صورة فسيفسائية للقطب الجنوبي للقمر مركبة من 150 صورة التقطت عام 1994 بوساطة آلة محمولة على متن السفينة الفضائية كليمنتاين تُصوّر الأشعة فوق البنفسجية والأشعة المرئية. يقع القطب الجنوبي في مركز الصورة الفسيفسائية؛ ويقع خط العرض القمري 70 درجة جنوبا، على الحافة. وقد وَجَدَت كل من السفينتين الفضائيتين، اللتين كانتا تنطلقان في مدارين قمريين، أدلة على وجود جليد مائي في البقاع المظلمة دائما، الواقعة قرب قطبي القمر.
|
البحور والنجود
(**) في عام 1994، أطلقت وزارة الدفاع الأمريكية سفينة
الفضاء كليمنتاين Clementine. وكان البرنامج الذي
وُضع لها، هو اختبار المُحِسّات sensors الخفيفة
الوزن التي طُورت للدفاع الوطني بوساطة الصواريخ الپالستية، وذلك خلال سير
السفينة في مدار قطبي حول القمر. وقد دارت كليمنتاين بنجاح حول القمر مدة 71
يوما، وحصلت على خريطة شاملة تامة لسطح القمر بأحد عشر طولا موجيا في الجزءين
من الطيف، المرئي والقريب من تحت الأحمر. وقد حملت السفينة الفضائية معها أيضا
جوالا ranger ليزريا مكّن الباحثين من رسم خريطة
طبوغرافية للقمر كله للمرة الأولى في التاريخ. إضافة إلى ذلك، وفّر التتبع
الراديوي لمدار السفينة الفضائية معلومات أفضل عن حقل جاذبية القمر. ثم أجريت
تجربة راديوية مرتجلة توصلت إلى تلميحات إلى وجود جليد مائي في بقاع مغطاة
دائما بالظلال قريبا من القطب الجنوبي للقمر.
ولمتابعة أبحاث كليمنتاين، أطلقت "ناسا" السفينة
الفضائية لُونر پروسپكتر Lunar
Prospector لتدور في مدار قطبي حول القمر عام
1998. وقد قامت هذه السفينة، التي هي إحدى بعثات ديسكفري
Discovery التابعة لناسا، برسم خريطة للتركيب السطحي للقمر، باستعمال
مطيافية نيوترونية وأخرى لأشعة گاما. وقد أكدت اكتشافات لونر پروسپكتر النتيجةَ
التي توصلت إليها السفينة كليمنتاين، وهي وجود جليد قرب القطب الجنوبي للقمر؛
كما اكتشفت مكامن إضافية للجليد في القطب الشمالي منه. وقام مطياف لجسيمات ألفا
بقياس انبعاثات غازية صادرة عن داخل القمر، كما رسم مقياسٌ للمغنطيسية توزعَ
الشذوذات المغنطيسية على السطح. وقد جرى تعقب راديوي إضافي للسفينة الفضائية،
أسفر عن تحسين معرفتنا لحقل جاذبية القمر. وأخيرا، قام المتحكمون في السفينة من
الأرض بصدمها عمدا بالقمر في محاولة لإصدار بخار ماء من سطحه. وقد جرى توجيه
المقاريب الأرضية والفضائية إلى موقع الصدم ليرصدوا أثرا للبخار الناجم عن
الصدمة، لكنهم لم يرصدوا شيئا من ذلك.
وبوضع مكتشفات أپولو في سياق شامل، نرى أن قياسات
كليمنتاين ولونر پروسپكتر حثت العلماء على إعادة النظر في ما يعرفونه عن القمر
وتاريخه. فمثلا، وجد رواد فضاء أپولو 12 وأپولو 14 في أوسيانوس پروسيلاروم
Oceanus Procellarum
ـ وهو منخفض ضخم يقع في الجزء الغربي من الوجه المرئي من القمر ـ صخورا بازلتية
غنية بعناصر نادرة trace
elements تعرف باسم KREEP (يرمز الحرف
K للبوتاسيوم، وترمز الحروف
REE لعناصر أرضية نادرة
rare-earth
elements، والحرف P
للفوسفور). ويقول الجيولوجيون عن هذه العناصر النادرة إنها لامتمازجة
incompatible ـ أي إنها لا تنسجم جيدا مع البنى
البلورية للمعادن التي تكوّن الصخور. ويشير وجود صخور غنية بالعناصر
KREEP إلى أنه حدث للقمر في بداياته انصهار وتفكك
شديدان، وخلال هذه العملية تركزت العناصر اللامتمازجة في الجزء المنصهر لنظام
بلوري متزايد الصلابة. وقد بيّنت لونر پروسپكتر أن أعلى تركيزات العناصر
KREEP موجودة في أوسيانوس پروسيلاروم، مع أن سبب
هذا التوزع غير المألوف ليس واضحا.
