إن إيسوا ISUA في گرينلاند (الصفحة المقابلة) هي موطن الصخور التي تتضمن برهانا واسع القبول على وجود خلايا حية على الأرض قبل أكثر من 3.7 بليون سنة، بعد تكوّن كوكب الأرض نفسه بعدة ملايين من السنين. ولكن ثمة مكتشفات أخرى غارقة في القِدم عُثر عليها في گرينلاند وأستراليا ـ تتضمن آثارا ميكروسكوبية (مجهرية) يعتقد أنها خلايا أحفورية (مستحاثية) (في الأعلى) ـ كانت حديثا موضع ارتياب. |
ومنذ عقد مضى، مكَّنت المجاهر العالية الأداء
الجيولوجيين من اكتشاف أحافير واضحة في الصخور الأرضية، لها عمر مذهل يبلغ
3.465 بليون سنة، وهي الأحافير الحقيقية التي تنقلنا أكثر من أي وقت مضى إلى
زمن التضاعف (النسخ) الذاتي الأول للجزيئات اللاعضوية، حيث بدأت آنذاك بالتآثر
اصطفائيا مع بيئاتها المحيطة، محدِّدة بذلك أولى لحظات الحياة. وفي عام 1996،
عزَّزت تقانات جديدة لقياس التغيرات الطفيفة في التركيب الكيميائي لعينات
الكربون، الإشارات السابقة بأن الحياة قد وُجدت أبكر من ذلك بما لا يقل عن 365
مليون سنة. وفي العام نفسه ـ بعد الإعلان المدهش عن العثور، في القارة المتجمدة
الجنوبية، على حجر نيزكي من المريخ، يحمل بصمة بيولوجية تعود إلى 3.9 بليون سنة
ـ تعززت عزيمة العلماء، حيث تنامت ثقتهم بمقدرتهم على كشف الحياة الغابرة
باقتفاء آثارها الضئيلة في الصخور.
غير أن المجد العريض الذي أعقب ذلك الاكتشاف لم يدُم
طويلا، فسرعان ما احتدم الهجوم على دليل النيزك المريخي؛ ومازالت علامة واحدة
للحياة من المريخ محدودة القبول [انظر الإطار في الصفحة 9]. وفي مطلع عام 2002
تعرضت وجهات النظر الواسعة القبول حول الدليل الأرضي لنقد مشابه. وأدت موجة
نشيطة من الأبحاث إلى إلقاء شكوك جدية حول التفسيرات التي قدمت لأقدم سجلّيْن
جيولوجيين للحياة على الأرض في گرينلاند وأستراليا. وتشير بعض التقديرات
الجيولوجية الجديدة إلى أن تلك الصخور قد تكونت في بيئات لم يكن في مقدور
الحياة أن تزدهر فيها قط. ويتساءل آخرون عما إذا كان بإمكان الكيمياء
اللاحياتية lifeless
chemistry محاكاة الآثار الخاصة للكربون أو حتى بعض أشكال الأحافير
الميكروسكوبية (المجهرية)، الأمر الذي يجعل تلك المعلومات المفتاحية عديمة
الجدوى كبصمات بيولوجية.
نظرة إجمالية / بدايات
الحياة(**) • إن العديد من الآثار الأكثر قدما للحياة الميكروسكوبية (المجهرية) على الأرض ـ والمسماة بصمات بيولوجية (حيوية) هي غامضة الدلالة ومحتبسة في الصخور. وتصير البصمات البيولوجية أكثر إقناعا كعلامات للحياة عندما يتمكن الجيولوجيون من إثبات أن الصخور المضيفة قد تشكلت في بيئات مواتية بيولوجيًّا، كالبحار الضحلة.
• ويمكن محاكاة تكوين عدة بصمات بيولوجية بتفاعلات كيميائية لابيولوجية nonbiological تحدث تحت درجات حرارة وضغوط مرتفعة، وتحدث مثل هذه التفاعلات في الصخور المطمورة عميقا أو تلك التي تصلبت بعد أن كانت صهيرا.
• والغموض الذي يكتنف أصول ما يبدو بصمات بيولوجية، يثبت أن التفسيرات الصحيحة للجيولوجيا هي مفتاح أي بحث عن العلامات القديمة جدا للحياة، سواء كانت على الأرض أو على المريخ أو ما وراءهما.
|
وتذكي التحاليل الإضافية الجدل الجاري حول كيف يتسنى
لأي كان أن يطمئن إلى صحة تحديد هوية الحياة البدائية على الأرض ـ أو في أي
مكان في المنظومة الشمسية. ويقول
[عالم الأحافير (الإحاثي) من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] «إذا لم نتوصل
إلى نتيجة صحيحة على الأرض، فلن نتوصل إليها على المريخ.» وهذا أمر من المؤكد
أن يتذكره علماء الفضاء عند تقييمهم لصخور المريخ المزمع تفحصها بوساطة
المركبتين روڤر(1) اللتين تعتزم ناسا إطلاقهما هذا العام.
