تاريخ التسجيل : 11/04/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3
01102011
حيث يسكن الله
ماذا يحدث في الدماغ عندما نصلي أو نقوم ب"أي نشاط ديني تعبدي"؟ علماء الأعصاب وبالتجارب المصورة تمكنوا من إماطة اللثام عن ما الذي يحدث في الدماغ أثناء ذلك. فهل يسكن الله في رؤوسنا؟
لقد جعلت عبارة "موت الله" الفيلسوفَ فريدريش نيتشه مشهوراً، دون أن يتحقق موت الله على صعيد الواقع. فاليوم ، وبعد مضي قرن كامل على رحيل نيشته نفسه، تشهد الأديان المختلفة قبولاً منقطع النظير على صعيد العالم برمته، بالرغم من جميع نذر الشؤم التي يطلقها الماديون والملحدون.
ويودّ المرء أن يهتف بالفيلسوف نيشته، وهو في دار الآخرة، بأنّ أولئك الذي يُعلن عن موتهم يعمّرون عادةً طويلاً. وحتّى قبل سنوات قليلة، كانت العلوم الطبيعية لا توجه اهتمامها، إلا لماماً، إلى ظاهرة الإيمان بذات عليّة، لأن الدين كان يعتبر آنذاك ظاهرةً ثقافية اجتماعية ونتاجاً للطاقة الروحية الإنسانية. والآن يبدو أن جماعة العلماء لم تعد راغبة في إخلاء الميدان كليّاً لرجال اللاهوت وعلماء الاجتماع. فأخذت طائفة متنامية من المتخصصين بدراسة الدماغ، كما يجهد علماء الأشعة والتحليل النفسي باحثين عن جذور الإيمان، جاعلين من الدماغ مجالاً لبحثهم. فكانت خلاصة جهودهم عبارة عن استفزاز لجميع أولئك الذين يؤمنون بروح عليا. ووفقاً لذلك فإنّ المشاعر الدينية تنبع، شأنها شأن المشاعر الإنسانية آلّها، من فوضى خلايا الدماغ التي يبلغ عددها مئة مليار خليّة تحت قحفة الجمجمة. فهل أن الله ليس أكثر من نسج خيال؟
ويقول طبيب الأعصاب فيلايانور راماجاندران Ramachandran أن هناك " الكثير من الصفات التي تجعلنا بشراً، لكن ليس هناك أشد غموضاً من ظاهرة الدين". ويعتقد هذا الطبيب المعروف، والأستاذ في جامعة كاليفورنيا بسانت دييغو، بأنه حلّ هذا اللغز. فقد شخّص مع زملاء له منطقة في الدماغ يحتمل أنها ذات علاقة وثيقة بالأفكار الروحيّة. وأطلق الباحثون على هذه المنطقة الواقعه خلف الأذن اليسرى عبارة "مطبقية الله" ، وهي عبارة ذات صيغة دعائية. ويستنتج راماجاندران من خلال تجاربه التي أجراها على المرضى المصابين بالصرع الناتج عن التهاب الفصّ الصدغي بأنّ هناك "قاعدة عصبية ترجع إليها الخبرات الدينية". وينتج عن هذا المرض انفعالات "برقية" منفتلة في خلايا منطقة الفصّ الصدغي مقترنة تشريحيّاً ووظيفيّاً "بالحصيّن" المخيّ (وهو بنيّة تشريحية في الدماغ) و "الجسم اللّوزي" في الدماغ ارتباطاً وثيقاً. وإذا ما حدث مركز الصرع في منطقة المخّ خلف الأذن اليسرى فإنّ المصابين يتحدثون دائماً عن "رؤىً روحانيّة".
وما يعيشه المريض يترك في الواقع أثراً ثابتاً: فالأشخاص المصابون بصرع الفصّ الصدغي كثيراًَ ما يميلون حتّى أثناء الفترات الطويلة التي تفصل بين حالات الصرع إلى التديّن العميق. وتستحوذ فكرة المرجعية العليا على الكثير منهم بإلحاح شديد، لدجة أن اعتقادهم يستحيل إلى تعصّب، والإلوهية تستحيل في نظرهم إلى هوس. ويصف راماجاندران حالة المريض "باول" الذي يبرق فصّة الصدغي بين فترة وأخرى بانتظام منذ سنوات بأنه "يرى الكون مثل حبّة رمل تسبح في بحر من النشوة الدينية".
ويلعب الجهاز الحوفي ، والجسم اللوازي بصورة خاصة، دوراً أساسيّاً في صدور هذا الانفعال المتطرّف؛ فمهمة منطقة المخّ هذه هي تقييم الانطباعات الحسيّة والخبرات الذاتية. ويحدد الجهاز الحوفي الانفعالات الناشئة عن معايشات جوهرية بالنسبة للوجود الإنسان مثل الممارسة الجنسية أو المنظر "الجميل" للطفل – وتشكلّ تلك علامة مميزة للأحاسيس وتضمن بأن هناك شيئاً في غاية الأهمية يستعر في تجاويف أدمغتنا بصورة غير قابلة للنسيان.