إضافة إلى ذلك، أثبتت السواتل المدارية القمرية أنه
يغشى نجودَ القمر صخورٌ من نوع الأنورثوسايت anorthosite،
وهي صخور بركانية مكوّنة في المقام الأول من الفلسپار
feldspar المعدني الغني بالكالسيوم والألمنيوم. وهذه الصخور تكوّنت في
مرحلة مبكرة من تاريخ القمر، حين كان القسم الخارجي منه لا يزال منصهرا كليا؛
وقد طغت صخور الأنورثوسايت المنخفضة الكثافة على سطح المحيط المكوّن من الصهارة.
ومع أن العلماء افترضوا وجود هذا الطور من تاريخ القمر استنادا إلى عينات أپولو،
فإن البرهان أتى من البيانات التي زودتنا بها كليمنتاين ولونر پروسپكتر، والتي
أثبتت التوزع الشامل والكميات الكبيرة من الأنورثوسايت. ولأن المصدر الحراري
الوحيد القادر على صهر القمر كله لا بد أن يكون تراكما سريعا لأجسام صغيرة، فإن
وجود مقادير كبيرة من الأنورثوسايت في قشرة القمر يؤيد النظرية القائلة بأن
القمر تكوّن نتيجة التحام حطام اصطدام كوكبي.
فسرت أيضا السواتل المدارية القمرية واحدا من أكثر
اكتشافات بعثات أپولو إثارة للدهشة: إنه المحتوى الكبير غير العادي من
التيتانيوم في الصخور البازلتية الموجودة في البحور القمرية، والتي جمعها روّاد
أپولو 11 خلال أول هبوط لهم على القمر. وطالما تعرض جيولوجيو القمر لضغوط شديدة
كي يفسروا كيف ارتفعت الصهارة ذات الكثافة العالية جدا والغنية بالتيتانيوم عبر
قشرة الأنورثوسايت القمرية ذات الكثافة المنخفضة. وقد بينت كليمنتاين ولونر
پروسپكتر أن اللابات ذات المحتوى الكبير من التيتانيوم، والتي اكتشفتها بعثة
أپولو 11، هي في واقع الأمر نادرة جدا على القمر. ومع أن الصخور البازلتية في
البحور القمرية تحوي تركيزات متفاوتة من التيتانيوم، فإن نسبة قليلة منها فقط
تحوي التركيزات المتطرفة من التيتانيوم، التي رُصدت في موقع الهبوط الأول على
بحر الهدوء. وقد تعلم باحثو القمر درسًا قيمًا، مفاده أن العينات المأخوذة من
موقع واحد على القمر لا تمثل بالضرورة بقاعا واسعة منه.
نظرة إجمالية/ أسرار القمر الغامضة
(***) في التسعينات من القرن الماضي، زودت السفينتان الفضائيتان كليمنتاين ولونر پروسپكتر العلماء بخرائط شاملة لطبوغرافية القمر وتركيب سطحه وتغيرات ثقالته وشذوذاته المغنطيسية. وقد أضافت هذه الاكتشافات الكثير لما وفرته بعثات أپولو، لكنها طرحت أسئلة جديدة. وبوجه خاص، يسعى الباحثون إلى معرفة المزيد عن القصف العنيف الذي تعرض له القمر قبل نحو أربعة ملايين عام.