يُسر بعد عسر(***)
قبل سبع سنوات، وُجد أكثر الأدلة قدما والأكثر مثارا
للجدل حول بزوغ الحياة على الكوكب الأزرق(2)، في نتوء صغير من الأرض بگرينلاند
يقع في الركن الجنوبي الغربي من جزيرة أكيليا Akilia
الباردة الجرداء. وتقع هذه الجزيرة على بعد 30 كيلومترا جنوب العاصمة نوك
Nuuk، ممتدة قرابة كيلومترين على هيئة لسان منبسط
من الأرض. وهناك، تحت رقع ثخينة من الحزازيات mosses
والأشنات lichens القطبية، تتألق عُصابات مهمة من
الصخور البيضاء الغنية بالكوارتز بين الشرائح slabs
البركانية الداكنة التي تحيط بها. وباستعمال العناصر المشعة التي عثر عليها فقط
في المعادن البركانية، تمكّن الباحثون من تحديد عمر إحدى الشرائح البركانية
المجاورة بما يزيد على 3.83 بليون سنة، مصنفين إياها بين أقدم الصخور الباقية
على سطح الأرض حتى اليوم. واعتمادا على توضع الصخور البيضاء المتألقة (التي
تخلو من العناصر القابلة للتأريخ)، يقول كثير من الجيولوجيين إن تلك الصخور
البيضاء هي أكثر إيغالا في القدم.
خطوط بيضاء في هذا البروز الصخري عند الطرف الجنوبي من جزيرة أكيليا الصغيرة في گرينلاند، وهي تخفي نثرات flecks من الكربون التي اعتبرت في البداية بصمات للحياة يزيد عمرها على 3.8 بليون سنة. |
وطبيعة جزيرة أكيليا المقفرة، تعطي الانطباع بأن
صخورها حافظت على مظهرها منذ نشأتها الأولى. لكن الأرض مكان ديناميكي. وكمعظم
صخور العصر السحيق، فإن هذه المنكشفات الصخرية outcrops
قد خضعت لواحدة من أكثر السيرورات الجيولوجية العنيفة على الأرض، ألا وهي
التحول(3) metamorphism. فخلال 85 في المئة من
عمر الأرض خضعت هذه الصخور للطمر أو الفتل أو الطي أو الإشباع التام بالسوائل،
وولجت أعماقا جحيمية تقرب من 70 كيلومترا تحت سطح الأرض وتعرضت لحرارة تبلغ 700
درجة مئوية (سيلزية)، قبل أن تعود ثانية للظهور على السطح خلال حادثي رفع
uplift مختلفين على الأقل. فإذا كانت هذه الصخور
بقايا قاع محيط كان يعج بالمخلوقات الميكروية، فمن المستحيل أن يُعثر على آثار
مازالت سليمة لتلك المتعضيات (الكائنات).
ومع ذلك، ففي عام 1996، ألمح الجيوكيميائي .S. مُويْزِس> [وهو حاليا بجامعة كولورادو في بولدر] إلى ما يوحي بوجود
حياة داخل الصخور البيضاء المشوهة. فقد استطاع بوساطة المجهر الإلكتروني الماسح
تمييز لطاخات سوداء من الگرافيت ـ وهو معدِن كربوني صرف، يتشكل أحيانا عند
تسخين المادة العضوية. كما لاحظ وجود بلورات قاسية من الأپاتيت
apatite تغلف الگرافيت، ربما وَقَتْه من التحولات
الشديدة.
إلا أن ما زاد هذا الباحث اقتناعا هي النسب الشاذة
والفريدة لنظائر دزينتين من اللطاخات التي قام بتحليلها بمزيد من التفصيل؛ إذ
إن كلا منها قد شُخص على أنه قد أُغني بأخف نظائر الكربون وأكثرها شيوعا: وهو
الكربون 12. والمتعضيات (الكائنات) الحية معروفة باقتصادها وتدبيرها. ولذلك فهي
عندما تستعمل ثنائي أكسيد الكربون في نشاطها الحيوي، فإنها تلجأ إلى نظير
الكربون الأخف مستهلكة إياه بفعالية أكبر من استعمالها للكربون 13، وهو الأثقل
لاحتوائه على نيوترون neutron إضافي في نواة كل
ذرة منه. وهذا الاستعمال التفضيلي يجعل هذه المتعضيات تضم ذرات من الكربون 12
أكثر بنحو 2 إلى 3 في المئة مما يحويه غاز ثنائي أكسيد الكربون الذائب في مياه
المحيط.
وعلى مدى نحو 60 عاما ظلت بصمة الكربون الخفيف هذه
تكتسب إسنادا لا شك فيه كواسم marker للحياة، حيث
نشر الباحثون آلافًا من القياسات المماثلة لصخور أكثر حداثة. ولذلك، فعندما
تحلَّقت عينات الگرافيت التي حللها <مُويْزِس> حول نسبة 3.7 في المئة، أدرك
بأنه يمكن إعلانها دليلا قويا على أنها أقدم حياة عُرفت على الأرض. وعنى هذا
الاستنتاج ضمنا أن الحياة على الأرض قد بدأت في فترة غير مواتية، إذ كان للنيزك
المدمر الذي ضربها تأثيرات، منها الغليان الجائش للمحيطات، وتحوّل الغلاف الجوي
للأرض إلى ضباب سديمي مُحرق من الصخور المتبخرة دام آلاف السنين. ويقول
الجيولوجي [الذي يعمل حاليا في
جامعة جورج واشنطن] إن العديد من الباحثين رحبوا باكتشاف <مُويْزِس> بوصفه
مفتاحا لحل لغز عصر مجهول تقريبا من تاريخ الأرض.
