الشكل 1: تنضغط الپلازما البدائية تحت تأثير الأمواج التثاقلية، وهذا الانضغاط كان سيغيّر من شكل سطح الكون. والنموذج الأول لم يأخذ هذه التشوّهات بعين الاعتبار. |
وهذا الكون لا يحتوي إلاّ على المادة والضوء وهما شكلٌ من أشكال الطاقة، إذ إنّ الكتلة والطاقة متكافئتان من خلال المعادلة E = mc
2. ويأتي الاختلاف بين المادة والضوء أساسا من الطريقة التي تعتمد بها كثافتاهما على حجم الكون، أي على عامل المقياس.
وتكون
الكثافة من أجل غاز طبيعي متناسبة عكسيا مع الحجم، ومن ثم تتناقص مثل
مكعّب مقلوب عامل المقياس. أمّا من أجل الضوء، فإنّ الأمور أكثر تعقيدا
بقليل، إذ يبقى عدد الفوتونات photons
ـ وهي «جسيمات» الضوء ـ في واحدة الحجوم يتناقص مثل مكعّب مقلوب عامل
المقياس، ولكنّ كلّ فوتون يتميّز بطول موجته الذي يزداد ـ مثله في ذلك
مثل جميع المسافات في الكون ـ مع تمدّد الكون واتّساعه. غير أنّ
الميكانيك الكمومي يعلّمنا أنّ طاقة الفوتون متناسبة عكسيا مع طول موجته،
ممّا يقتضي تناقُص الكثافة الطاقية لغازٍ من الفوتونات كمقلوب عامل
المقياس مرفوعا إلى القوة الرابعة، وهذا يعني أن كثافتها الطاقية تتناقص
بشكل أسرع من مثيلتها في المادة الطبيعية.
ومن
الضروري أخذ العلاقة بين الكثافة الطاقية وبين الضغط بعين الاعتبار في
قوانين التثاقل، ومن ثم ضمن الإطار الكوسمولوجي أيضا. ولنذكر ببساطة ـ
دون الدخول في التفاصيل ـ أنه عندما تتناقص الكثافة تتزايد قيمة الضغط.
ومن أجل الإشعاع (وهو شكل الطاقة الذي «يتمدّد ويترقَّق» بأسرع ما يمكن
مع تمدّد الكون واتّساعه)، فإنّ الضغط (مقدّرا بواحدات مناسبة) يساوي ثلث
الكثافة. أمّا من أجل المادة (التي تتمدّد وتترقَّق بشكل أقل سرعة من
الضوء)، فإنه يمكن إهمال ضغطها (وبسبب ذلك يستعمل المختصّون في النظرية
النسبية مصطلح «الغبار» لوصف «غاز المجرّات» ذي الضغط الداخلي المهمل).
لنذكر أخيرا أنّ الثابت الكوسمولوجي (الذي تخلّى <آينشتاين>
عنه في نهاية الأمر) إنّما يؤدي دورَ طاقةٍ ملازمةٍ للفضاء نفسه، لا
تتمدّد ولا تترقَّق مع اتّساع الكون، ومن هنا أتت تسميته بالثابت. وعلى
العكس من ذلك، تزداد قيمة «طاقة الخلاء» هذه كلما ازدادت كمّية الخلاء في
الكون! ومن أجل ذلك يكون ضغطُ طاقةِ الخلاء هذه سالبا (مساويا في القيمة
للكثافة الطاقية ولكن معاكسا لها في الإشارة)، فيكون أثره، ضمن إطار
النسبية العامة، توليدَ قوة تثاقل تبدو تنافرية. وهذا هو سبب عدم
الاستقرار الذي سبق ذكره.
لندَع الآن
جانبا الثابتَ الكوسمولوجي. إننا نجد أنه انطلاقا من هذين المكوّنين
البسيطين ـ الضوء والمادة ـ يمكن إعادة صياغة القسم الأكبر من تاريخ
الكون. وتحقّق الحدود العليا والسفلى ـ التي نعتقد أنّ قيم الطاقة والضغط
تتغيّر بينها ـ ما يدعوه الفيزيائيون ب«شروط الطاقة» المعقولة. وفي مثل
هذه الأوضاع ـ وهي ما تتوافق مع الكون الاعتيادي ـ تكون قوة التثاقل دوما
تجاذبية، ممّا يقتضي في كون فريدمان-لوميتر حتميةَ وجود لحظة في الماضي
كانت عندها قيمة عامل المقياس معدومة. ويعني هذا أنه في تلك اللحظة كانت
جميع نقاط الكون موجودة في المكان واحد! وكانت قيمة الكثافة الطاقية
حينئذ لا متناهية في الكبر، ومن ثم كانت معادلات النسبية العامة غير
قابلةٍ للاستخدام. ندعو مثل هذا الوضع تفردا singularity، وهي تعني أساسا أنّ النظريةَ تدلّنا على اللحظة التي تتوقّف فيها صلاحيتها عن العمل.
في
الحقيقة، لا يعتقد الفيزيائيون فعلا وجود لحظة من الماضي كان فيها حجم
الكون معدوما وكانت كثافته لا متناهية في الكبر. ومع ذلك يبدو أننا نعيش
في كونٍ في حالة تمدّد واتّساع انطلاقا من حالة ابتدائية كان حجمه فيها
صغيرا جدا، بينما كانت قيمتا كثافته الطاقية ودرجة حرارته بالغتي الكبر.
وهذه الصورة اللافتة للنظر هي التي قادت الفلكي البريطاني
ـ وهو من أشدّ المعارضين للنموذج المعياري للكوسمولوجيا المذكور أعلاه ـ
إلى إطلاق تسمية تحقيرية على النموذج هي «الانفجار الأعظم»... التي تمّ
اعتمادها من قبل خصومه.