تخطط وكالة الفضاء الأوروبية واليابان والولايات المتحدة لإرسال المزيد من المسابير غير المأهولة إلى القمر لحل بعض الأسرار القمرية.
|
ولأن جريانات اللابة تحوي نموذجيا مركّبات منتظمة
ومتمايزة، فمن الممكن استعمال البيانات التي وفَّرتها كليمنتاين ولونر پروسپكتر
لتحديد الجريانات التي حدثت في البحور. ويمكن تعيين عمر كل جريان بقياس كثافة
فوهات الصدم فيه. فجريانات البحور القديمة تعرضت لقصف أطول أمدا مما تعرضت له
الجريانات الحديثة، ومن ثمّ فكثافات فوهات الصدم فيها تكون أعلى. والعلماء على
معرفة تامة بأعمار جريانات البحور في مواقع أپولو نتيجة تحليلهم النظائر المشعة
لعينات الصخور التي جُلبت من هناك، ومن ثم فبإمكانهم تقدير أعمار جريانات أخرى
بمقارنة كثافات فوهاتها بكثافة فوهات الجريانات في المواقع التي حطّت عليها
أپولو. وتبين هذه النتائج أنه على الرغم من عدم وجود لابات بحورية على القمر
مركّباتها وأعمارها واسعة التنوع، فإن معظمها تكوّن قبل 3.8 بليون سنة، وواصل
تكوّنه إلى ما قبل 3 بلايين سنة.
ومع أن البحور تُعرف بلونها الداكن، فثمة بقاع معينة
من النجود يبدو أنها متوسطة العاكسية وتحوي مقادير كبيرة نسبيا من الحديد. وبعض
هذه السطوح هي ترسبات بحورية غُطيت بطبقات من حطام النجود ـ أي بطبقات من
الصخور المقذوفة بفعل الصدمات التي خلّفت فوهات على أحواض القمر. ولما كان
تكوّن هذه اللابات البحرية قد سبق تكوّن طبقات حطام النجود، التي تشكلت خلال
تكون الأحواض قبل 3.8 بليون سنة، فإنها تشير إلى أن تكوّن اللاپة على القمر بدأ
قبل وقت طويل من تكوّن أقدم جريانات البحور التي جلبت أپولو عينات منها. وقد
بيّنت الخريطة الشاملة للقمر، أن جريانات البحور هذه واسعة الانتشار جدا على
الوجه القمري البعيد وعلى حافاته (وهي الحدود بين وجهي القمر القريب والبعيد).
سطح شديد الوعورة
(****) للقمر سطح شديد الوعورة. والفرق بين ارتفاعه في أخفض
نقطة منه (في حوض SPA) وبين ارتفاعه في أعلى نقطة
منه (على حافة حوض كوروليف Korolev في الوجه
البعيد من القمر) يتجاوز 16 كيلومترا. وعلى أرضنا، حيث يعادل أكبر فرق في
الارتفاعات نحو 20 كيلومترا، فإن طبوغرافية سطحها هي نتيجة نشاط تكتوني ولّد
سلاسل الجبال العالية وخنادق المحيطات العميقة. وبالمقابل، فللقمر قشرة خارجية
سكونيّة؛ وكانت القشرة القمرية باردة وصلبة خلال الأربعة بلايين سنة الماضية
على الأقل. والتضاريس الطبوغرافية على القمر ترتبط كليا بفوهات الصدم وأحواضه.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون أكبر حوض على القمر موقعا لأكبر الفروق في
الارتفاعات؛ مع أن ما يدهشنا، إلى حد ما، هو أن مثل هذه المعالم الكبيرة
والقديمة ما زالت تحتفظ بمعظم أشكالها الأصلية.
مضىء ومظلم
(*****) تبين الصورة، التي التقطتها السفينة الفضائية كليمنتاين للوجه القريب من القمر، النمطين الرئيسيين للتضاريس: أحدهما نجود ساطعة تعج بالفوهات، والآخر منخفضات ملساء تسمى بحورا. وبالمقابل، فإن الوجه البعيد من القمر يفتقر كليا تقريبا إلى البحور. لقد زارت الوجه القريب ستُ بعثات لأپولو [تُظهر الدوائر الصفراء مواقع الهبوط وأرقام البعثات]. وتخطط "ناسا" حاليا لإرسال مركبة إنسالية robotic تحط على الوجه البعيد للقمر. |
ويبدو القسم الداخلي من القمر وعرًا جدًّا أيضا. وقد
بيّن التعقب الراديوي لمدار السفينة الفضائية لونر پروسپكتر، التي سارت في مدار
منخفض ـ بحيث لم يفصله عن سطح القمر في إحدى نقاطه سوى سبعة كيلومترات ـ أن
الثقالة كانت أكبر مما هو متوقع فوق بعض أحدث أحواض الصدم. ولا يعتقد العلماء
أن صخور البحور البازلتية الموجودة في الأحواض هي المصدر لشذوذات الثقالة؛
ويبدو أن جريانات اللابة رقيقة جدا ـ من بضعة أمتار إلى بضع عشرات من الأمتار ـ
ثم إن التراكمات ترتفع، في الحالة النموذجية، 200 متر أو أقل. وما يعتقده
الباحثون هو أن التركيزات الكبيرة هي انبثاقات لصخور كثيفة انطلقت من المعطف
mantle القمري، وارتفعت باتجاه سطح الأحواض عقب
حدوث الصدمات.