البصمات البيولوجية:
نظرة سريعة(****)
قبل ظهور النباتات والحيوانات على الأرض، استوطنت الأرض ميكروبات وحيدة الخلية. ويحاول الباحثون جمع الأدلة المادية لهذه المتعضيات (الكائنات) البدائية عبر تمشيط الصخور من أجل آثار تشفّ عن وجودها، تدعى البصمات البيولوجية. لكن مثل هذه الاكتشافات كأدلة على الحياة، يمكن أن تكون خلافية، إذا أمكن تفسير وجودها بشكل مقبول بوساطة سيرورات لابيولوجية ـ كما يتبين من أوجه الخلاف أدناه:
الكربون الخفيف light carbon:
تعريف: هو كربون فيه نسبة من الكربون 12 إلى الكربون 13 أعلى مما يوجد في المواد اللابيولوجية؛ وتعكس النسبة الأعلى تفضيل المتعضيات (الكائنات) استعمال الكربون 12 في تحويلها ثنائي أكسيد الكربون إلى مواد خلوية.
أقدم اكتشاف: لطاخات بالغة الضآلة من الكربون وجدت في جزيرة أكيليا بگرينلاند، في صخور يزيد عمرها على 3.8 بليون سنة. وثمة بحث حديث يعارض بشدة فكرة انتساب الصخور المضيفة إلى بيئة يمكن أن تشجع على الحياة وتدعمها. ووفقا للجدل الدائر حاليا، فإن الكربون (النقط السوداء، في اليمين) في الصخور التي تكونت منذ أكثر من 3.7 بليون سنة في إيسوا بگرينلاند، يظل أقدم أثر لا ينازع للحياة على الأرض.
الرقائق الكلسية الطحلبية stromatolites
تعريف: تشكلات قبابية الشكل ذات بنية طبقية، أنشأتها مستعمرات من الميكروبات.
أقدم اكتشاف: أكوام ركامية متحجرة اكتشفت في شمال غربي أستراليا، عمرها نحو 3.5 بليون سنة. إنها النماذج الماكروسكوبية (العيانية) المعروفة والأكثر قدما للحياة على الأرض (في اليمين).
إن معظم الرقائق الكلسية الطحلبية الأخرى لهذا العصر مشكوك فيها كأدلة على الحياة، نظرا لبساطة بنيتها وشبهها الشديد بالطبقات المعدنية التي يمكن تشكلها لا بيولوجيا.
أحافير (مستحاثات) ميكروية microfossils
تعريف: بقايا خلايا عاشت يوما ما.
أقدم اكتشاف: آثار ميكروسكوبية (مجهرية) غنية بالكربون، عثر عليها في شمال غرب أستراليا في صخور عمرها نحو 3.5 بليون سنة، وهذه المكتشفات فُسِّرت بداية على أنها بقايا ميكروبات قديمة، لكن أبحاثا حديثة تشير إلى إمكانية تكوينها بالكيمياء اللاحياتية. إن الأحافير الميكروية الأحدث عهدا، بما في ذلك سيانوبكتيرات(4) من كندا وعمرها بليونا سنة تلقى قبولا واسعا.
الكبريت الخفيف light sulfur
تعريف: هو الكبريت الذي يتميز بنسبة كبريت 32 إلى كبريت 34 أعلى من تلك النسبة التي توجد في الكبريت الذي عالجته المتعضيات الميكروية التي تستعمل هذا العنصر مصدرا للطاقة.
أقدم اكتشاف: نثرات(5) من معدن الپيريت (سلفيد الحديد ـ كبريتيد الحديد) ضمن صخور في شمال غربي أستراليا عمرها 3.5 بليون سنة. ويتساءل بعض الباحثين عما إذا كانت البلورات الرمادية الحادة الرؤوس (في اليسار) التي تؤوي الپيريت قد تشكلت حقا في وسط مُوات للحياة. عمر هذه البصمات البيولوجية نحو 2.5 بليون سنة.
أحافير (مستحاثات) جزيئية molecular fossils
تعريف: جزيئات عضوية معقدة شبيهة بما تحويه حاليا الخلايا الحية.
أقدم اكتشاف: هدروكربونات وجدت في صخور أستراليا عمرها نحو 2.7 بليون سنة. إن هذه الجزيئات المشتقة من جُدُر خلوية متحجرة، هي أقدم دليل لا خلاف حوله للخلايا الحقيقية النوى وللسيانوبكتيرات المنتجة للأكسجين، بل ربما إلى خط النسب الذي قاد إلى Eoentophysalis (في اليسار) بعد 700 مليون سنة.
معادن بيولوجية biological minerals
تعريف: حبيبات معدنية أنتجتها خلايا حية.
أقدم اكتشاف: أشكال فريدة من المعدن المغنطيسي «المگنيتيت» (في اليسار) مماثلة تقريبا لتلك التي توجد حاليا في بعض البكتيرات الحديثة على الأرض ـ والتي وجدت في النيزك المريخي ALH 84001. ويعتقد أن عمر المعادن المريخية 3.9 بليون سنة، كما اكتشفت بلورات مگنيتيت مشابهة في صخور أستراليا عمرها بليونا سنة تقريبا. ويبقى كلا الاكتشافين موضع شك.
|
وفي عام 1997 اصطحب <فيدو> زميله <مُويْزِس>
وجيولوجيين آخرين إلى جزيرة أكيليا. ويستذكر <فيدو> شعوره الأول لدى وصوله إلى
هذه الجزيرة، فقد شعر «وكأنه في زيارة لأرض مقدسة،» ولكن سرعان ما بدأ الباحثان
الشابان برؤية صور مختلفة للماضي، وتفسيرات مختلفة لما تعنيه حقا إشارة الكربون
الخفيف. وكان <مُويْزِس> وزملاؤه قد استنتجوا، من علاقة التركيب والبنية لتلك
الصخور، أن طبقة الصخور الحاملة للگرافيت نشأت أصلا في بيئة مواتية بيولوجيًّا:
في حوض محيط، حيث الرمل والحبيبات الأخرى، بما فيها خلايا المتعضيات البحرية،
قد شكلت طبقات من الصخور الرسوبية الغنية بالكوارتز. وعند رؤية <فيدو> للصخور،
وهو الذي قضى قرابة عام في رسم خرائط للصخور القديمة في زيمبابوي، صار بالغ
التشكك. فلقد أدرك فيما مضى أن الصخور النارية ـ تلك التي تصلَّبت من الصهارة
magma الحارة ـ يمكن أن تبدو رسوبية،
وبالعكس، عندما تفقد أو تكتسب معادن مفتاحية في أثناء عملية التحول. ويقول
<فيدو>: «إذا كنا راغبين في فهم الحياة، فعلينا أولا فهم الجيولوجيا.»
