** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي بحث في مغالطات التأسيس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن عبد الله
مراقب
مراقب
avatar


التوقيع : دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي  بحث في مغالطات التأسيس Image001

عدد الرسائل : 1537

الموقع : في قلب الامة
تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا
تاريخ التسجيل : 05/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي  بحث في مغالطات التأسيس Empty
09072011
مُساهمةدور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي بحث في مغالطات التأسيس



دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي  بحث في مغالطات التأسيس Arton7367
"إنّ المطلق لا يرث ولا يورّث نفسه" جاك درّيدا
أطياف ماركس ص47



لعلّ من أهمّ الإشكالات التي تواجه الثقافة العربية في مظهريها العالم
والشعبيّ هي إشكالية توحيد المرجعيّات المعتمدة في بناء نسق الذات. فإذا
كانت الذات البشرية تتحدّد حسب الفرضية اللاّكانية في أنظمة ثلاثة هي
النظام الخياليّ والنظام الرمزيّ والنظام الواقعيّ(1)، فإنّ أزمة الذات
المسلمة تتمثّل في التداخل المرجعيّ غير المنظّم أو المراقب فرديّا أو
مؤسّسيا للمرجعيتين التقليدية والحداثية. وهو مظهر نفسيّ- اجتماعيّ لا
تنكره العين سواء في تجلّياته الواقعية أو الرّمزية –النصّية، منذ تلك
الرضّة أو الجرح النرجسي التأسيسيّ للفكر العربي الحديث، ألا وهو الحدث
الاستعماري وما استتبعه من "انكسار بنيويّ" عميق في أنماط الفكر والسلوك.

إنّ الازدواجية التي تطبع الحياة الإسلامية لا تعنينا في هذه المقالة إلا
من حيث تتبّع أحد جذورها المركزية في مدوّنات هي في تقديرنا من أهمّ
المرجعيات المعتمدة في المقالات السّلفية قديما وحديثا، بل من أهمّ
العناصر المؤسّسة للوعي الفرقي. ونعني بذلك مدوّنة الحديث النّبويّ التي
شكّلت المجال السّنّي وحدّدت توجّهاته الكبرى بدءا من الانقلاب السّنّي
على الاعتزال زمن المتوكّل، وانتهاء بالوهّابية ووريثاتها من السّلفيات
المعاصرة في محاولتها تجاوز الموقع المذهبي القائم إلى طموح التوحيد
الفرقي(2). إنّ هذا الواقع المعرفيّ قد جعل من الحديث النبويّ ومن سلطة
المحدّثين بمنزلة النّواة الصّلبة أو مركز الجذب لمختلف المعارف
المتداولة داخل الفضاء السّنّي، وعمّقت أبعاده القداسية من عجز العقل
العربي-الإسلامي على التجاوز التأليفي لحالة الانفصام أو الازدواجية
المتحكّمة فيه. وقد آذن هذا الفشل بعودة المكبوت "التراثي" إلى واجهة
الأحداث محاولا الهيمنة على المجال العامّ باعتباره البديل الأوحد
للإيديولوجيات الكمّاليّة التي عرفتها الدّول الوطنية بعد الاستقلال في
إستراتيجيتين حلّلهما بوبي. س. سيد، وهما الإستراتيجية البهلويّة
والإستراتيجية الخليفية(3)

يكثر الحديث منذ الثورة الإيرانية - ومن مواقع مختلفة، بل متناقضة - عن
عودة الإسلام أو الإسلام السياسيّ أو الحركيّ أو غير ذلك من التسميات(*).
وهذه القائمة من التوصيفات إنما تتحدّث في الحقيقة - فيما يخصّ المجال
الجغرا-سياسي السّني-(**) عن عودة الفرقة أو سلطة المذهب، ومن ورائهما معا
لسلطة "المحدّث" والحديث النبويّ من منظور فرقي صرف. إنّه منظور "موضعي"
جزئيّ يحاول التّلبيس على مواقع التلفّظ الحقيقية من خلال اعتماد آليّتي
التعميم والمطابقة، وذلك لإظهار "الخطاب" بما هو الشكل الأنقى لاستحضار
الأصل وتحيينه في صفائه الأوّل وجوهره النقيّ. وهي خطوة أولى يتبعها
بالنتيجة والضرورة إقصاء كلّ الخطابات المنازعة ورميها ضمن دوائر الانزياح
والانحراف عن "الإسلام المعياري"(***)، تلك الدوائر المتدرّجة من التخطئة
والتّبديع وصولا إلى التكفير.