إن الثنائية غير العادية للتضاريس ـ إذ تغشى الوجهَ
القريبَ للقمر بحورٌ قاتمة، وتغشى الوجهَ البعيدَ نجودٌ متألقة ـ يمكن تفسيرها
أيضا بالاختلافات البنيوية تحت السطح. ومع أن العلماء لم يحلوا تماما هذه
المشكلة، فإن السبب، الأكثر احتمالا لهذه الثنائية، يتجلى في أن القشرة على
الوجه القريب رقيقة نسبيا، ومن ثم فإن الصهارة الصاعدة تستطيع بلوغ السطح
وكسره بسهولة أكبر مما هي الحال على الوجه البعيد. ويحوي الحوض
SPA الضخم معظم لابات البحور على الوجه البعيد،
بيد أن هذه الترسبات رقيقة جدا ومحدودة المساحة. ولا يحوي الحوض
SPA، في معظمه، لابات بحورية، في حين يحوي أصغر
الأحواض على الوجه القريب عددا كبيرا من اللابات.
خرائط القمر
(******) إن الأرصاد التي نفذتها السفينتان الفضائيتان كليمنتاين ولونر پروسپكتر مكّنت العلماء من رسم أول خريطة تفصيلية شاملة لسطح القمر. وقد حملت كليمنتاين على متنها جوالا ليزريا، كان يقيس المسافة إلى السطح مرة كل ثانية خلال طيران السفينة في مدارها القطبي. وقد بينت النتائج الاتساع الهائل لحوض إيتكن في القطب الجنوبي [اللطخة القرمزية على الوجه البعيد للقمر]، الذي تكوّن نتيجة لصدم مذنب أو نيزك، وقطره 2600 كيلومتر.
التقطت آلات التصوير على متن كليمنتاين صورا بأحد عشر طولا موجيا في الجزء المرئي والجزء القريب من المنطقة تحت الحمراء من الطيف. وباستعمال بيانات طولين من هذه الأطوال الموجية [750 و 950 نانومترا]، تمكّن الباحثون من رسم خريطة تبين تركيزات الحديد في تربة سطح القمر. وقد وجدوا أن مستويات الحديد تكون في حدها الأعلى في بحور الوجه القريب من القمر؛ وتكون في حدها الأدنى في القسم المركزي من الوجه البعيد [فوق حوض إيتكن في القطب الجنوبي].
استعملت لونر پروسپكتر مطياف أشعة گاما لقياس غزارة 10 عناصر في قشرة القمر. كان أحد هذه العناصر هو الثوريوم، الذي له سلوك مشابه تماما لسلوك العناصر النادرة التي تعرف باسم KREEP فهو لا يتلاءم جيدا مع البنى البلورية للمعادن، التي تدخل عموما في تركيب الصخور. ونجد أعلى مستويات الثوريوم في أوسيانوس پروسيلاروم على الوجه القريب من القمر، لكن سبب هذا التوزع غير العادي ليس واضحا.
توصلت أيضا السفينة الفضائية لونر پروسپكتر إلى أدلة على وجود جليد مائي في قطبي القمر. فقد وجد المطياف النيوتروني للسفينة نقصا في النيوترونات المتوسطة الطاقة، التي تصدر عن البقاع المظلمة دائما (اللون الأرجواني). والجليد يبطئ من سرعة النيوترونات بسبب تصادماتها بذرات الهدروجين في جزيئات الماء. وتدعم هذه النتائج اكتشاف كليمنتاين للجليد في البقاع المظلمة.