وبعد ذلك عاد كل من <فيدو> والمؤرخ الجيولوجي(6) <J
.M. هوايتهاوس> [من المتحف الطبيعي السويدي في ستوكهولم] إلى جزيرة
أكيليا لإعداد خرائطهما وتحاليلهما الكيميائية. وكان رأيهما الذي نشر في ربيع
عام 2002، أن الصخور الغنية بالكوارتز التي اعتبرها <مُويْزِس> وآخرون رسوبيةً
قديمة، إنما كانت في الحقيقة نتاج صخور نارية خضعت لعملية تحول خاصة يعرف عنها
بأنها تنتج الگرافيت من مصادر كربون لاحيوية
nonbiological. ويصر <فيدو> و<هوايتهاوس> على أن بصمة الكربون
الخفيف الگرافيتية ربما يجب أن تُفَسَّر عبر سيرورة لا علاقة لها بالبيولوجيا.
ويؤكد <فيدو> بأنه من الخطأ الاعتقاد أن التفاعلات اللاعضوية لا يمكنها محاكاة
بصمات الكربون الخفيف، لمجرد أنه لم يثبت حتى الآن أنها قادرة على فعل ذلك.
الجيولوجيا هي كل شيء(*****)
كانت الجيولوجيا البالغة التعقيد هي السبب في اختلاف
وجهات نظر كل من <فيدو> و<مويزِس> وعدد لا يستهان به من الباحثين، حول جزيرة
أكيليا. كما كانت السبب في جعل إخصائي الجيولوجيا الحقلية <T
.M. روزينگ> [من المتحف الجيولوجي في جامعة كوبنهاگن] يُصرح بأن
أكيليا «لا تثير الاهتمام بتاتا.» ويقول أيضا: «لا توجد أية مجموعة من
الجيولوجيين يمكن أن تتفق على تاريخ الصخور، وهكذا ربما لن نتمكن أبدا من حل
المشكلة.» و<روزينگ> هو من مواطني گرينلاند، وقد قضى أكثر من 20 عاما في دراسة
جيولوجية الجزيرة الجليدية.
ومع ذلك حاول العديد من الباحثين حسم الجدل الدائر
حول أكيليا؛ وبالفعل فقد كانت جزيرة أكيليا قريبة من قمة اهتمامات وبرنامج عمل
<B. رانيگار> [المدير الجديد لمعهد
البيولوجيا الفلكية التابع للوكالة ناسا]، الذي يضم مجموعة من 15 فريقا بحثيا
تفرَّغوا لتقصي الدليل حول أصل الحياة وتطورها على الأرض وخارجها، بميزانية
سنوية تقارب 20 مليون دولار. يقول رانيگار: «نخطط في غضون عام واحد أو نحو ذلك،
لأخذ العلماء الذين يعرفون الصخور حق المعرفة لتحقيق نوع من الإجماع حول
العينات الحقلية التي نجمعها، بحيث يعرف كل واحد منا ما يتكلم عنه الآخر.»
إضافة إلى ذلك يشير <روزينگ> وباحثون آخرون ـ بمن
فيهم عالم الأحافير <W .J. سكوف> [من
جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] إلى أنه حتى لو تمكَّن الباحثون من الاتفاق
على أن صخور أكيليا هي رواسب سابقة، فإنهم سيظلون غير قادرين على إثبات أين نشأ
الكربون ومتى. ويصرون على أن الكربون الخفيف (والگرافيت بالتأكيد)، الموجود في
مثل هذه الصخور البالغة التحول يمكن فقط أن يوحي باحتمال الحياة، غير أنه لا
يشكل دليلا بحد ذاته؛ إذ عندما تُسخَّن الرسوبيات تحت الضغط، فإنه يمكن للسوائل
أن تحمل إليها الكربون من مصادر أخرى أحدث عمرا. كما أن روابط الكربون في مادة
عضوية ضمن هذه السوائل تبدأ بالتحطم ويمكن أن تنشأ من جديد، حتى وإن كان
الكربون مغلفا ببلورات قاسية من الأپاتيت. ويقول <سكوف>: «في رأيي، لا يوجد
بالفعل سبيل لمقارنة القيمة المقيسة حاليا بما كانت عليه القيم الأصلية. وثمة
فرق كبير بين معرفة الشيء والتلميح إليه.»
