ربما
يتذكّره البعض. كان نموذجه متوفراً في المدارس والأحياء. غالباً ما يكون
ابناً لعائلة حديثة العهد بالنعمة، أفسده الدّلال، فغدا ذاك الفتى المتعجرف
النزق الذي لا ميّزات أخرى له سوى تلك التي تجعل منه طفلاً لا يُطاق، وفي
مقدّمتها الغباء. هذا فضلاً عن ميزة أخرى، لا تتعلق به مباشرة، بل بأبيه
الذي يغتني بسرعة خياليّة!
ربما يتذكّره بصورة أوضح أولئك الذين أصابهم الشيء الكثير من عدوانيته
ونزقه و«طفالته»: يريد كلّ شيء. نظير هذا الطفل السمج اليوم، ليس طفلاً
آخر، بل «نظام» يحكم بلداً بأكمله بمقتضى «الهوى»!
وكما ذاك الطفل، يميل «النظام» إلى الاستحواذ على كل ما يتصل بالسلطة
والثروة. ولا يرفض فحسب أيّ منافسة من أحد، بل هو يرفض أساساً أن يُناقش في
هذا الشأن. والرفض لديه يتخذ صورتين: إمّا القتل، بأشكاله المتعددة،
أو»الحَرَد»!
يمارس الشكل الأوّل مع أبناء بلده، أولئك الذين غالباً ما ظهروا أمامه
و«بفضله» ضعفاء، ضامري العضلات.. و«غير جاهزين للديموقراطيّة» طبعاً. هذا
حين يظهرون. لكنهم في الغالب الأعم، وحتى أمس قريب، كانوا غائبين/ مغيّبين
عن المشهد الذي يطلّ من خلاله على العالم. هو يعنيه العالم فحسب، له فيه
حسابات وتسويات وأوراق وأعمال وأموال بالطبع. أما «الشعب»، أبناء البلد،
فلا وجود لهم. وحين يحاولون الخروج من العتمة، حين يحاولون أن يصدحوا
بوجودهم، يُواجهون بالقتل: سواء أكانوا أفراداً متفرقين، أو مجتمعين في
لحظة استثنائية، ليكونوا شعباً يصنع ثورةً!
يبقى «الحَرَد» شكلاً للرفض حين تأتي «المنافسة» من طرف أقوى. يعرف النظام
حدوده. فقط في حدود الوطن الذي يعتبره ملكاً شخصيّاً وراثيّاً يمكنه أن
يمارس القتل والتعذيب والاعتقال. خارج حدود «المزرعة» تتوّزع أوطان وبلاد،
لا يتعامل، جلّ قادتها، مع بلادهم بوصفها مزارع لهم أو أملاكاً شخصيّة.
وهؤلاء تحديداً هم من يهابهم. لكن ليس لتهيّبه سمات تحاكي خصائص ردة فعل
كائن «عاقل». يترجم تهيّبه تارة بدبلوماسيّة «شعرة معاويّة»، وطوراً
بدبلوماسيّة «محو القارات» التي ابتدعها، وفي أكثر الأحيان بنزق طفولي، وإن
تُرجم بعبارات وكلمات، فهو لا يعدو كونه «رفساً ولبطاً» دبلوماسيّاً!
نظام لم تستطع «نخبته» التي أمسكت برقاب بلد ومقدراته لمدة تزيد عن
الأربعين عاماً أن تطوّر شيئاً من خصائص النظام السياسي. ليس لها أن تفعل
ذلك. حرمت مجتمعها من «السياسة» ففقدت هي نفسها القدرة على الفعل السياسي.
كانت المرّة الأخيرة التي «اشتغل» فيها النظام بالسياسة على مستوى الداخل
تمّت قبل حوالى أربعين عاماً، حين كان لا بدّ من الاعتراف بأطراف سياسيّة
أخرى، بأسراب لها أصواتها الخاصّة، ولا بد من التفاوض معها، أي، عمليّا،
تدجينها. بعدها، استقال النظام من العمل السياسي، وكلّف أجهزته الأمنيّة
بإدارة الوضع (السياسي) الداخلي للبلد، الأجهزة التي لها أدوات في الحوار
خاصّة جداً: الاعتقال، التعذيب، السجن المديد.... والقتل طبعاً. النظام
الذي حجَر على مجتمعه سياسياً، ومنع، بالقوّة، المبادرات المستقلة، وأجهض،
بالعنف، أية إمكانية لولادة طرف سياسي فاعل ينافسه على شغل الفضاء العام،
لمدّة تزيد عن أربعين عاماً هو النظام الذي يجد نفسه اليوم «محروماً» من
أدوات التواصل (التفاوض، التداول...) سياسيّاً مع شعبه. ليس لنظام عمل طوال
أربعين عاماً على تشكيل سرب وطني واحد يغرّد تغريداً جامعاً وجمعياُ
بقصيدة واحدة موضوعها الرئيسي: الحبّ والولاء والوفاء والفداء للأب القائد،
أن يقوم اليوم، حين تغرّد أصوات أخرى خارج السرب، بغير القتل: هذه هي
سياسته!
لكن للطفل الأحمق النزق حدودا، ليس لعائلته أن تضطلع برسمها، وليس لها
أيضاً أن تكفّ يده عن أذى الآخرين. من يمكن أن يفعل ذلك هو شعب عظيم. شعب
أصبحت لأيام أسبوعه مهمات محدّدة: يوم للتظاهر للمطالبة بالحريّة، وآخر
لتشييع الشهداء الذين يسقطون، ثم يوم جديد لتشييع الشهداء الذين سقطوا في
تشييع الأمس. شعب، ورُغم كل ما يعرفه اليوم من قتل وألم وحزن، لم يغادر
منطقة المرح والتهكم. شعب، ورغم إبعاده الإجباري عن «السياسة» لمدة نصف قرن
تقريبا، يعرف اليوم كيف يسوس ثورته. يعرف، على الأقل، أن بلداً يختزن
عراقة وحضارة امتدّت لآلاف السنين، يحتاج إلى أكثر من طفل متعجرف نزق كي
يقود البلد. شعب يعرف كيف يصغي لصوت أمّ تغني في جنازة ابنها الشهيد ما كان
قد قاله لها قبل يوم «عرسه»: «أمي أمي يا أمي.. عن ابنك لا تهتمي.. ابنك
طلب الحريّة.. وأنا بفديها بدمي»!