إن حركة لونر پروسپكتر في مدار يقترب كثيرا من سطح القمر، بحيث تصبح السفينة على مسافة 7 كيلومترات فقط منه، سمحت بإجراء قياس دقيق للتغيرات في ثقالة القمر. وقد كشف التعقب الدقيق لمدار هذه السفينة الفضائية أن ثقالة القمر أقوى مما كان متوقعا [البقاع الحمراء] فوق بعض أحدث أحواض الصدم. وأحد التفسيرات الممكنة لذلك، هو أن بعض الصخور الكثيفة في معطف القمر ربما ارتفعت باتجاه سطح الأحواض، بعد أن صُدم سطح القمر بنيازك أو مذنبات.
|
أظهرت الخريطة الطبوغرافية، التي رُسمت بوساطة جوّال
كليمنتاين الليزري، الأبعاد الكبيرة للحوض SPA،
الذي يبلغ قطره 2600 كيلومتر، وهذا يجعله أكبر فوهة صدم في النظام الشمسي كله.
لقد وثّقت كليمنتاين أيضا وجود أحواض كثيرة إضافية، كان بعضها معروفا قبل رحلة
هذه السفينة. ويقدر الباحثون الآن أن عدد أحواض القمر يفوق 45 (وهي التي تعرف
بأنها تلك المعالم التي نجمت عن الصدم، والتي تتجاوز أقطارها 300 كيلومتر).
وبناء على كثافات الفوهات الموجودة ضمن الأحواض، يبدو أن الحوض
SPA هو أقدم الأحواض، وأن أورينتال
Oriental أحدثها.
بيد أن العلماء لا يعرفون الأعمار المطلقة إلا لتلك
الأحواض التي زارتها بعثات أپولو ولونا. إن استخدام النظائر المشعة لتعيين
أعمار الصخور التي صهرت عندما صدم القمرَ كويكب أو مذنب ـ بدءا من تاريخ صهرها
ـ بيّن أن جميع تلك الأحواض تكوّنت خلال مدى زمني قصير طوله مئة مليون عام ـ
يبتدئ قبل 3.9 بليون عام وينتهي قبل 3.8 بليون عام. فُسِّر هذا المدى الزمني
القصير بأنه يعني أن القمر تعرض لصدمات بمعدل عالٍ جدا خلال مدة قصيرة، وقد
أُطلق على هذه المدة اسم الجائحة القمرية lunar
cataclysm.
لكن كيف أمكن لهذا القصف الكثيف أن يحدث؟ تفترض
نماذج التاريخ المبكر للنظام الشمسي أن تردد frequency
الصدمات لا بد أن يكون تناقص تدريجيا، وأن هذا التناقص ابتدأ قبل 4.5 بليون سنة،
وانتهى قبل 4 بلايين سنة، ذلك أن معظم النوى الكوكبية
planetesimals ـ وهي الأجسام الصخرية الصغيرة التي تكوّنت من الغيمة
السديمية الشمسية ـ جرى قذفها تدريجيا خارج المنظومة الشمسية الداخلية، أو
امتصاصها من قِبَل الكواكب الخارجية. وإذا استطاع الباحثون إثبات أن الجائحة
القمرية حدثت فعلا، فسيكون لهذا الاكتشاف نتائج بعيدة المدى تتعلق بتاريخ
الكواكب الداخلية كلها. فمن الممكن، مثلا، أن يكون جرم ضخم في حزام الكويكبات
تحطم قبل 3.9 بليون سنة، وأن حطامه اندفع باتجاه النظام الأرضي ـ القمري. ولو
صحّ ذلك، لكان معناه أن تاريخ تكوين الفوهات القمرية فريد من نوعه، ومن ثم لا
يمكن استعماله كمرجع لتقدير أعمار المعالم الموجودة على كواكب أخرى غير الأرض.
ثمة طريقة لمعرفة ما إذا كانت الجائحة القمرية حدثت
فعلا، وهي تعيين العمر المطلق للحوض SPA.