إلا أن هذه التقييم شهد تغيّراً لدى المصابين بصرع الفصّ الصدغي. ففي الوقت الذي تتولد فيه انفعالات قوّية لدى الناس الأصحاء كردّ فعل على صور الأوضاع الجنسية أو حالات العنف التي لها علاقة بأقرب الناس إليهم، ينظر مرضى الصرع هؤلاء إلى هذه "الأشياء الدنيوية" نظرةً باردة. وتولّد لديهم المشاهدُ الدينية أو حتى مجرد ذكر "الله" سيلاً عارماً من المشاعر، ومن الجدير بالملاحظة هو أن نشاط المخّ في "مطبقية الله" في هذه اللحظة يزداد بشكلّ واضح. ويفترض راماجاندران بأن الربط العصبيّ القائم بين المناطق الحسّاسة في الفصّ الصدغي وبين الجهاز الحوفي يزداد وثوقاً عبر الانفعالات الكهربائية العنيفة أثناء نوبات الصرع. ولذلك فإن كلّ ما يشهده مريضه باول يكون من صنع سلطة إلهية.
لقطات "النّرفانا" الخاطفة
ولو أن باول كان يعيش في أزمان سابقة، لما أدخل على الأرجح إلى المستشفى لغرض العلاج، بل لأصبح قديساً يُسجد له أو كافراً يحرق؛ وهذه هي النتيجة التي توصل إليها علماء اللاهوت ويستنتج وليم آلفن وجورج أوجمن، وهما متخصصان في علم .Neurotheologen العصبيّ الأعصاب في جامعة واشنطن، يستنتجان من خلال التقارير والأوصاف المعاصرة بأن التحوّل العجيب "لشاؤول" الذي لم يكن يخشى الله إلى "بولص" الورع لم يأت بفعل الوحي، إنما يمكن أن يكون بفعل نوبات الصرع الناتجة عن الفصّ الصدغي. وآذلك الأمر مع "أيوحنا الأورليانية" التي يمكن أن تكون سمعت صوت الله يطالبها بإنقاذ فرنسا، وذلك أثناء نوبة صرع مماثلة انتابتها. والآن، فلا يصح أن يخشى المترددون بانتظام على الكنائس و الجوامع على سلامة قواهم العقلية. بل إنّ النتائج التي توصل إليها علماء اللاهوت العصبيّ تظهر بأن التفكير الدينيّ مبرمج جينيّاً وبصورة مسبقة في خلايا الدماغ الرمادية لكلّ شخص، ولعلّ هذه الحقيقة تدفع قبل كلّ شيء الملحدينَ المقتنعين بإلحادهم إلى التأمل بإلحادهم؛ فنحن "مخلوقون" إى حدّ ما لكي نؤمن بالله! أمّا عمق المشاعر الدينية فيتوقف حسب رأي راماجاندران على النشاط الكهربائي الطبيعيّ في الفصّ الصدغي، أو على الاستعداد لتقبّل المعايشة الروحانية.
وتسعى جميع المعتقدات الدينية إلى الاستفادة من تحفّز الجهاز الحوفي في شعائرها حسبما يعتقد الباحث أندريو نيوبيرغ. فالمحيط والجوّ ومجريات الطقوس المصاغة باسلوب معيّن تختلف تماماً
عن ظروف الحياة اليوميّة، بحيث أن الدماغ يضع عليها ختمه بصفتها من الأشياء "المتميزة بصورة خاصة". ويهتم نيوبيرغ المتخصص بالأشعة الطبيّة في جامعة بنسلفانيا بفيلاديلفيا والرائد في العلوم الطبيعية التي تبحث عمّا هو إلهيّ؛ يهتم بشكل خاص بحالة الوعي التي يسرد مجراها المؤمنون في جميع الديانات تقريباً والمتعلقة بشعور التوحّد بالله.