عبور الصحراء(***)
لا
يمكن لبناءٍ نظريٍ ـ مهما بلغ جماله ـ أن يكون له مكان في حقل العلم ما
لم يكن قادرا على التنبّؤ بأمور دقيقة وقابلة للتحقّق. ومن أجل هذا لم
يُثِر نموذج الانفجار الأعظم ـ على الرغم من ملاحظات <هَبل> الفلكية ـ حماسةَ شديدة في المجتمع العلمي، وتُركت الكوسمولوجيا لمدة 40 سنة على حالها. وربّما يكون الفيزيائي الأميركي
هو الشخص الوحيد الذي حاول في عقد الثلاثينات أن يتوصل إلى تحقيق نتائجَ
قابلةٍ للملاحظة انطلاقا من النموذج، وذلك من خلال تطبيق مبادئ الفيزياء
النووية عليه. وقد تمثّلت فكرة <كامو>
ـ وهي لا تزال حتى الآن صحيحة تماما ـ بأنه إذا كان الكون اليومَ في حالة
اتّساع فهذا يعني أنه كان أصغر في الماضي. وكتحصيل الحاصل هذا ليس حقيقة
بديهية كما يبدو، إذ إنه يعني أننا لو عدنا إلى الوراء في الزمن بمقدارٍ
كافٍ، فإنّ شروطَ الحرارة والكثافة التي كانت مخيّمة في أرجاء الكون
مماثلةٌ لما نجده اليومَ من شروطٍ في قلب النجوم.
الشكل 2: تُعتبر خريطة إشعاع الخلفية الأحفوري مصدرَنا الأساسي للمعلومات عن تاريخ الكون. إنها تمثّل صورة للكون كما كان بعد نحو000 400 سنة من الانفجار الأعظم مملوءا بغازٍ كثيف وساخن (درجة حرارته نحو 3000 كلکن). نجد في الخريطة تراوحات طفيفة في الكثافة والحرارة (ممثّلة في الشكل بالألوان). وهي في أصل البنى الكونية الكبيرة اليومَ (المجرّات وتجمّعاتها). ويحدّد التوزيع الصحيح لهذه التراوحات قيمَ الوسائط والبارامترات الكوسمولوجية في نظرياتنا بدقّة مماثلة لما نجده في المجالات الأخرى من الفيزياء. ونتيجة لذلك تجدنا نتحدث من الآن فصاعدا عن كوسمولوجيا دقيقة علميا. |
في
ذاك العصر، يتعين على النوى الخفيفة مثل الهدروجين أن تخضع لعمليات
اندماج ينجم عنها ـ كما هو الحال في النجوم ـ نويً ثقيلة: يُدعى هذا
بالتركيب النووي البدائي. إنّ واقع تكوين الهدروجين للقسم الأعظمي من
الكون الحالي لا يرجع إلى أنّ هذه الشروط لم تدُم فترة طويلة فحسب، بل
كذلك لأنّ الفوتونات كانت متوافرة بمقدارٍ يكفي لتحطيم النوى الثقيلة
بشكلٍ أسرع من معدّل تكوّنها. وقد استنتج <كامو>
من هذا الأمر أنّ تلك الفوتونات لا بدّ وأن تكون قد بقيت إلى الآن تغمر
الكون برمّته، وذلك على الرغم من أنّ طاقتها خفَّت بفعل تمدّد الكون ولم
تَبْقَ على قيمها القديمة. وبالنتيجة توقَّع <كامو>
أن يكون باستطاعتنا أسر مثل هذا الإشعاع في جميع الاتجاهات في السماء،
أو أنّه هناك في جميع الأمكنة إشعاعٌ كالمستحاثات تُقدَّر درجةُ حرارته
ببضع درجات كلکن لا غير.
لقد تمّ نسيان تلك النبوءة لغاية عام 1965 عندما اكتشف و [من مختبرات بيل] هذا الإشعاعَ بدرجةِ حرارةٍ مساويةٍ ل2.73 كلکن (الشكل 2).
وفجأة أضحت الكوسمولوجيا علما قادرا على التنبّؤ، وسمحت إعادة الاهتمام
بها بالتأكّد من سلسلة نبوءات أخرى. وبشكل خاص تمّ البرهان على توافق
الحسابات النظرية مع الملاحظات الفلكية في أنّ الكون عند نهاية طور
التركيب النووي البدائي ـ الموافق للدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون ـ
كان يتكوّن كيميائيا من هدروجين بنسبة 75% وهليوم بنسبة تقارب ال25%.
ثلاث صعوبات هزّت النموذج(****)
وهكذا بدفعة واحدة ـ توقّفت مسألة «التفرد البدئي» the initial singularity
عن كونها مجرّد عيبٍ رياضياتي في النموذج لا أهمية له، لتغدو لغزا
حقيقيا. ونعتقد اليوم أنه في حالة الطاقات العالية جدا والحجوم الفائقة
الصغر ـ من مرتبة ما يُعرف بمقياس پلانك ـ تبطل تلقائيا صلاحية النسبية
العامة، لأنّ الآثار الكمومية التي لا تأخذها تلك النظرية بعين الاعتبار
تصبح عند هذه المقاييس مهمة بحيث لا يمكن إهمالها. ولسوء الحظ، لا توجد
لدينا نظريةٌ كمومية للتثاقل قادرة على أن تحلّ محل النسبية العامة عند
هذه المقاييس. لم يُثِر فشلُ <آينشتاين>
في إيجاد مثل هذه النظرية الجهودَ لحلّ المشكلة في السنوات التالية
لظهورها. ولكنّ الأمور الجديدة التي طرأت على الكوسمولوجيا أسهمت في
إعادة إطلاق جهد نظري يُتابع اليوم.