فالعلماء يعرفون أن هذا الحوض يجب أن يكون أقدم من أي حوض قمري، وأن أقدم
الأحواض التي يمكن تقدير أعمارها بكل ثقة، اعتمادا على عينات صخورها التي
صُهِرت نتيجة صدم القمر، هو بحر سيرينيتاتيس Serenitatis،
الذي عمره التقديري 3.87 بليون سنة. ومن الواضح أن الصدمة التي ولّدت الحوض
SPA، حدثت بعد تصلّد القشرة القمرية، الذي حدث
قبل نحو 4.3 بليون سنة. لذا لا بد أن يقع عمر الحوض SPA
بين هذين التاريخين. لكن هل هذا العمر أقرب إلى 3.87 أم إلى 4.3 بليون سنة؟
إذا وُجد أن عمر الحوض SPA
قريب من أعمار الأحواض الأخرى، فسيكون لدى العلماء حجة قوية تؤيد الجائحة
القمرية. وبالمقابل، إذا تبيّن أن عمر الحوض SPA
قريب من عمر تصلّد القشرة القمرية، فلن يكون ثمة حاجة إلى فرضية الجائحة
القمرية. ومن الممكن النظر إلى تاريخ الفوهات القمرية بوصفه دليلا على انحدار
أسيٍّ في تردد الصدمات. وفي هذه الحالة، يمكن أن يكون السجل القمري صالحا فعلا
ليكون مرشدا لتفسير حدوث الفوهات على الكواكب الداخلية، مثل كوكب المريخ. بيد
أنه لتعيين تاريخ الحوض SPA، لا بد للباحثين من
الحصول على عينات من صخور الحوض التي صُهِرت نتيجة الصدم.
قد تكون إحدى أكثر النتائج إثارة، التي وفّرتها لنا
بعثتا كليمنتاين ولونر پروسپكتر، هي تقديم الدليل على وجود جليد مائي في
القطبين القمريين. ولما كان ميل محور دوران القمر هو 1.5 درجة فقط ـ أي إنه
عمودي تقريبا على مستوى فلك الأرض حول الشمس ـ فإن الشمس تقع دائما في أفق
القمر، أو قريبا منه، عند النظر إليها من القطبين القمريين. (وبالمقابل، فإن
ميل محور دوران الأرض قريب من 23 درجة.) فإذا كانت بقعة قريبة من قطب قمري
مرتفعة بنحو 600 متر فوق الارتفاع الوسطي لسطح القمر، فستكون مضاءة دائما بنور
الشمس؛ وإذا كانت بقعة موجودة على مسافة 600 متر على الأقل تحت السطح، فستكون
مغمورة بظل أبدي. وفي مثل هذه البقعة الأخيرة، يكون المصدر الوحيد للحرارة هو
الكمية الضئيلة من الاضمحلال الإشعاعي radioactive
decay للقسم الداخلي من القمر، ومن الأشعة
الكونية الضعيفة. ويقدّر الفلكيون أن هذه المناطق القاتمة دائما، التي ما زالت
موجودة منذ بليوني أو ثلاثة بلايين سنة، شديدة البرودة، إذ تراوح درجات حرارتها
بين (-223) و (-203) درجات سيلزية. وهذه المصايد الباردة تسمح بتجميع جليد مائي
من المذنبات والنيازك التي تضرب القمر، ذلك أن الجليد لا يتبخر البتة بفعل ضوء
الشمس.
ومع أن سفينة الفضاء كليمنتاين لم تكن تحمل أي آلات
مصممة خصيصا للبحث عن الجليد القطبي، فقد تمكّن الفريق العلمي للبعثة من ارتجال
تجربة باستعمال جهاز إرسال راديوي على متن السفينة الفضائية. وفي حين تُبعثِر
السطوح الصخرية الموجات الراديوية عشوائيا، فإن الجليد يمتص جزئيا تلك الموجات
ويعكس بعضها بحيث تكون مترابطة معًا. وحين وجّهت كليمنتاين موجات راديوية إلى
مناطق يغشاها ظل دائم قرب القطب الجنوبي، كانت الموجات المنعكسة تماثل تماما
الموجات التي تنعكس عن سطح جليدي. وبعد أربع سنوات، كشف (المطياف النيوتروني)
(1)،
المحمول على متن لونر پروسپكتر، وجود كميات كبيرة من الهدروجين في المناطق
القاتمة في كلا القطبين؛ وأكثر التفسيرات احتمالا هو أن السفينة كشفت الهدروجين
الموجود في جليد الماء. وتشير التقديرات الحالية إلى وجود أكثر من 10 بلايين طن
من الجليد ضمن القدم العلوية، أو نحو ذلك، من السطح في كلا القطبين. بيد أن
الباحثين لا يعرفون الحالة الفيزيائية لهذه المادة ولا تركيبها الدقيق ولا
نقاوتها ولا مدى سهولة الوصول إليها. ولا يمكن الحصول على هذه المعلومات إلا
بوساطة بعثات مستقبلية إلى القمر.