لقد كانت منطقة پلبارا Pilbara التي تشبه المريخ وتقع في الشمال الغربي من أستراليا، مصدرا للبنى الميكروسكوبية (المجهرية) التي لها 3.5 بليون سنة من العمر، والتي عدّها البعض خيوطا أحفورية (مستحاثية) لخلايا قديمة. |
لقد حوَّلت شهرة أكيليا الانتباه عن تلميحة أكثر
إقناعا إلى الحياة الموغلة في القدم، وُجدت على بُعد 180 كيلومترا شمال شرقي
تلك الجزيرة، في جزء من گرينلاند يدعى إيسوا Isua،
حيث اكتشف <روزينگ> حديثا البصمة البيولوجية للكربون الخفيف في صخور تعرضت
لمجرد «صداع نصفي» migraine مقارنة
بالماضي الجهنمي لجزيرة أكيليا. ولم يكن من السهل اكتشاف مثل هذا الجيب الذي
خضع لتحول معتدل نسبيا. وتتألف إيسوا من حزام من الصخور السحيقة القدم بعرض 4
كيلومترات يمتد 35 كيلومترا على طول الحافة الغربية للمونوليث(7)
monolith الرمادي المزرق من القلنسوة
الجليدية في گرينلاند. وفي الكثير من المواقع يُمثل الوميض المميز للصخور،
وبلوراتها من الگارنت الأحمر red
garnet والهورنبلند الأسود والديوپسيد
diopside الأخضر، شواهد على عمليات تحولية
عنيفة تقترب في شدتها من تلك التي حدثت في جزيرة أكيليا.
ويقول <روزينگ>: «إنني لم أمض إلى هناك لأبحث عن
الحياة، إذ كنت دائم الارتياب حول ذلك،» وهو الذي زار إيسوا في بداية الأمر
ليعرف كيف تُحوِّل السوائلُ الحارة الصخورَ. فمنذ زيارته البحثية الأولى في عام
1980، تمشَّى مرارا وسط الأيائل والأرانب القطبية البيضاء والتَّرْميگانات(8)
ptarmigans، ليصل إلى مناطق بعيدة يتعذر
بلوغها إلا بالمروحيات، وكان يقضي في كل رحلة مدة تراوح بين شهر وثلاثة أشهر.
وفي نهاية الأمر، تمكن <روزينگ> ـ من خلال التفحص المكثف للمنطقة ـ من أن يطرح
جانبا الصخور النارية أو تلك التي كانت بالغة التعقيد، بحيث يستحيل أن تشكل
ملاذا لإشارات صريحة للحياة. وبعد ذلك، في عام 1999، قام بوصف مُنكشَف صخري
واعد من رسوبيات قديمة في الحافة الغربية لإيسوا، اتفق الجيولوجيون على أنها
أقدم من 3.7 بليون سنة؛ أي إنها قد تساوي في عمرها تلك الموجودة في أكيليا. وفي
ذلك الموقع اكتشف <روزينگ> البصمة البيولوجية للكربون الخفيف.
لقد كشفت جيولوجية إيسوا غير المضطربة نسبيا تفاصيل
مهمة حول البيئة الرسوبية التي كان من المستحيل فك رموزها في أكيليا. لقد
احتُجز الكربون الخفيف في طبقات من الطين، التي ربما حَبَست دقائق عضوية عندما
استقرت في قاع المحيط. والكربون موجود بوفرة أيضا في الصخور، ويواصل تراكمه عبر
الأكوام الثخينة للرسوبيات القديمة التي تمثل مليون عام أو أكثر من الترسيب
البطيء. ويضيف <روزينگ> مفسرا: «في كل نهار وفي كل ليلة طوال ذلك الزمن، هبط
إلى قاع المحيط السحيق كربون مماثل للكربون الذي تحويه المتعضيات الميكروية
الحالية.»
ولم يستطع أحد حتى اليوم، تقديم تحدٍّ جدي لتفسيرات
<روزينگ> الأساسية، وهو يعمل حاليا على توصيف الميكروبات التي ربما أنتجت
الكربون الخفيف، ويقول <رانيگار> «وهذا ما يعتقد الجميع أنه أفضل رهان
للبيولوجيا في گرينلاند.»
وأفضل دليل في گرينلاند لا يقدم سوى إشارة واحدة على
الحياة. ومما لا شك فيه أن تعدد الدلالات من موقع واحد سيكون أكثر إقناعا. وهذا
ما كان تحديدا سر قوة التأويل الذي قدمه <سكوف> للصخور على الطرف الآخر من
العالم، وهو ما لم يُدحض لقرابة عقد من الزمن.
أمواج متلاطمة أم طَشاش
حارق؟(******)
إن أكثر ما يرضي الباحثين من بين البصمات البيولوجية
المحتملة جميعها، هي أحفورة أصلية لجسم متعضية ما، حتى لو كان بحجم خلية أو
اثنتين. وضمن هذا التصنيف، يحظى المشهد الأسترالي السرمدي بمعظم الأرقام
القياسية. فثمة أحافير ميكروية لا تحتمل الجدل ـ تتضمن السيانوبكتيرات المنتجة
للأكسجين ـ موجودة في صخور عمرها نحو بليوني سنة. كما اكتشفت قبل ثلاث سنوات في
صخور عمرها 2.7 مليون سنة، أمثلة مقنعة لما يسمى أحافير جزيئية ـ وهي بقايا
جزيئية عضوية معقدة كانت فيما مضى مكونات دهنية لأغشية خلوية. ولكن أيا من هذين
الاكتشافين المثيرين لم يُرجع تاريخ الدليل الأحفوري إلى الوراء بقدر عمل
<سكوف> الريادي، الذي أطلق في عام 1993 موجة جديدة من البحث عن الحياة القديمة،
بعد أن كرس ثلاثة عقود لدراسة الأحافير الميكروية.