وسرعان
ما ظهرت نقطةُ عدمِ انسجامٍ أخرى، كانت مقلقة في بعض مظاهرها أكثر من
النقطة السابقة. إننا نعلم أنّ للكون بداية، إذ إنّه وُلد من خلال
انفجارٍ أعظم قبل حوالي الـ 15بليون سنة. ومن ناحية أخرى، يتحرّك الضوء بسرعة كبيرة (300000
كم في الثانية)، ولكن ليس بشكل آني. وهكذا، فنحن لا نرى الأجسام الفلكية
كما هي «الآن»، بل كما كانت عند إصدارها للضوء: وكلّما نظرنا إلى مناطق
أبعد عدنا أكثر إلى الوراء في الماضي. ونتيجة لذلك لا يمكننا رؤية أيّ
جسمٍ يبعد عنا أكثر من 45 بليون سنة ضوئية (وهي ما يوافق ال15
بليون سنة زمنية، بعد أن نأخذ بعين الاعتبار تمدّد الكون واتّساعه مع
مرور الزمن)، وذلك لأنّ الضوء الصادرَ عن النجم لم يُتَح له الوقت الكافي
منذ ولادة الكون كي يصل إلينا. ويمثّل هذا الحدُّ الأفقَ الكوسمولوجي
(الكوني) the cosmologic horizon، وهو أفق يزداد ابتعادا في الزمن مع تقدّم عمر الكون.
وبالفعل،
يصبح الكون الفائق البعد ـ ومن ثم الموغل في القدم ـ بعيد المنال عن
أجهزة القياس عندنا قبل بلوغه الأفق الكوسمولوجي. ففي الواقع، عندما
نوجّه أنظارنا إلى مسافات بعيدة، فإنها تصطدم بالكون الشابّ المملوء
بالغاز الكثيف ـ الحارّ والمضيء ـ الذي وصفه <كامو>.
ومثلما هي حال سطح الشمس، كان هذا الغاز عاتما تماما، ممّا يعوق رؤية
أيّ شيءٍ يقع «خلفه» (أي «قبله»). وأعماق السماء مغطاة بصورة هذا الغاز
الابتدائي المحترق، وهذه القوقعة الكروية ـ التي تُدعى ب«سطح الانتثار
الأخير» ـ هي ما يرسل إلينا الإشعاع الأحفوري الذي اكتشفه <پينزياس> و<ويلسون>
(لقد جرى مطّ هذا الإشعاع ـ الذي كان مرئيا في البداية ـ بفعل تمدّد
الكون واتّساعه، بحيث وَصَلَنا اليوم على شكل أمواج ميكروية غير مرئية).
لندخل
في اعتبارنا نقطتين في القبّة السماوية تقعان مثلا عند قطبين متقابلين
قطريا. عندما أصدرت هاتان النقطتان إشعاعيهما الأحفوريين، كانتا بعيدتين
إحداهما عن الأخرى عدّة عشرات الملايين من السنين الضوئية. وواقع الحال
أنه في ذلك الزمن كان الأفق الكوسمولوجي (الكوني) صغيرا جدا (من رتبة بضع
مئات من آلاف السنين الضوئية)، لأنّ الكون كان في بداية شبابه. فكيف
أمكن لهاتين النقطتين أن تتّفقا على درجة الحرارة نفسها (2.73 كلکن) ـ باختلافات من رتبة واحد من 100000 ـ
في حين لم يتح الوقت اللازم لأي إشارة فيزيائية للانتقال بينهما؟ لقد
كانت هذه صعوبة جديدة واجهت النموذج المعياري، وقد عُرفت باسم مسألة
الأفق.
الشكل 3: تعتمد القواعد الهندسية التي تحكم شكلَ الرسوم التي نرسمها فوق سطحٍ ما على تقعر هذا السطح. فإذا كان التقعر معدوما صحّت قواعد الهندسة الإقليدية التقليدية وكان مجموع زوايا المثلث مساوٍيا دائما لـ 180درجة (a). وإذا كان التقعر سالبا نقص مجموع زوايا المثلث من 180 درجة (b)؛ أما إذا كان التقعر موجبا (حالة الكرة) فيكون هذا المجموع أكبر من 180 وتعتمد قيمته على مساحة المثلث (c). وبالمثل، تتباعد المستقيمات المتوازية في حالة كون السطح زائديا hyperbolic، وتتقارب في حالة كون السطح كرويا spherical. |
ولم
تنته الأمور عند هذا الحدّ، فقد وجد علماء الكوسمولوجيا أنفسهم ـ بعد
مسألتي التفرد الابتدائي والأفق ـ يواجهون مسألة عويصة ثالثة عُرفت باسم
مسألة الانبساطplatitude. ومن أجل
فهم هذه المسألة لنتذكّر أنّ الخصائص الهندسية لسطحٍ ما تعتمد على تقوسه
الذي يمكن لقيمته أن تكون موجبة أو معدومة أو سالبة (انظر الشكل 3).
