تاريخ النشر: الثلاثاء 10 مايو 2011
تم التحديث: الثلاثاء 10 مايو 2011
لم تعد أفكار القرون الوسطى عن الحب أساطير بالنسبة لنا الآن. وعلى الرغم
من أننا لا نسميه مرضا، من يستطيع القول - إنه أو إنها - لم يشعر على
الإطلاق بافتتان تجاه شخص آخر أو لم يسبق أن عرف شخصا عانى منه؟. الطبيبة
والكاتبة والأكاديمية الفلسطينية غادة كرمي تقدم لنا عرضا حول كتابها
القادم «مرض الحب وأمراض أخرى: قصة الطب العربي في القرون الوسطى» والمقرر
نشره عام 2012.
يحكى أن أميرا فارسيا شابا سقط مريضا بمرض غامض لم يستطع
أحد تشخيصه. وقد بدأ الأمير يفقد وزنه وأصبح نحيفا رافضا الطعام حتى ضعف في
النهاية وأصبح طريح الفراش. وعندما يئس الأطباء الذين أتوا لعلاجه من
التوصل إلى علاج، لجأ والداه البائسان إلى ابن سينا، أشهر أطباء عصره
وعلمائه وترجياه أن يزور ابنهما وأن يستخدم مهاراته الشهيرة في علاجه.
وبالفعل،
وافق ابن سينا. وقبل زيارة المريض، سأل عن أعراض المرض وتاريخ الشاب
المرضي. وبعدها، دخل إلى حجرة المريض وفحص باهتمام كبير الأمير الذي كان
راقدا في فراشه شاحب الوجه وفاقدا القوة.
وبعد الفحص،
جلس ابن سينا بجانب السرير، واضعا أصابعه على نبض الشاب طالبا من أحد
الحضور تلاوة أسماء جميع شوارع المدينة. ولاحظ ابن سينا أن نبض الأمير
تسارع عندما ذكر هذا الشخص اسم شارع ما. وبعدها طلب من الشخص ذاته ذكر
أسماء جميع العائلات التي تسكن الشارع. وعند ذكر اسم عائلة ما، تسارع نبض
الأمير ثانية. وبعدها سأل ابن سينا، هل لهذه العائلة بنات؟ وكانت الإجابة،
نعم.
وبعدها، قام واقفا وقال لوالدي الأمير: «التشخيص واضح. الأمير يحب فتاة من بنات هذا العائلة. الأمير مريض بالحب وعلاجه الزواج».
نسبت
هذه الحكاية إلى أطباء مسلمين وإلى أطباء يونانيين قبلهم بكثير. على أي
حال، التقاليد التي تعكسها تلك القصص مختلفة عن تقاليد الأدب العربي
الشهيرة والمعروفة «بالغزل». ويقصد بها أشعار الحب وتشمل قصصا رومانسية
ورغبة لا تقابلها رغبة تنتهي عادة بمأساة. ولعل رواية مجنون ليلى تجسيد
لتلك العناصر. ورواية مجنون ليلى معروفة جدا في العالم العربي حتى يومنا
هذا. وكذلك قيس الشاعر البدوي الذي وقع في حب ليلى وطلب الزواج منها إلا أن
والدها رفض وزوجها لشخص آخر. مما جعل قيس يفقد عقله وراح يجوب البوادي حتى
وفاته.
ولكن قصتنا تعكس تقليدا طبيا مختلفا باعتبار
الحب مرضا. ويمكن تتبع هذا التقليد ابتداء من قدماء الأطباء اليونانيين
وحتى الأطباء العرب وصولا إلى العصور الوسطى في الغرب، حيث كان ينظر إلى
الحب باعتباره مرضا كأي مرض آخر له أعراض وعلامات وعلاج. وكان يصنف عادة في
كتب الطب العربية تحت تصنيف «أمراض العقل» ويأتي بعد قسم «السوداء أو
الماليخوليا» وهو الاسم الذي استخدم لوصف فقدان العقل وكذلك الحب الذي كان
يعتقد أنه شكل من أشكال الجنون. وتتجلى العلاقة بين الاثنين في قصة أخرى
بطلها الرحالة الأندلسي «ابن جبير» الذي خرج في رحلة من إسبانيا إلى الشرق
في القرن الثاني عشر تاركا وراءه تراثا رائعا مما شاهده في رحلته. وعندما
كان في دمشق، زار أشهر مستشفياتها ورأى شيخا عجوزا فقيرا ومجنونا في قسم
الأمراض العقلية. وقد فقد الرجل عقله بسبب حبه لتلميذته الشابة التي كان
يعلمها القرآن.