العودة ثانية إلى القمر
(*******) لقد بينت أيضا الصور التي التقطتها كليمنتاين أن بعض
المناطق القريبة من قطبي القمر تبدو مضاءة دائما تقريبا بنور الشمس. وعلى سبيل
المثال، ثمة منطقة قريبة من حافة فوهة شاكِلتون
Shackleton تظل مضاءة طوال أكثر من 75 في المئة من مدة دوران القمر حول
محوره. ولهذه المناطق درجات حرارة معتدلة نسبيا، إذ تراوح حرارة سطوحها بين -60
و -40 درجة سيلزية. (وبالمقابل، فإن درجات الحرارة في خط الاستواء القمري تراوح
بين -150 و 100 درجة سيلزية). وتحديد الموقع الذي ستحط عليه سفينة فضائية
مأهولة أو غير مأهولة، في إحدى المناطق المضاءة بنور الشمس قرب القطبين، سيسهل
كثيرا مشكلة تصميم التجهيزات القادرة على تحمل تغيرات درجة حرارة سطح القمر.
وإذا كان من الممكن استرجاع جليد من بقعة مظلمة دائما، وقريبة من قاعدة السفينة،
فهذا يوفر للقاعدة مصدرا مائيا يمكن استعماله لضرورات الحياة وأيضا للوقود
الصاروخي (وذلك بتحويل الماء إلى أكسجين وهدروجين سائل، وهما أقوى أنواع الوقود
الكيماوي الداسر
(2).
العودة إلى القمر
(********) أسفرت النجاحات التي حققتها السفينتان كليمنتاين
ولونر پروسپكتر عن وجود اقتناع بضرورة إرسال عدد كبير من البعثات القمرية
الجديدة. وهذه البعثات هي الآن في مراحل مختلفة من إعدادها. وفي الشهر 9/2003،
أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية السفينة الفضائية سمارت
SMART 1، وكانت مهمتها الرئيسية اختبار محرك دسْر أيوني
ion-propulsion
خلال رحلة إلى القمر تستغرق 16 شهرا. بعد دخول سمارت 1 في مدارها القمري
ستستعمل آلة تصوير ومحس sensor أشعة سينية لرسم
خريطة سطح القمر. وفي عام 2004 ستطلق اليابان السفينة لونر
Lunar A، التي
ستدور حول القمر وتُسقط عليه مسبارين يحطان بسرعة على سطحه. وقد زُوِّد هذان
المسباران بمقاييس للزلازل وبمحسات للتدفق الحراري، وسيقومان بجمع معلومات عن
داخل القمر، وربما يرسمان خريطة لقلبه. وتخطط اليابان لمتابعة هذه البعثة عام
2005 بإرسال سفينة أكبر تدور في فلك قمري، تسمى سيلين
SELENE. وسترسم هذه السفينة خريطة للقمر بقدر أكبر من التفصيلات
باستعمالها مطاييف للأشعة السينية ولأشعة گاما، وآلة تصوير للتضاريس ومقياس
ارتفاع ليزريا، ومسبارا راداريا.
إضافة إلى ذلك، فإن الأهمية التي عادت من جديد للحوض
SPA أحيت فكرة توجيه مسبار إنسالي
(3) ليحط هناك،
بغية جمع عينات لإرسالها صاروخيا إلى الأرض لتحليلها. وقد أيد إرسال هذه البعثة
تقرير أعدته عام 2002 لجنة من العلماء اجتمعت برعاية الأكاديمية الوطنية للعلوم.
والهدف الرئيسي للبعثة هذه هو الحصول على عينات من صخور الحوض التي انصهرت
نتيجة صدمه. هذه الصخور التي تسمح بتعيين الوقت الذي تشكَّل فيه الحوض، قد تحل
مسألة حدوث الجائحة القمرية أو عدم حدوثها. إلى ذلك، لمّا كانت هذه الصخور
المصهورة نتيجة الصدم تمثِّل مركّبا لجميع الصخور التي صُدمت بكويكب أو نيزك،
فإن دراستها تسمح بكشف تركيب القشرة القمرية وبنيتها في الموقع المستهدف من
الحوض. ويظن بعض الباحثين أن الجسم الصادم ربما اخترق القشرة وبلغ أجزاء من
القسم العلوي من معطف القمر تقع على عمق يتجاوز 120 كيلومترا. فإذا كانت تلك
الصخور المصهورة تحتوي على بعض مواد المعطف، فقد يتمكن العلماء من أن يعيِّنوا
بشيء من التفصيل، تركيب القسم الداخلي العميق من القمر.