تؤّكد النسبية العامة أنّ المكانَ الكوني يأخذ أحد هذه «الأشكال» الثلاثة
وفقا لكثافته المادية والطاقية، فإذا كانت قيمتها مساوية لقيمةٍ معطاة
حرجة، فإنّ المكان «مستويا» تصحّ فيه قواعد الهندسة الإقليدية التقليدية
على جميع المقاييس. أمّا إذا كانت قيمة كثافة المادة والطاقة أصغر من
الكثافة الحرجة، فيكون تقعر المكان سالبا، في حين يصبح الأخير موجبا إذا
فاقت الكثافة في الكون قيمةَ الكثافة الحرجة. وتبيّن المعادلات كذلك أنه في
حالة توسع الكون، فإنّ انحراف الكثافة عن قيمة الكثافة الحرجة ولو قليلا
سوف يجعلها تميل إلى الابتعاد أكثر عنها: أيْ إنّ أيَّ اختلاف في البداية
عن «الانبساط» سرعان ما يتضخّم، وهذا الكلام صحيح على الأقلّ في حال احتواء
الكون على المادة الطبيعية والضوء لا غير. وواقع الأمر أنّ الملاحظات
الفلكية تبيّن أنّ كوننا لايزال اليومَ ـ وبعد مرور 15
بليون سنة من التمدّد والاتّساع الكونيّين ـ «مستويا» من الوجهة العملية.
إذن يقودنا ذلك إلى الافتراض الكيفي أنّ الكون كان في البدء في حال
«انبساط» كامل غريب، وهذا على الرغم من غياب أيّ سببٍ ظاهر لذلك، خاصة إذا
ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ كميتي المادة والإشعاع اللتين نلاحظهما اليوم
في الكون غيرُ كافيتين لبلوغ الكثافة الحرجة (وهذه نقطة سنعود إليها
لاحقا).
مكوِّنٌ جديد: التضخّم(*****)
في أواخر سبعينات القرن العشرين ظهرت فكرة جديدة، وكان فيزيائيو الجسيمات هم الذين اقترحوها أول مرة؛ إذ اقترحها و و في عام 1978، ثم عام 1979، وأخيرا وضع و ـ وبشكل مستقلّ أحدهما عن الآخر ـ أسسَ ما يُعرف اليوم بِ«النموذج التضخّمي».
وتكمن الفكرة فيما يلي: يهتمّ النظريون في فيزياء الجسيمات بدراسة حقولٍ افتراضية تخيّلها أولا الفيزيائي لحاجتهم إليها في نظرياتهم (خاصة في نظريات التوحيد العظيم). وتتكوّن هذه الحقول ـ التي تُدعى بالحقول السلّمية scalar fields
من جسيماتٍ لم نكتشفها بعد، وذلك بشكل مطابق لتكوّن الحقل الكهرومغنطيسي
عند مقاييسه الكمومية من الفوتونات. وواقع الحال أنّ لهذه الحقول ميزة
خاصّة جدا، وهي أنه عند درجات الحرارة أو الكثافات العالية جدا تستطيع
التراوحات الحرارية أن تجعل تلك الحقول موضعيا في حالةٍ لا تتغيّر فيها
الكثافة الطاقية مع تمدّد الكون واتّساعه إلاّ بشكل طفيف للغاية.
لقد
سبق لنا أن أشرنا إلى أنّ الطاقة التي تبقى كثافتها ثابتة مع ازدياد حجم
الكون لا تحقّق «شروط الطاقة» المعقولة، بل تسلك لحظيا سلوك الثابت
الكوسمولوجي الذي تخيّله <آينشتاين>.
وتُشكّل هذه «المادة» التي لا تتمدّد ولا تترقّّق ـ من الوجهة العملية
على الأقل ـ طاقة مرتبطة ذاتيا بالخلاء تتميّز بتوليد نوعٍ من التثاقل
تنافري جدا. وتنجم عن ذلك نتائج مهمة جدا في علم الكوسمولوجيا.
لنتخيّل
أنه عند الأطوار الأولى من عمر الكون ـ عندما كان بالغَ الكثافة
والحرارة ـ كانت هناك مناطق من الفضاء محدودة جدا، بل فائقة الضآلة في
الحجم مرّت بشكل عارض تحت الشروط التي يسلك معها حقلٌ سلّمي من النوع
الذي ذكرناه سلوكَ الثابت الكوسمولوجي. وفجأة، في هذه المناطق، سيزداد
أُسِّيا عامل القياس. ولتوضيح هذه الفكرة وتثبيتها يمكن أن نقول إنّ قيم
المسافات قد تضاعفت 1050 مرّة خلال جزءٍ فائق الصغر من الثانية. وإنّ طور phase التوسع المتسارع هذا هو ما ندعوه بالتضخّم inflation.
في هذه الحالة، لهذه المنطقة وخلال هذا الطور، تميل الكثافة الطاقية إلى الاقتراب من الكثافة الحرجة على عكس السلوك «السويّ» normal
الموافق للتوسع والذي تبتعد فيه الكثافتان إحداهما عن الأخرى. وبلغة
هندسية، يُماثل الوضعُ هنا حالَ كرةٍ قمنا بنفخها بمعدل كبير: سيغدو
سطحها مستويا تقريبا وذلك بالنسبة إلى مراقبين يعيشون على هذا السطح.
ومهما كانت قيمة التقوس الابتدائي، فأي تضخّم انفجاري كهذا لن يولّد
عمليا تقوسا ظاهرا إلى حد أنه بعد مرور بلايين السنين، لن يكون لبروز
التقوس بسبب التوسع «السويّ»، الذي تتحكم فيه المادة والطاقة العاديتين،
أيُّ أثرٍ ملحوظٍ. وهذا ما يحلُّ مسألةَ الانبساط.
