تأجيل الأمور وكرهه للكتابة.
ونحن نعرف الآن ـ من وثيقة اكتُشفت عام 2004 ضمن
مجموعة من أوراق <آدامز> العائلية في كورنوول ـ أن <آدامز> بدأ فعلا بكتابة
رسالة إلى <إيري>، لكنه لم يرسلها إليه. وقد عبر في الرسالة المؤرخة في
13/11/1845، عن نيته شرح طرائقه، وقدم سردا تاريخيا موجزا لعمله المبكر، لكنه
توقف عن الكتابة فجأة بعد صفحتين. ويحتوي بحثان آخران أنجزهما في الوقت نفسه
تقريبا القاعدة الرياضياتية التي تحدد الانحراف في مقدار نصف القطر، لكنه لم
يقم بمحاولة لحسابه. لذا يبدو أن <آدامز> قدر أهمية سؤال <إيري> لكنه، لسبب ما،
لم يقم بإعداد إجابة كاملة عنه.
بعد اكتشاف نپتون، كتب <آدامز> إلى <إيري> رسالة
يقول فيها إنه فكر في البحث بنفسه عن كوكبه الافتراضي باستعمال الآلات الصغيرة
الموجودة في مرصد الجامعة. بيد أنه أقر ضمنا بأن عدم شرح طريقته ل<تشاليس> أو
ل<إيري>، أدى إلى عدم نجاحه في إقناعهما بالدعوة إلى القيام ببحث فوري عن
الكوكب. ففي رسالته إلى <إيري> يقول: «لم أكن أتوقع أن الفلكيين الرصديين،
الذين كانوا مشغولين كليا بقضايا مهمة، سيولون نتائج أبحاثي كثيرا من الاهتمام،
مثلما فعلت أنا بالذات.»
الهدوء الذي يسبق
العاصفة(********)
خلال النصف الأول من عام 1846، كرس <آدامز> أبحاثه
لما بدا أنه مشكلة تتطلب عملا عاجلا أكثر من غيرها، وهي حساب مدارات شظايا مذنب
كان قد انشطر إلى قسمين. كان <آدامز> غارقا أيضا في التدريس، وهذه عملية يعرف
الأكاديميون المبتدئون أنها لا تترك لأبحاثهم إلا القليل من الوقت. هذا وحتى
الآن لم يُعثر على وثيقة تبين أن موضوع اضطرابات أورانوس كان يجول في ذهن
<آدامز> مرة أخرى حتى نهاية الشهر 6/1846، حين وصل بحث <لوڤرييه> إلى إنگلترا.
عند ذلك، فقط، اقترح <إيري> على <تشاليس> تنفيذ
عملية بحث عن الكوكب. وقد شارك <آدامز> في هذا المجهود، وحدد بالحساب المواقع
السماوية للكوكب الافتراضي في أواخر الصيف وبدايات الخريف. وقد لاحظ المؤرخ
<رولنز> أولا أن هذه الحسابات مبنية على مدار <لوڤرييه> الدائري، لا على نظرية
<آدامز>. وقد بدأ <تشاليس> عملية بحثه عن الكوكب بتاريخ 29/7/1846. كان عمله
يتميز بالإتقان والدقة، وهذا ما يوضحه الكتاب الذي أورد فيه أرصاده. ولما كان
<تشاليس> لا يعرف أن ثمة خريطة نجمية أصدرتها أكاديمية في برلين تتضمن الموقع
السماوي قيد الاعتبار (وهي الخريطة التي كان سيستعملها <گالي> و<درِّست> في
أواخر الشهر 9/1846)، فقد تعين عليه إعداد خريطة نجمية جديدة سجل فيها مواقع كل
جرم سماوي رصده مرتين. فإذا تحرك جرم منها، فسيكون مرشحا ليكون الكوكب المطلوب.
وقد استغرقت هذه المهمة وقتا طويلا، ولم يقم أحد بمساعدته في عملية البحث في
الرقعة الواسعة من السماء التي طلب <إيري> إجراء البحث فيها. وفي الشهر 9/1846،
كان يرصد السماء متنقلا بين 3000 نجم، فسجل مرتين ـ الأولى بتاريخ 4/8/1846،
والأخرى بتاريخ 12/8/1846 ـ جرما هو الذي أصبح في وقت لاحق الكوكب الذي يسمى
نپتون. وبسبب عدم قيامه مباشرة بمقارنة الموقعين، فقد فوت عليه فرصة إنجاز
الاكتشاف.
في تلك الأثناء، راجع <آدامز> حساباته التي أجملها
في رسالة إلى <إيري> بتاريخ 2/9/1846. وقد كان يعرف خلال مدة طويلة أن قانون
<بودي> غير دقيق، وأن المدار البعيد جدا عن الشكل الدائري الذي اعتمده للكوكب
الافتراضي يبدو غير سليم. وخلال عطلته الصيفية أجرى حسابات جديدة موسعة، وتوصل
إلى أن ما يلائم الأرصاد هو مدار دائري صغير. لكنه تابع تعديل حساباته بطريقة
تعوزها البراعة، ودرس احتمال مدار أصغر خمَّن أنه ربما يؤدي إلى طول بعيد عن
تنبئه الأصلي.