إن إرسال بعثة إلى الحوض SPA
لجلب عينات منه، هو عملية سهلة نظريا، لكنه صعب التنفيذ، فيجب على مخططي
البعثات اختيار موقع للهبوط يوفر العينات الملائمة لحل المشكلات العلمية
المتعلقة بعمر ذلك الحوض وتركيبه. ولحصول الباحثين على المعلومات التي تساعدهم
على تحديد المواقع الملائمة جيولوجيا لأخذ الصخور المرغوب فيها، يمكنهم استعمال
أجهزة الاستشعار من بعد المتوافرة. وبسبب أن هذه المواقع ستكون على الوجه
البعيد للقمر، فيجب على السفينة، التي تحط على القمر، إما أن تعمل باستقلال عن
غيرها، وإما أن تُجري اتصالات مع متحكِّمين أرضيين عن طريق ساتل مُرَحِّل.
إلى ذلك، يتعين على السفينة الفضائية الحصول على كل
من الصخور والتربة من موقع الهبوط. فالصخور ضرورية لتحليل المعادن وتقدير عمر
العينات، في حين تُمكِّن التربة العلماء من معرفة ما إذا كانت الصخور التي
جُمعت تمثل فعلا المنطقة التي جلبت منها. (من الممكن أيضا أن تحوي التربة شظايا
صغيرة من صخور نادرة وغريبة.) ومن الضروري إرسال العينات بوساطة عربة صغيرة
تعود إلى الأرض، وتحملها السفينة التي حطت على السطح القمري. بعد ذلك، يجب أن
تستعمل العربة محركا صاروخيا ليرفعها من القمر ويضعها في مدار يعود بها إلى
الأرض. وبعد استعمال جو الأرض لتخفيف سرعة العربة، فإنها ستحط في بقعة بعيدة،
وتشغِّل منارة راديوية لتجذب إليها الفريق الذي يبحث عنها لاستعادتها. وجميع
هذه العناصر تجعل البعثة تنطوي على تحديات تقنية، بيد أن هذه التحديات تظل في
حدود إمكاناتنا.
وقد قدّمت الوكالة ناسا عروضا للقيام ببعثة مهمتها
جلب عينات من الحوض SPA، بحيث تُرسَلُ البعثة قبل
عام 2010. لكن متى سيتوجه رواد فضاء ثانية إلى القمر؟ ثمة كثير من الأسباب
العلمية التي تحث على إرسال مستكشفين لتنفيذ هذه المهمة. وستوفر بعثة مأهولة
فرصا ثمينة لإجراء مجموعة كاملة من الأبحاث. فوجود جليد مائي على القطبين
القمريين قد يسهل ترسيخ وجود بشر باستمرار هناك. وحديثا درست "ناسا" اقتراحاتنا،
التي تسمح بإرسال بعثات بشرية جديدة إلى القمر، باستعمال البنية الأساسية (التحتية)
المتاحة حاليا للإطلاق والنقل الفضائي، وهذا يخفض، ببلايين الدولارات، التكاليف
اللازمة لإعداد البعثة وتطويرها.
بيد أن عودة رواد الفضاء إلى القمر تتطلب سندا عقليا
سياسيا، لا مسوغا علميا. وكما يجب، فلن يُتخذ هذا القرار البتة لدواع علمية فقط.
فالبعثات يجب أن تُدخل في اعتباراتها مجموعة واسعة من الاهتمامات والشؤون
الوطنية. بيد أنه ما إن نعود من القمر، حتى تظهر آفاق جديدة لأبحاث علمية لا بد
من إجرائها. لقد قرأنا فصلا من قصة القمر، إلا أن كثيرا من فصوله ما زالت
ضبابية وتفتقر إلى مزيد من البحث والتحقيق. ومن المحتمل جدا أن تبين لنا
الاستكشافات المستقبلية أن تاريخ أقرب جيراننا أكثر تعقيدا وإثارة مما كنا
نتصور.