ووصف "مايكل بايم" لحظة التجلّي هذه على النحو الآتي: "كنت أشعر باختفاء الحدود من حوليّ وبالارتباط بطاقة ما، وبحالة من الوضوح والشفّافية والبهجة. وكنت أشعر بارتباط وثيق بكلّ شيء، وأعرف بأن ليس هناك في الحقيقة أيّ حالة انفصال". ومايكل بايم هو أحد الأشخاص الثمانية الملمّين بتقنيات رياضة التأمل البوذيّة والذين أخضعوا للتجربة، فأرسلهم نيوبيرغ في مختبره الطبيّ النووي في رحلة "النّرفانا" الحسيّة القصوى. وفي لحظة الاستغراق التام أخذ المساهمون بهذه التجربة يجذبون سلكاً معيناً. وبعد هذه الإشارة سارع الباحث الذي يقف في الغرفة المجاورة إلى حقنهم بمادة مشعّة في الوريد عبر أنبوب للتغذية. وكان هذا الذي يسمّى ب"المكوّن الاستشفافي" (الذي يمكن تتبعه خلال العمليات البيولوجية والكيماوية بفضل ما يتميّز به من نشاط اشعاعي) يلتصق خلال فترة قصيرة للغاية في خلايا المخّ، وبالأخص هناك بالتحديد، حيث يكون المخّ مزوّداً بالدم بقوّة. فيشير حينئذ تدفّق الدمّ المرتفع في منطقة ما من المخّ إلى أن هذه المنطقة نشطة الآن بشكل كبير. وبعد ذلك بفترة وجيزة يعيّن نيوبيرغ بجهاز تصوير خاص انتشار الأشعة النووية. وتكشف الصورة الناتجة عن هذه التجربة، والمسماة ب أو اختصاراً والمحسوبة الأجزاء في جهاز الكمبيوتر، ما يقوم به المخّ في هذه اللحظة عندما "تذوب الحواجز الفاصلة" على حدّ تعبير بايم.
ويتطلّب التأمل تركيزاً شديداً، لذلك فإنّ نيوبيرغ وزملاءه كانوا ينتظرون التماع المنطقة المختصة بتنظيم عملية الانتباه في القشرة الحسيّة الأمامية من المخّ. إلا أنهم اكتشفوا شيئاً آخر، إذ كانت هناك منطقة واقعة في آخر المخّ أظهرت تغيّراً مفاجئاً أثناء الرحلة الروحية. فباتت المنطقة المسؤولة عن التحكّم بالإحساس الموجود في الفصّ الجداري نشطة للغاية. ومهمة منطقة الإحساس هذه هي أن توضح لنا في كلّ وقت أين تنتهي حدود جسدنا وأين يبدأ العالم الخارجي. والجزء اليسار منها يمنحنا الشعور بالحدود الفيزياوية للجسد، والجزء الآخر المعادل له في جهة اليمين يعالج المعلومات المتعلقة بالزمان والمكان، أي المجال الذي يتحرّك فيه الجسد.
الذوبان في الله وتحتاج منطقة الإحساس دائماً إلى معلومات من أعضاء الحِسّ لغرض القيام بالعميات الحسابية. ويقول نيوبيرغ بأن "المتأمل يفصل حواسه عن العالم الخارجي، ومن المحتمل في هذه الحالة أن ينقطع تزويد الفصّ الصدغي بالغذاء اللازم". وإذا ما فقدت منطقة تعيين الإحساس اليسرى الغذاء المألوف فإنها لا تستطيع حينئذ تعيين الحدود بين الذات والعالم الخارجي. وفي هذه الحالة لم يبق أمام الدماغ خيار آخر سوى أن يعزز صلته أكثر فأكثر بصاحبه وفي كلّ شيء، ثم يدرك هذه الأشياء كلّها.
وبسبب فقدان المحفّز في منطقة التحكّم بالإحساس اليمنى فإن الإحساس بالزمان والمكان يختفي أيضاً، والشعور بالأبديّة واللانهائية الناتج عن ذلك يحسبه الشخصُ المتأمل شعوراً واقعياً تماماً. ويعتقد نيوبيرغ بأن هناك منطقةً دماغيةً أخرى تسمّى بالحصين "تقوم بتنظيم مجرى المعلومات العصبيّة بين المناطق المختلفة للدماغ كفتحة منفذ". وفي حالة التركيز العميق على الموجودات والكلمات والأفكار فإن الضغط الشديد على المناطق الأخرى تدفع مركزَ الانتباه في الدماغ على سبيل المثال، الحُصين، إلى قطع الغذاء عن الفصّ الجذري. ويطلق علماء اللاهوت العصبيّ على هذه الظاهرة عبارة "إيقاف التدفّق (الحسيّ) الوارد". وعلى الرغم من حالة "الغياب" المؤقت فإن منطقة التحكّم بالإحساس المستمرة في عملها تخلق انطباعاً بأن المرء يذوب في محيط واسع آبير. ووصفت الراهبة "سلسته" مشاعرها وهي في ذروة صلاتها التي استغرقت 45 دقيقةً بأن "حضور الله آان