وكما حصل في گرينلاند، فقد اكتشفت أقدم علامة حياة
في أرض داون أندر Down
Under، وهي منطقة نائية مقفرة تبعد 1200
كيلومتر إلى الشمال من ميناء پيرث Perth
على الساحل الغربي لأُستراليا. ولو لم تكن هذه المنطقة مكانا لقفز الكناگر
الأسترالية بين أشواك حشيشة السپاينفيكس spinifex
المؤسَّلة بالنتوءات السيليكاتية، ووجود بعض النُّزُل الريفية، فإن هذه المنطقة
الهضبية المنخفضة والمغبرَّة من شمال غرب أستراليا، تبدو وكأنها على المريخ.
فعلى مقربة من ماربل بار Marble
Bar هناك جب ماء صغير يتوسط منطقة واسعة
حمراء اللون، حيث سبق للجيولوجيين أن وصفوا حجر صوان(9) أپكس
Apex ـ الموطن النهائي لأحافير <سكوف>
الصغيرة والمشهورة ـ كخليط من الرمل والحصيات، حركتها الأمواج بعنف على طول
الممر المائي الضحل الذي تحيط به البراكين. وحجر الصوان (الذي لا يمكن تأريخه
مباشرة، شأنه شأن الصخور الحاملة للگرافيت في گرينلاند) يقع بين سيْلين من
اللابة (الحمم البركانية) قُدِّر عمرهما بدقة تراوح بين 3.46 و3.47 بليون سنة.
ومن بين الادعاءات باكتشاف أحافير ميكروية ـ وتقدر بنصف دزينة، وتشتمل على
أحافير من أربعة مواقع في جنوب إفريقيا ـ فإن هذا العمر الذي قدّر لأحافير
<سكوف> يجعلها الأقدم. إن تحاليل إضافية ستكشف أن خبيئة <سكوف> إذا كانت حقا
بيولوجية، فإنها أيضا الأكثر تنوعا، حيث تم فيها تعرف 11 نوعا جديدا من
المتعضيات الميكروية.
وحسب <سكوف>، احتوى حجر الصوان على ما يوحي بوجود
لُطاخات من الگرافيت التي أسماها جدائل شبه خيطية لخلايا حية سابقة. وقد تأيدت
تفسيرات <سكوف> البيولوجية للّطاخات هذه بغناها الجليّ بالكربون الخفيف،
والوجود المجاور للرقائق الكلسية الطحلبية الأحفورية
fossilized stromatolithes
(وهي أكوام متمعدنة من الجدائل البكتيرية) تشكل العلامة الوحيدة للحياة التي
يمكن رؤيتها بالعين المجردة. واستنادا إلى هذا الدليل الثلاثي، فإن كل شيء ـ من
الكتب المدرسية إلى التلفاز، وحتى كتاب گينيس للأرقام القياسية العالمية
Guinness Book
of World
Records ـ روّج لفكرة أن هذه العلامة هي
أقدم دليل أحفوري للحياة على الأرض.
مغانط مريخية(*******)
ليس سهلا أن تستخلص علامات الحياة من صخرة فضائية وحيدة. غير أن واحدا من الادعاءات الأخيرة الباقية حول تحمل البصمات البيولوجية لرحلة النيزك ALH84001 من المريخ، قد صمد حديثا أمام وابل من النقد.
ولسبع سنوات خلت، بقيت توماس كيپرتا> وزملاؤها [من لوكهيدمارتن في هيوستن] محافظين على فكرة أن حبيبات صغيرة جدا من المگنيتيت المعدني الموجودة في حجر نيزكي بحجم حبة البطاطا ـ وهي قطع صغيرة تعتبر على نطاق واسع بأنها تشكلت في المريخ قبل نحو 3.9 بليون سنة ـ لا يمكن تمييزها من الحبيبات المغنطيسية البالغة الصغر التي تنتجها بعض البكتيرات المائية على الأرض.
وقد أشار بعض الباحثين المتشككين إلى أنه يبدو جليا من بعض البصمات البيولوجية المفترضة على الأرض، إمكانية تكوّن مواد شبيهة بتلك التي تتصف بالحياة من خلال عملية كيميائية لا حياتية، وهي في هذه الحالة تحول محفز بالحرارة للمعادن الغنية بالحديد خلال ارتطام تعرض له الصخر وهو مازال على المريخ. وتشير توماس ـ كيپرتا إلى أن مثل هذا الارتطام كان سيؤدي إلى تكوين المگنيتيت المشوب [بالمگنزيوم والمنگنيز]؛ أما الحبيبات التي تسميها توماس-كيپرتا البصمات البيولوجية، فهي نقية 100 في المئة ـ وهو كشف عزّزته وزملاؤها حديثا بوساطة المسح الطبقي الثلاثي الأبعاد للمگنيتيت المريخي.
إضافة إلى الافتقار إلى الشوائب الكيميائية، نجد أن نحو 25 في المئة من المگنيتيت في النيزك ALH 84001، يشترك على الأقل بخمس من الخصائص المميزة الأخرى مع المگنيتيت الذي تصنعه سلالة البكتيرات MV-1 هنا على الأرض. فحبيبات المگنيتيت المريخي والبكتيري MV-1 هي بمدى واحد من الكبر، كما تخلو من أية عيوب بنيوية تذكر، وتشترك بالشكل المتطاول غير المألوف للبلورات، الأمر الذي يعزز الخصائص المغنطيسية للمعدن، على سبيل المثال. فإذا افتقدت أيةُ حبة مريخية مفردة أية خاصية، فإنها تُستبعد كبصمة بيولوجية محتملة. وتشير <توماس-كيپرتا> إلى أن هذا الاختبار صارم إلى الحد الذي يفشل معه نحو ثلث البلورات البكتيرية المُختبرة في اجتيازه.