وقد احتوى عدد كبير من كتب الطب
العربية على قسم خاص بمرض الحب والتي يمكن من خلالها رسم صورة واضحة حول
ظروف المرض وعلاجه. وتشمل الأعراض تعلقا مرضيا بالمحبوب وفقدان الاهتمام
بأي شيء آخر. العينان غائرتان، الوجه شاحب، تقلبات في المزاج بين الحزن
والفرح. كما يفقد المريض شهيته ويصبح نحيفا وتنفسه غير منتظم. ولعل أهم
أعراض المرض، هو تغير النبض كما لاحظ ابن سينا في حالة الأمير. وكان
الاختبار الذي أجراه ابن سينا لمعرفة تأثير ذكر سيرة المحبوب على النبض.
وقد اعتبر الأطباء العرب الحب مرضا خطيرا يسببه زيادة في «العصارة السوداء»
في المخ.
وكان الهدف من العلاج هو التخلص من تلك
السوداء التي كانت تعتبر واحدة من الأخلاط الأربعة التي تشكل الجسم البشري،
كما كان يعتقد العرب، وهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء.
وقد استخدمت أنواع مختلفة من المطهرات للتخلص من هذه الحالة وكذلك فصد الدم إذ تخرج السوداء مع الدم.
وعلى
كل، وافق الجميع على أن أفضل علاج هو الزواج من الحبيب. وبالطبع، تكون
المشكلة في ما لو كان ذلك مستحيلا سواء أكان المحبوب متزوجا بالفعل أو لا
يشارك المريض عواطفه. وهنا، تظهر أكثر العلاجات إبداعا للمرض. فعلى سبيل
المثال، سيستفيد المريض من شرب النبيذ للتخلص من السموم. كما يتعين عليه
الاسترخاء وسط الخضرة والاستماع إلى الموسيقى بينما تبذل الجهود لمساعدته
على نسيان المحبوب. ويتراوح ذلك بين شغله بأمور أخرى وعدم تركه وحيدا
والتأكد من رحيله بعيدا عن المحبوب وحتى التشهير بسلوك وشخصية المحبوب.
وكان الأطباء ينصحون بتوكيل العجائز الأشرار بهذه المهمة لمهارتهم في نشر
الشائعات المسيئة.
ومع ذلك، لا يوجد ضمان لنجاح أي من
تلك الإجراءات. وفي هذه الحالة، كان الأطباء العرب يلجأون إلى الحيلة
الأخيرة والأكثر إثارة للجدل، حيث يتم تعريف المريض بشخص جديد. وعندما يبدأ
في الشعور بالحب تجاه هذا الشخص ونسيان الحب الأول، يرحل الشخص عندما يبدأ
المريض بالشعور بالافتتان ثانية ولكن تجاهه هذه المرة. وفي حالات أشد، قد
ينصح الأطباء بإقامة علاقات مع أكثر من شخص وهو الأمر الذي قد ينجح في
مساعدة المريض على النسيان. ولا نعرف على وجه التحديد إلى أي مدى استخدمت
تلك الأساليب أو إلى أي مدى أثبتت نجاحا. كما لاحظنا أن المرضى كانوا جميعا
من الرجال كما لو أن النساء لم يكن يعانين أبدا من هذا المرض. ولا شك أنه
سيكون من الصعب تطبيق وسائل العلاج غير التقليدية التي سبق ذكرها على
النساء.
وعلى الرغم من غرابة أفكار القرون الوسطى
السابقة عن الحب، فإنها لم تعد مجهولة لنا الآن. وعلى الرغم من أنه لا
يمكننا وصف الحب بالمرض، فمن ذا الذي لا يستطع القول إنه لم يقع أبدا في حب
شخص آخر أو لم يشاهد شخصا آخر عانى منه؟ وحتى يومنا هذا، نسمع في العالم
العربي من يقولون «مسكينة، إنها شاحبة للغاية، لا بد أنها تحب»