الشكل 4: تدور المجرّات الحلزونية (مثل مجرّة NGC 5194) حول مراكزها. في أوائل السبعينات من القرن الماضي، تبيّن أنّ النجوم المحيطية في أطراف المجرّة تدور بشكل سريعٍ جدا لا يتّفق مع قيمة كتلة المجرّة اللازمة لتماسكها معها، على الأقلّ مع تقدير القيمة الأخيرة انطلاقا من المادة المرئية الظاهرة على صور المجرّة. ومن أجل تفسير استقرار المجرّات الحلزونية لزم أن نفترض أنها تحتوي على مادة معتمة تزيد10 أضعاف مقدارَ المادة المرئية، وأنّ هذه المادة المعتمة تتوزّع ضمن هالةٍ لها خصائص قابلة للتعيين بدقة. |
أمّا
مسألة الأفق فهي تُحلّ وبشكل أسهل أيضا. ففي الإطار التضخّمي، لا يشكّل
كوننا المرئي إلاّ جزءا طفيفا من منطقةٍ تكون في البداية صغيرة كفاية من
أجل تحقيق فرضية التجانس homogeneity، وعندما تدخل هذه المنطقة طور التضخّم لاحقا، فإنها تبقى محافظة على تجانسها.
لنذكر أخيرا أنّ التضخّم ـ كما بيّن وآخرون عام 1981
ـ لا يسمح بإيجاد حلول لأسئلة عالقة فحسب، فقد ساعد أيضا علماء
الكوسمولوجيا على فهم الاضطرابات في الكون الأوليّ. في الحقيقة، إذا كان
الكون كامل التجانس، فإنه لا يمكن تفسير حقيقة كون المادة فيه هي اليوم
موزّعة على شكل «عناقيد» كثيفة (المجرّات وتجمّعاتها) تفصل بينها مسافات
شاسعة من الخلاء. إذن، لا بدّ من أن توجدَ في الغاز الأوليّ ـ المتجانس
في عموميته ـ اضطراباتٌ صغيرة في الكثافة تفيد كبذورٍ لنمو مثل هذه البنى
والتشكيلات. وفي الواقع، يؤكّد الميكانيك الكمومي أنّ جميع المقادير
الفيزيائية عند المقاييس الصغيرة جدا تصيبها دائما تغييرات عشوائية صغيرة
(بغياب مثل هذه التراوحات يمكن معرفة تلك المقادير الفيزيائية بدقة
تامة، ممّا ينتهك مبدأ الارتياب ل<هايزنبرگ>).
وفي المنطقة الصغيرة التي نشأ عنها كوننا بلغت هذه التراوحات الكمومية ـ
في اللحظة التي بدأ بها التضخّم ـ حجما كوسمولوجيا معتبَرا.
وهذه
التراوحات في قيم الكثافة ودرجة الحرارة يمكن رصدها الآن في الإشعاع
الكوسمولوجي. وحديثا تمّ رسم خريطة خلفية السماء الميكروية (سطح الانتثار
الأخير) بدقة كبيرة جدا باستخدام المسبار الأمريكي WMAP،
وقد أكّدت هذه الأرصاد السيناريو الذي وصفناه أعلاه. ويمكن التنبّؤ كذلك
بأنّ التراوحات الكمومية المُتضخّمة خلال طور التضخّم قد ولّدت إشعاعا
تثاقليا لا يزال يغمر الكون. ووفقا للنسبية العامة، فإن الزمكان مماثلٌ
لقالبٍ من الجلاتين قابلٍ للتشوّه، ومن هنا نستطيع أن نتخيّل الأمواج
التثاقلية بصورة اهتزازات يمكنها تحريك القالب وقلبه في بعض أجزائه (انظر
الشكل 1). والمسبار الأوروبي پلانك Planck قادر على تمييز آثار هذا الإشعاع على خريطة سطح الانتثار الأخير بشكل أكثر دقة من المسبار WMAP. وأخيرا إذا ما أقرّت وكالة الفضاء الأوروبية إطلاق جهاز التداخل الفضائي ليزا LISA بحلول العام 2012،
فسيكون لدينا طريقةٌ لاكتشاف الأمواج التثاقلية البدائية مباشرة. لقد
أصبح التضخّم جزءا لا يتجزّأ من النموذج المعياري للكوسمولوجيا... مع
أننا لا نزال بعيدين جدا عن حلّ جميع المسائل العالقة!
مفاجأة كبيرة(******)
قبل
كلّ شيء، لا بدّ من الإقرار بأننا تجاهلنا منشأ ذلك الحقل السلّمي الذي
أصبحت الكوسمولوجيا تعتمد عليه بشكل وثيق. وفي الحقيقة هناك كثيرٌ من مثل
هذه الحقول في نظريات فيزياء الجسيمات لم تُكتشف قط حتى الآن، ولكن كيف
يمكننا معرفةُ أيٍّ منها يمتلك الميّزات المطلوبة تماما لتجعلَ النموذجَ
الموافق لها واقعيا؟ من المتّفق عليه اليوم أنه في كثيرٍ من النظريات
(المختلفة فيما بينها) هناك حقلٌ يمكن مطابقته مع حقل «المضخِّم»، بل لقد
أصبح شرطُ وجود حقلٍ يمكنه تأدية دور المضخِّم أساسيا في اختيار النظرية
الموافقة لفيزياء الطاقات العالية.