إن الدليل الجديد يجعل هذه الباحثة شبه متأكدة من أن المغانط الفائقة الصغر هي علامات حقيقية على ماضي الحياة على المريخ، إلا أن عددا كبيرا آخر من الباحثين لايزالون غير مقتنعين بذلك. حتى أن <توماس-كيپرتا> نفسها تقول بأنها لن تكتفي باكتشاف أثر وحيد مرجَّح فقط، «فإن تعريف بصمة بيولوجية هو غالبا ما يكون أمرا صعبا كتعريف الحياة نفسها.» فهي وزملاؤها بصدد تفحص الحجر النيزكي المريخي بحثا عن نوع خاص من معدن سلفيد الحديد، من المعلوم أن البكتيرات التي تعيش على الأرض تقوم بإنتاجه.
|
غير أنه في مستهل عام 2002 أفل نجم كشف <سكوف>
الشهير لمهد الحياة على الأرض، وذلك من خلال إعادة تأويل الجيولوجية المحلية
والأحافير نفسها. ففي الشهر 4/2002 نشر عالم الأحافير الدقيقة <D
.M. برازير> [من جامعة أكسفورد] وسبعة من زملائه أولَ إعادة تحليل
متين لاستنتاجات <سكوف> التي كان قد توصل إليها عام 1993. فمن بين عدد من
الاعتراضات، يؤكد <برازير> أن حجر الصوان الذي يؤوي الأحافير المفترضة لم يترسب
في قاع البحر الضحل المشمس، بل على العكس ترسب عميقا في قاع البحر المظلم. وهذا
الاختلاف يعد خطيرا، لأن <سكوف> افترض أن العديد من أحافيره كانت من
السيانوبكتيرات المحبة للضوء. والأخطر من ذلك هو اقتراح <برازير> أن البُنى
الميكروسكوبية التي نفخت الحياة فيها، ربما لم تكن سوى أشياء مصنوعة عديمة
الحياة lifeless
artifacts.
واليوم يعترف <سكوف> بأن اعتماده على المصورات
الجيولوجية للآخرين، في طرح نظريته الأصلية، كان خطأ، ويذعن على مضض بأن
أحافيره الشهيرة ربما لم تكن قادرة على القيام بالبناء (التركيب) الضوئي. وربما
كانت بدلا من ذلك، أسلاف البكتيرات المحبة للحرارة التي تلوِّن أحواض ينابيع
الحمة الحارة في المنتزه الوطني في يلوستون
Yellowstone National
Park والتي تستوطن البراكين تحت البحار.
ومؤخرا أعاد <سكوف> تقييم لطاخات الكربون باستعمال تقانة تعرف بتصوير رامان
Raman imagery
الذي يستخدم تبعثر الضوء لسبر البنى الداخلية الثلاثية الأبعاد. وقد أشارت
النتائج إلى أن العديد من البنى موضع الاختبار تبدو شبيهة بالجُدُر الخلوية.
الرقائق الكلسية الطحلبية: بنى متميزة شيدتها مستعمرات من المتعضيات الميكروية، تعيش حاليا في أمكنة مثل شارك بي Shark Bay الذي يقع في منتصف الطريق المحاذي للساحل الأسترالي الغربي. والنسخ القديمة منها التي يرجع تاريخها إلى 3.5 بليون سنة، مازالت ضمن العلامات القليلة المفترضة للحياة ومن أوسعها قبولا. |
ولايزال <برازير> يؤكد بأن الإغناء بالكربون الخفيف
يمكن أن يحدث عبر التفاعلات الكيميائية اللاحياتية ـ مثلما حاول <فيدو> وآخرون
البرهنة على حدوثه في جزيرة أكيليا. ومع أن قليلا من الأبحاث الحاسمة قد أُجري
في هذا المجال، فإن عددا ضئيلا من الاختبارات يوحي بأن التراكيب الصحيحة من
العناصر المعدنية وبعض المواد الكيميائية، مثل تلك المتوافرة في الينابيع
الحارة عند قاع البحر، يمكن أن تحفز بعض التفاعلات التي يمكنها محاكاة التفضيل
البيولوجي لنظائر الكربون الخفيفة. ومع أن <برازير> يسلِّم بأن بعض الكربون
يمكن أن يمثل بقايا ميكروبية مبعثرة، فهو يُصر على القول بأن «عليك أن تُثبت
بطلان الأصول اللابيولوجية لهذه المواد قبل أن تَقبل أصولها البيولوجية.»
ويحاول <برازير> وآخرون اتباع النهج نفسه بالنسبة
إلى البصمات البيولوجية الأخرى ـ كالكبريت الخفيف ـ المحفوظ في صخور أسترالية
لها من العمر 3.47 بليون سنة، تقع على مسافة تقدر بساعتين من مسارٍ شاقٍّ
بالسيارة إلى الشمال الشرقي من موطن حجر الصوان المثير للجدل. فالصخور الغنية
بالكبريت التي تعود للموقع المسمى، على سبيل التورية التهكمية، منطقة القطب
الشمالي، تحتوي على فائض من الكبريت 32 (نسبة إلى الكبريت الأثقل 34) الذي يميز
المخلَّفات الناتجة من البكتيرات المعروفة باستعمالها الكبريت مصدرا للطاقة.