ملموساً، حتّى أنني شعرت بأنّ وجوده بات يخترقني". ومن الجدير بالذكر في هذا السياق هو أن الصور التي التقطها نيوبيرغ لها ولسبع من الراهبات الفرانسسكانيات الأخريات كشفت عن فارق نوعيّ ، مقارنة بالصور التي التقطت للمتأملين البوذيين. ولأن الراهبات تسلقن القمّة الروحية من خلال تكرار الآيات المسيحية فإن نشاط الدماغ بات مرتفعاً في مركز الكلام لديهم بالدرجة الأولى. وفي لحظة "الذوبان بالله" انطفأ ايضاً الضوء في منطقة التحكّم بالإحساس لديهن. ويجعل هذا التماثل احتمال أن تتجاوز لحظات الإدراك الدينيّ المرآّز – إذا ما نظرنا إلى هذا الأمر من ناحية بيولوجية عصبيّة – الفوارقَ القائمة بين الاتجاهات الدينية احتمالاً وارداً. وكلّ من يشكّ، بسبب نقص في تجاربه الشخصية، في أن هذا النظام المتناغم في الرأس الذي يبلغ وزنه مجرد ثلاثة أرطال، قادر على أن يتحفه بالخوارق الصوفيّة، فعليه أن يقوم بزيارة مايكل بيرسنغر في جامعة لاورنشن بكندا. فعالم النفس والأعصاب هذا يدعي بأن بمقدور كل شخص أن "يلتقي بالله"، إذا ما كان مستعداً لوضع جهاز يشبه الخوذة على رأسه. وهذا الجهاز يولّد حقلاً مغناطيسّياً خفيفياً يتحرك لمدة عشرين دقيقة ضمن إطار نموذج معقّد حول الدماغ، وبالأخص حول الفصّ الجداري. ووصف أربعة من خمسة أشخاص خضعوا لهذه التجربة مشاعرهم التي نشأت بفعل المحفزّات المنغاطيسية عبر الجمجمة بأنها مشاعر أكثر من طبيعية أو أنها مشاعر روحيّة. ووفق نظرية بيرسنغر فإن هذا الحقل المغناطيسي يولّد شرارات صغيرة من الانفعال الإلكتروني، على غرار النموذج المصغّر لبرق الأعصاب في أدمغة المصابين بالصرع الذين فحصهم راماجاندران. وهذه التيارات الانفجارية الصغيرة التي يطلق عليها مصطلح ، أي عابرات الفصّ الصدغي، تخلق شعوراً بوجود سلطة غير طبيعية، ملازماً للحظة اليقظة الروحيّة. بيد أن ليس على الله أن يخرج من الخوذة. فالتغيّرات الفسلجية – مثل انخفاض نسبة السكر في الدم، أو النقص في الأوآسيجين – أو المتاعب النفسية مثل حالات الخوف والكآبة، أو قلةّ النوم ببساطة، يمكن أن تولّد حالة من عدم الاستقرار الإلكتروني في الفصّ الصدغي. ويعتقد بيرسنغر بأن هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الناس يجدون طريقهم إلى الله أثناء المواقف الحياتية الحرجة. لكن يبدو أن الجينات تمارس أيضاً تأثيراً على الميل الفرديّ إلى هذه التيارات الانفجارية في الفصّ الصدغي..
فهل كان وميض الفصّ الصدغي هو الذي أنزل الوحي على بوذا عندما كان يجلس تحت شجرة التين؟ وهل أن الوصايا العشر لموسى لم تأته من الله، بل همست بها حزمة من الأعصاب الملتهبة في رأسه؟
وبالنسبة لبيرسنغر فإن الأمر واضح وهو أن "الدين ينشأ في أدمغتنا"، فنتجت عن هذه الفرضية الاستفزازية تهديدات بقتله. وآذلك الكرسي البابويّ لم يكن مسروراً بمساعي علماء اللاهوت العصبيّ الهادفة إلى العثور على قاعدة بيولوجية للإيمان الدينيّ. وبمثابة ردّ فعل على تقرير حول نشاط أندريو نيوبيغر وصف الأسقف إليو سغيريجيا، المتخصص في الشؤون البيولوجية الأخلاقية في الفاتيكان، فرضية أن الله "يسكن" فقط في أدمغة المؤمنين، وليس في أيّ مكان آخر، وصفها بأنها "نظرة ماديّة خاطئة للوجود الإنساني".
إلا أن نيوبيرغر بقي متماسكاً بارد الأعصاب أمام الاتهامات: "إذا كان الله موجوداً فعلاً، فأليس من المنصف تماماً أنه خلقنا لكي ندركه ونتمكن من الاتصال به؟"
بيد أن الإيمان سيبقى مقترناً بقضية الإيمان نفسها، مثلما كان الأمر في زمن نيشته، على الرغم من التوغلات في مجال المعايشات الدينية البيولوجية العصبيّة.
مصادر:
.2006\مجلة الدماغ والفكر. مجلّة لعلم النفس ودراسة الدماغ