وما نعرفه الآن أن افتراضات <آدامز> الجديدة تلخصت
في وضعه الكوكب في موقع يحدث فيه تجاوب(10) مع أورانوس وهو موقع تتراكم فيه
الآثار التثاقلية، وكذلك في استبعاده المعالجة الرياضياتية التي كان يجريها.
لكن هذه الحسابات كانت متأخرة جدا، ومن ثم لم تحثّ أحدا على البحث عن الكوكب.
ثمة سمة لحسابات <آدامز> نادرا ما يذكرها المؤرخون ـ
وفي الحقيقة، فإنهم لم يتطرقوا إلى عقليته كلها ـ وهي أنه كان دائما يصف كوكبه
باعتباره تجريدا abstraction. كان الكوكب، بكل
بساطة، مجموعة من العناصر، وكأنها عمل مشعوذ رتب الأرقام بطريقة تخرج منها
نتيجة صحيحة. وفي المقابل، قدم <لوڤرييه> موقعا محددا لكوكبه الافتراضي وخمَّن
وجود جرم فيزيائي حقيقي يحيط بالمنطقة الجليدية الخارجية للمنظومة الشمسية. وفي
بحث أعده في الشهر 8/1848، قدم اقتراحا جريئا مفاده أن الكوكب يجب أن يُكشف في
مقراب بوساطة قرصه. وعندما وصل هذا الاقتراح أخيرا إلى إنكلترا، صار <تشاليس>
يولي مزيدا من الاهتمام للمظهر الفيزيائي للأجرام السماوية التي كان يفهرسها.
وفي 29/9/1848 ذكر أنه «يبدو وجود قرص» لأحد هذه الأجرام. بيد أنه قبل ذلك بعدة
أيام جرى تحديد موقع الجرم وتثبيته في مرصد برلين بوصفه كوكبا، ولم يعد مجرد
عالم افتراضي. وقد هتف <گالي> بأعلى صوته قائلا: «يا إلهي، يوجد في السماء جرم
كبير!»
البريطانيون سلبوا
اكتشاف نپتون(*********)
لقد استخلصنا من مراجعتنا للوثائق الأصلية أن معاصري
<آدامز> من البريطانيين نسبوا إليه فضلا أكثر مما يستحق، مع أنه أنجز بعض
الحسابات الاستثنائية الرائعة. ولا شك في أنه يستحق، في المقام الأول، الشرف
الذي نُسب إليه لأنه طبّق، مع <لوڤرييه>، نظرية اضطرابات الحركة الكوكبية. ربما
كان واثقا بدقة نتائجه، مع أنه من المعروف جيدا أيضا أن الناس (ومن ضمنهم
المؤرخون)، بعد حدوث اكتشاف ما، يغالون في تقدير مدى تنبئهم بحدوثه.
لكن <آدامز> لم يُفلح قط بإرسال نتائجه إلى زملائه
وإلى العالم. فالاكتشاف لا يقتصر على مجرد الشروع في تقصي مسألة مثيرة للاهتمام
وتقديم بعض الحسابات المستخدمة في ذلك، إذ إنه يتضمن أيضا إدراك صاحبه أنه توصل
فعلا إلى اكتشاف وأن عليه أن ينشط في نقله إلى الوسط العلمي العالمي. فللاكتشاف
جانب عام وجانب خاص. ولم ينجز <آدامز> سوى نصف هذه المهمة الثنائية الجانب. ومن
عجائب التقادير أن الخصال الشخصية جدا التي أسهمت في جعل الاكتشاف يعزى إلى
<لوڤرييه> (ألا وهي اندفاعه وصراحته مقابل خجل <آدامز> وسذاجته) لم تعمل لمصلحة
<آدامز> في دوّامة التلاعب بالحسابات التي حصلت بعد الاكتشاف. وتجدر الإشارة
هنا إلى أن الجماعة العلمية البريطانية وقفت في هذا الصدد في صف <آدامز>، في
حين لم يكن <لوڤرييه> يَرُق لزملائه.
وتبين هذه القصة أيضا دور الحظ في الاكتشاف. وإلى حد
ما، يمكن القول إنه لا <آدامز> ولا <لوڤرييه> تنبأ حقا بموقع نپتون، إذ بالغ
كلاهما كثيرا في تقدير البعد الحقيقي للكوكب عن الشمس، لكنهما نجحا في تعيين خط
طول صحيح تقريبا له، وذلك بسبب توقيتهما المداري الذي كان رمية من غير رام.
ومثل هذه الأشياء تحصل كثيرا في العلوم (وقد حدثت فعلا في اكتشاف پلوتو بعد ذلك
بقرن تقريبا).
والآن، بعد أن همدت الانفعالات والأهواء التي كانت
تذكيها التنافسات القومية في الأربعينات من القرن التاسع عشر، وصارت الوثائق
الأصلية متاحة للمؤرخين كي يدرسوها، يمكننا الجزم بأن <آدامز> لا يستحق أن
يُعزى إليه فضل يعادل ما يستحقه <لوڤرييه> في اكتشاف نپتون. فصاحب الفضل هو
تحديدا ذلك الشخص الذي نجح في التنبؤ بموقع الكوكب، وأيضا في إقناع الفلكيين
بالبحث عنه. ومن ثم فإن اكتشاف نپتون كان إنجاز لوڤرييه وحده.