الشكل 5: جرى حساب كيفية توزّع المادة المعتمة (اللون الأزرق) التي تغمر حشدًا لمجرّات 1E 0657-56 من خلال دراسة كيف يحرف هذا الحشد الأشعة الضوئية الصادرة عن نجوم تقع خلفه (يمثّل اللون الوردي إصدار الأشعة السينية من قبل الغاز الحارّ). إنّ الحشد الكلي هو الذي نجم عن اصطدامٍ جبهي بين حشدين أصغر حجما مؤلّفين من مجرّات مع هالاتها من الغاز والمادة المعتمة. في الحقيقة، لا تصطدم المجرّات ببعضها، بل يجري اجتياز الحشدين، كما لو كانا أشباحا. ويبدو أنّ المادة المعتمة غير حسّاسة للتصادمات. |
إضافة
إلى ذلك، بلغت الملاحظات الفلكية في يومنا الحاضر ـ خاصة خرائط الخلفية
للإشعاع الأحفوري ـ درجة من الدقة قابلة للمقارنة بمجالات العلوم
الفيزيائية الأخرى، وغدت مثل هذه الدقة أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها.
ولكن
ما لبثت أن ظهرت صعوبات جديدة. أولا، يبدو أنّ المادة الطبيعية غير
موجودة بشكلٍ كافٍ لكي تتوافق مع بعض الحقائق. فعلى سبيل المثال، إنّ
التراوحات البدائية صغيرةٌ جدا ولا يمكنها تفسير السرعة التي تكوّنت بها
البنى والتشكيلات الكبيرة. لهذا السبب ـ إضافة إلى أسباب أخرى ـ يلزمنا
إضافة مركِّبة جديدة، تُدعى ب«المادة المعتمة» dark matter أكثر شيوعا ب20 مرة من المادة العادية؛ فمن أصل المادة التي نلحظ آثارها الديناميكية في الكون لا تتجاوز نسبة المادة «العادية» مقدارَ ال5%،
بينما يتكوّن الباقي من هذه المادة المعتمة التي نجهل مكنونها... أي
تقريبا مجمل المادة في الكون هو مادة معتمة (انظر الشكلين 4 و 5).
وقد تبيّن لنا حديثا أنّ المادة ـ سواءٌ أكانت معتمة أم عادية ـ لا تشكِّل بذاتها إلاّ 30% من محتوى الكون. وتُعزى نسبة ال70% المتبقيّة إلى شكلٍ آخر من الطاقة. ولا يساعدنا الضوء إطلاقا هنا، إذ إنّ إسهامه لا يتعدّى ال.0.01% فما هي هذه الطاقة التي تُدعى بدورها طاقة «معتمة» (أو مظلمة)، وكيف نعرف أنها موجودة؟
في عام 1998، حصلت ثورة صغيرة في عالَم الكوسمولوجيا. فقد أعلن فريق مشروع السوپرنوکا الكوسمولوجي(8) وفريق البحث عن السوپرنوکا بانسحاب طيفي كبير(9)
أن معدّل توسّع الكون يتسارع بدلا من أن يتباطأ، أي عكس ما كنّا نظن
سابقا. وقد اهتم أعضاء هذين الفريقين بالسوپرنوکا من النوع الأول (SN1a)،
وهي انفجاراتُ نجومٍ تحصل في نظمٍ فلكيةٍ ثنائية معيّنة، ولدينا أسبابٌ
وجيهة للاعتقاد أنّ جميع انفجارات السوپرنوکا هذه لها خصائص متماثلة
(انظر الشكل 6). بشكل خاص، من
السهل معرفة السطوع المطلق لهذه السوپرنوکا، ومن ثم يكفي قياس سطوعها
الظاهري لحساب بعدها عنا. ومن ناحية أخرى، نعرف كيف نحسب سرعة ابتعادها
عنا (كلّما كانت السرعة كبيرة، انزاح ضوؤها أكثر نحو الأحمر بسبب «مفعول
دوپلر»). وأخيرا تتميّز هذه السوپرنوکا بكونها بالغة السطوع وبقائها
مرئية على مسافات كوسمولوجية. وفي الحقيقة، إنّ النظر بعيدا يعني ـ كما
سبق ذكره ـ النظر في الماضي. فدراسة سرعة ابتعاد سوپرنوکا بعيدة تسمح،
إذن، بإعادة صياغة تاريخ معدّل التوسع الكوني، أي التطوّر الزمني لثابت
هَبل. لقد كانت نتيجة عام 1998 ـ
والتي جرى لاحقا التحقّق منها كثيرا ـ قاطعة لا لبس فيها: هناك نوعٌ من
الطاقة «لا يتمدّد ولا يترقَّق إلاّ قليلا أو أبدا»، وهو مسؤولٌ عن تسارع
توسع الكون بشكلٍ شبيه لما حصل في زمن التضخّم، وإن كان ذلك بمعدّل أبطأ
لحسن الحظ.
الشكل 6: تُزوّدنا السوپرنوکا البعيدة (الأسهم) ـ وهي انفجارات نجومٍ ساطعةٍ جدا لدرجة أنها تبقى مرئية حتى لو كانت على مسافات بعيدة من رتبة أبعاد كوسمولوجية ـ بمعلومات عن تاريخ توسع الكون. إنّ ضوء المجرّات التي تحدث السوپرنوکا فيها ينزاح أكثر نحو الأحمر كلّما ازدادت سرعة ابتعادها عنا. ويسمح لنا قياس السطوع الظاهري الأشدّ أو الأخفّ للانفجار ـ كما يبدو لنا من الأرض ـ بتقدير المسافة التي تفصله عنا. وحيث إنّ النظر إلى الأشياء الأبعد يعني نظرا إلى الأقدم في الماضي، فإننا بذلك نقدّر سرعة ابتعاد المجرّات عنّا في عصورٍ مختلفة. |
تمثّل كثافة الطاقة المعتمة اللازمة لتفسير هذا التسارع نسبةَ 70%
من الكثافة الطاقية الكليّة للكون. من ناحية أخرى ـ وبشكل مستقل تماما ـ
فإن هذه الفرضية ضرورية لتفسير توزّع تباينات الخواص باختلاف المحور
(تغايرات الخواص) في خلفية الإشعاع الكوني المنتثر. وأخيرا، يتحدّد الحجم
الظاهري لهذه التباينات في خلفية السماء جزئيا من خلال الهندسة
الإجمالية لمنطقة الفضاء التي تفصلنا عنها، حيث يمكننا القول إنه إذا لم
يكن تقوس هذه المنطقة معدوما؛ لسلكت سلوكَ عدسةٍ تغيّر من صورة هذه
التباينات. فهذا الحجم الظاهري يزودِّنا بأداةٍ لقياس الكثافة الطاقية
الكلية في الكون بشكل غير مباشر، ويبدو مرة أخرى أنّ كمّيتي المادة
المعتمة والعادية لا تمثّلان أكثر من 30% من
القيمة المحسوبة. وهذه القياسات الثلاثة ـ المستقلّة عن بعضها ـ تتّفق
فيما بينها بشكلٍ مذهل، ممّا يؤكّد حقيقة وجود الطاقة المعتمة.