وبصمة الكبريت الخفيف، كتلك التي تميز الكربون، تقدم تسجيلا لا لبس فيه لتاريخ
الحياة على الأرض. إلا أن الجدل سيبقى محتدما حول هذه الصخور القديمة جدا في
أستراليا الغربية: هل تشكلت الصخور في بيئات منخفضة الحرارة استوطنتها
البكتيرات، أم في مواقع مرتفعة الحرارة، حيث يمكن للتفاعلات اللابيولوجية
محاكاة النمط النظيري البكتيري؟ ويجادل الجيولوجي الأسترالي <R.
بويك> [في جامعة واشنطن] ومساعدوه في الطرح الأول، مفيدين بأن البلورات الحاملة
للكبريت إنما قد تشكلت في أحواض التبخير. إلا أن هذا التأويل للجيولوجيا
الإقليمية لا يقبل به الجميع، وعلى وجه الخصوص <رانيگار>.
وعلى الرغم من هذه الخلافات في الرأي، يتمسك <سكوف>
بموقفه الأساسي. بل ويرد معاكسا، بأنه مع أن بصمة بيولوجية فردية يمكن أن تصب
مصادفة في خانة مشكوك فيها، فإن هذا الشك لا يجعل الدليل عديم الفائدة. كما أن
وجود مجموعة من البصمات البيولوجية العائدة لموقع واحد بعينه ـ حتى وإن كانت
خلافية لدى تمحيصها إفراديا ـ يمكن أن يكون له تأثير قوي. و<سكوف> مغرم بالقول
المأثور: «إذا كان ثمة ما يشبه الحياة وله إيكولوجية الحياة، وله نظائر الحياة
ويتفق مع جميع أدلتها، عندها من الأرجح أن يكون هو الحياة.»
الأرض وما وراءها(********)
وفي نهاية المطاف، لاتزال التأويلات حول الصخور
الأقدم في كل من گرينلاند وأستراليا معقدة دون ريب، بسبب احتمالات أصولهما
البيولوجية واللابيولوجية. ولكيلا تقلق من أن الباحثين يفقدون القدرة على تعرف
الحياة المبكرة، تذكر أن الضجة حول أكيليا وأپكس Apex،
إنما كانت حول أكثر علامات الحياة قدَمًا. وهذا على أهميته، فإنه ليس كل شيء
ولن ينهي أي شيء. إن الصخور في إيسوا وحوض الترانسفال في جنوب إفريقيا أحدث
قليلا، وهي ـ في رأي البعض ـ أقل إثارة للجدل. وعلى الرغم من اعتراض العديد من
الباحثين على التفاصيل، يبقى قِدَمُ الحياة مسلَّما به عموما.
ولربما كان الاستنتاج الأهم الذي تبلور من جميع تلك
البراهين هو التالي: سواء كنت تتقصى الصخور القديمة على الأرض أو نيزكا صغيرا
بحجم حبة البطاطا من الكواكب الأخرى، فلا تعتمد على دليل واحد ليكون برهانك على
الحياة. ولهذه النتيجة مضامين مهمة عند البحث عن الحياة البدائية على الأرض
وكيف ستفسر الأدلة المستقبلية من المريخ. ويحذر <برازير> من أنه من دون وضع «معايير
واضحة لاكتشاف الحياة المبكرة في أذهاننا قبل إرسال إنسالات(10) أو سفن مأهولة
إلى المريخ... فإننا سننتهي إلى مجادلات عديمة الجدوى تشوش المجتمع العلمي
وتحبطه.»
ويشاطر الباحثون لدى ناسا ذلك الاهتمام، ولذا فهم
مصمِّمون على فك شفرة جيولوجية المريخ قبل البحث عن الحياة التي كانت عليه.
ويقول <W .S. سكويورس> [عالم الكواكب من
جامعة كورنِل] «عندما تتأمل حقيقة أن الجيولوجيين الحقليين الذين عملوا جاهدين
على الأرض لمئتي عام ولايزالون يواجهون المصاعب [في الاتفاق على بصمات بيولوجية
موثوقة]، فإننا نكون بعيدين كل البعد عن إجراء بحث موثوق حول البصمات
البيولوجية على المريخ.»
ومنذ عام 1997 يعمل <سكويورس> كبيرا للعلماء
المشاركين في البعثات التي تعد لها الوكالة ناسا للهبوط على المريخ، والتي تقوم
بالطواف على سطح الكوكب بحثا عن إشارات تفيد بأن بيئاته السابقة كانت ملائمة
بيولوجيا. وفي منتصف العام 2002 جرى تدشين إنسالتين جيولوجيتين للمراقبة من بعد،
أطلق عليهما جوالي استكشاف المريخ Mars
Exploration Rovers،
وقد بدآ العمل الحقلي على الكوكب الأحمر في مطلع هذا العام. ويتخذان هدفًا
المنطقة التي اكتشفت فيها السفينة الفضائية إشارات إلى أن الماء السائل ـ
الضروري لجميع أشكال الحياة المعروفة ـ كان موجودا فيما مضى.
وكما توضح تجربة گرينلاند وأستراليا، يبدو عسيرا أن
نعثر على سجلات على الأرض قابلة للقراءة بسبب الحركة الدائبة للصفائح التكتونية
التي طحنت هذه السجلات خلال أربعة بلايين من السنين. ولأن مثل هذه السيرورة
الشاملة، يمكن ألا تكون قد حدثت على المريخ، فإن الباحثين يتنبؤون بأن يكون
سطحه قد ظل سليما ـ باستثناء تأثير صدمات بعض النيازك ـ خلال الفترة نفسها.
ويعلق <سكويورس> مداعبا: «إذا كانت ثمة حياة على المريخ، فالدليل عليها سيكون
أيسر منالا.»
الأحد أكتوبر 21, 2012 4:08 pm من طرف ماردة