النموذج الكوسمولوجي الجديد(*******)
من
الآن فصاعدا، تعتبر غالبية علماء الكوسمولوجيا أنّ السيناريو الأكثرَ
احتمالا (أو ما يُعرف بالنموذج الكوسمولوجي «الوفاقي») هو التالي: منطقة
متجانسة وصغيرة جدا في كونٍ فائقِ الكثافة تدخل فجأة في طورِ تضخّمٍ
أسّيّ إلى أن تبلغ حجما أكبر بكثير من حجم كوننا المرئي. وقد تبعت هذا
الطورَ فترةُ إعادةِ تسخينٍ أُنتِج خلالها الإشعاع والمادة، وهما ما
يشكّلان المحتوى الحالي للكون الذي لا يزال قسم كبير منه مجهولا بالنسبة
إلينا. وقد سلك الكون بعدها ـ ولفترة تساوي تقريبا عشرة بلايين سنة ـ
سلوكَه في النموذج المعياري القديم ذي التمدّد والاتّساع اللذين يبطئهما
التثاقل. في البدء، كان الإشعاع هو المهيمن على محتوى الكون، وكان كثيفا
جدا بحيث منع استهلاك مجمل الهدروجين خلال عملية التركيب النووي البدائي،
وأمّن كذلك وجود الوفرة النسبية للعناصر بالقيم التي نراها اليوم. بعد
ذلك ـ وحيث إنّ الكثافة الطاقية للإشعاع تنقص بشكل أسرع من الكثافة
الطاقية للمادة ـ أخذت هذه الأخيرة شيئا فشيئا تحتل مكان الصدارة.
وبعد ذلك بقليل (حوالي 400000
سنة بعد الانفجار الأعظم)، صارت درجة حرارة الپلازما البدائية منخفضة
بشكلٍ كافٍ بحيث تأسر نوى الهدروجين والهليوم الإلكترونات وتُشكِّل غازا
شفّافا وعديم الشحنة. والإشعاع الصادر وقتها ـ والذي تستمر درجة حرارته
بالانخفاض إلى اليوم ـ يشكّل منذ ذلك الحين إشعاعَ الخلفية الكوني
المنتثر ذا درجة الحرارة 2.73 كلکن. فإشعاع الخلفية هذا يمثل، إذن، صورة لحظية للكون كما كان بعد الانفجار الأعظم بنحو 400000
سنة. وقبل نحو خمسة بلايين سنة بدأت الأمور تتغيّر من جديد، إذ إنّ نوعا
مجهولا من الطاقة (نسميه الطاقة المعتمة) ـ كان يؤدي دورا مهملا حتى ذلك
الوقت ـ أصبح هو المسيطر، لأنّ كثافته الطاقية تتناقص بشكلٍ أبطأ حتى من
كثافة المادة. وخصائص هذا النوع من الطاقة تشبه تلك المميّزةَ للثابت
الكوسمولوجي، لذا ابتدأ توسّع الكون بالتسارع.
يسمح
هذا النموذج بالتنبّؤ بجميع الملاحظات الفلكية الموجودة، ولكنه يطرح
بدوره أسئلة جديدة. فنحن مثلا لا نعرف ماهية المادة المعتمة، ولا منشأ
الطاقة المعتمة، كما لا نعرف طبيعة الحقل الذي أدى دور المضخِّم. ولهذه
الأسئلة غالبا عديدٌ من الإجابات الممكنة... وهذا يعني إجاباتٍ أكثرَ من
اللازم.
كيف يمكننا مواصلة تحسين النموذج المعياري للكوسمولوجيا؟ عبر الاتّجاه ناحية فيزياء الجسيمات. فمنذ 30
سنة يختبر الفيزيائيون نموذجهم المعياري لفيزياء الجسيمات بدقةٍ كبيرةٍ
في المسرِّعات الضخمة. وتستند غالبية هذه التحسينات إلى افتراض وجود
تناظرات جديدة، مثل النظريات الكبرى التي تقول إنّ ثلاثا من قوى الطبيعة
الأساسية الأربع ـ وهي القوة الكهرومغنطيسية والضعيفة والشديدة ـ تنصهر
لتصبح قوة واحدة عند الطاقات العالية جدا، أو مثل التناظر الفائق الذي
يقرن بكلّ جسيمٍ موجودٍ شريكا فائقا له ذا خصائص مختلفة. وضمن هذه
الفرضية الأخيرة من الممكن مثلا أن تكون جميع الجسيمات الفائقة التناظر ـ
التي تمّ إنتاجها بكمّيات كبيرة خلال فترة إعادة التسخين التي تلت
التضخّم ـ قد تحلّلت وتفكّكت إلى جسيمات عادية، ممّا يعلّل عدم ملاحظتنا
إلى الآن أيَّ جسيم فائق الشراكة.
فيزياء الجسيمات في نجدة الكوسمولوجيا(********)
إذا كان الشريك الفائق الأخفّ ـ والذي ندعوه بالجسيم الفائق التناظر الأخفّ(10) (LSP)
غيرَ قادرٍ على الانحلال بهذه الطريقة، فمن المحتمَل أن تبقى إلى الآن
كميات كبيرة منه يمكن حسابها من حيث المبدأ. والنقطة المهمة هنا هي أنه
على الرغم من عدم وجود أيّ علاقة سابقة بين نظريات التناظر الفائق
والكوسمولوجيا، فإننا نلاحظ أنّ حساباتها تعطي نسبا للمادة المعتمة قريبة
جدا من النسب الملاحَظة. صحيحٌ إنّ الأمر يستلزم ضبطَ بارامترات معيّنة
في النظرية من أجل إعطاء القيم الملاحَظة تماما، ولكن أن تكون القيم
المحسوبة تلقائيا من مرتبة الكبر نفسها للقيمة الملاحَظة لَهُوَ أمرٌ
لافت للنظر. ويبدو أنّ الجسيم LSP هو من أحسن الجسيمات المرشَّحة لتفسير وجود المادة المعتمة.
من
ناحية أخرى، إنّ الحقول السلمية موجودة في جميع هذه النظريات، وإذا كان
بعضها قد استطاع تأدية دور المضخِّم عند الطاقات العالية، فإنّ حقولا
سلّمية أخرى قد تكون ـ على العكس ـ قد انتظرت طويلا قبل أن تبدأ آثارها
بالظهور، وبذلك قد تكون جزءا من تلك الطاقة المعتمة اللغز، أو حتى من
الممكن أن تكون قد سلكت سلوك ضوءٍ أو مادة قبل تغييرها لسلوكها حديثا.
وتؤدي هذه الحقول ـ التي تدعى بحقول الجوهر الخامس(11) Quintessence إلى توليد توسع متسارع من دون إدخال ثابت كوسمولوجي. وفي هذا الإطار، يُفترض أن قيمة هذا الثابت تساوي الصفر.
منذ
عقود عدة يعتقد كثيرون أنّ النظرية النهائية ليست مبنية على أساس
جسيمات، بل بالأحرى على أوتار صغيرة مهتزّة. وهذه الفرضية تبدو بلا أهمية
جوهرية، ولكنها في الحقيقة تقتضي تغييرا جذريا في الفيزياء الأساسية عند
الطاقات العالية جدا. تستطيع نظرية الأوتار الفائقة القيام ببعض
التنبّؤات، ولكنها للأسف تتنبّأ بأنّ عدد الأبعاد الممكنة للزمكان مساوٍ
لعشرة... وهذا بعيدٌ إلى درجة كبيرة عن الأربعة أبعاد التي نلاحظها! ومع
ذلك يمكن لهذه الأبعاد الإضافية أن تكون موجودة، شريطة أن تكون «متراصّة»
بشكل كافٍ ولا تتجاوز في طولها المسافات الميكروية، وهذا ما يجعلنا لا
نراها (بعكس الأبعاد الممتدة الأربعة التي نحن معتادون عليها). وضمن مثل
هذه النظريات توجد أشياء متنوّعة قادرة على الحركة في فضاء الأبعاد
الإضافية، في حين تبدو في «عالَمنا» ذي الأبعاد الأربعة مثل حقول سلّمية.
ويمكننا عندها مطابقتها بحقل المضخِّم أو بحقل الجوهر الخامس.
يمكننا
أيضا أن نتخيّل أنّ الأبعاد الإضافية ممتدةٌ مثل الأبعاد الاعتيادية،
وأنّ عدم مشاهدتنا لها يعود إلى كونِنا نعيش محتجَزين في فضاءٍ مكاني
ثلاثي الأبعاد طافٍ ضمن هذا الكون الأكبر، مثله في ذلك مثل راية تخفق في
الهواء. ندعو هذا المكان باسم العالَم الغشائي brane، حيث المصطلح الأجنبي مشتقّ من كلمة غشاء membrane. ومرة أخرى يُستدلّ على وجود الفضاء الكبير الذي يسبح داخله كوننا من خلال حقولٍ سلّميةٍ قادرةٍ على تفسير الملاحظات والأرصاد.
إنّ
قائمة النظريات البديلة طويلة، وهي لا تنفكّ تزداد بانتظام مع بزوغ
نظريات جديدة. وحاليا يمكن القول إن جميع النظريات التي تجتاز بنجاح
اختبار التحقّق من البيانات التجريبية الموجودة، تحتوي على طور تضخّم.
ولكنْ من يعرف؟ لا شيءَ يستبعد أن تأتي نظرية بديلة ـ مثل فرضية الكون
السابق للانفجار الأعظم (ما قبل الانفجار الأعظم أو الارتداد البدائي)
التي اقترحها بعض أصحاب نظرية الأوتار ـ يمكن لها أن تنجح في الاختبار من
دون افتراضها لوجود طور الاتّساع الأسّي هذا. وطالما ظلّت المشكلات
قائمة، علينا اعتبار جميع الحلول الممكنة بجدّية، حتى ولو كان ذلك ـ على
الأقلّ ـ لتأكيد نموذجنا الحاضر.
الأحد نوفمبر 06, 2011 12:46 pm من طرف سميح القاسم