لقد وضعنا هذه المقالة من أجل أن نعيد التفكير في أسّ مرجعيّ نراه هو
الأهمّ في انبناء الوعي الفرقي، ألا وهو الحديث النبويّ. وليست إعادة
التفكير عندنا إلاّ من باب السعي إلى مساءلة الضمنيّ والفرضيّ والبديهيّ
والمقدّس والمجمع عليه والمعلوم بالضرورة، وغير ذلك من العبارات، التي لا
يعدو محصولها أن يكون تسييجا لحقل المفكّر فيه، ودفاعا عن اختيارات تراثية
ذات قدرة تعطيلية هائلة لكلّ نظر يتموضع مبدئيا خارج المنظورات التقليدية.
وتقوم هذه المقالة على فرضيتين بحثيتين مركزيتين يمكن صياغتهما على الشكل
التالي:

1. إنّ مفهوم الفرقة هو المفهوم المركزيّ الذي يجب اعتماده من أجل فهم
مجمل الأدبيات الدينية والأدبية التي عرفها المجال الإسلامي منذ الانقسام
التأسيسي للوعي الفرقي، أي الفتنة الكبرى. بل إنّ المرحلة السابقة على هذا
الانقسام لم يتمّ بناؤها إلا من منظورات متأخّرة لا يمكن فصلها عن المواقع
الفرقية. وهو ما يعني أننا نتموضع خارج الأطروحات التي تتحدّث عن عقل عربي
(مثل مشروع محمد عابد الجابري) أو عن عقل إسلامي (مثل مشروع محمّد أركون
في إسلامياته التطبيقية). وهذا لا يعني انعدام الكفاءة التحليلية لأدوات
هذين الباحثين الكبيرين، بل "قصور" هذه الآليات والمفاهيم عن الإحاطة
بالحدث الإسلامي في تاريخه، ما لم يتمّ تنزيلها في المستوى الفرقي، الذي
هو في نظرنا المحدّد الأهم لمختلف الأنظار العلمية سواء اشتغلت في مركزه
أو في هوامشه وأطرافه.


2. لقد مثّل الحديث النبوي "جوهر" المقالات السلفية، ومثّل
المحدّثون السلطة الفرقية العليا التي تمثّل "ميزان" القبول والإدماج أو
الردّ والإقصاء. وهو واقع معرفي "حديث" قام على إعلاء مقالة كانت منسيّة
في التاريخ السنّي إلى أن تمّ تحيينها بدءا من الحركة الوهّابية. ونحن
نعني أطروحات الحنبلية الجديدة أو متأخّري الحنابلة وخاصة ابن تيمية (ت
1327م) وابن قيم الجوزية (ت 1350م) ونرى أنّ هذا الواقع المرجعيّ المحدث
يدفعنا إلى فهم كيفيّات التأسيس للحجية النبوي من المنظور الفرقي وما
يعنيه ذلك من تغير قد طال بنية الفرقة وهرميتها المرجعية ورهاناتها
الداخلية و الخارجية.



تظهر المقالات السلفية المعاصرة - منذ بداياتها الأولى مع
الوهابية - أنّه كلما حاولت المحافظة على صفاء "الأصل" المفترض، ازداد
اغترابها طرديّا عن سياقها المحايث. وهو اغتراب يتمّ تعويضه بالانتماء
المتخيل إلى الزمن التأسيسيّ(4) وبمحاولة "ردّ الزمن إلى محوره"(5) عبر
حركة عنف مزدوج : عنف أوّل يتّجه صوب الداخل الفرقي، قصد إعادة تنظيمه
وضبط تراتبياته المرجعية الجديدة لمحاصرة "الفوضى" المتجسّدة في تعدّد
المراجع العلمية المعتبرة (وفي مظاهر السلوك غير الشرعية)، وعنف ثان يتوجه
صوب الآخر الفرقي (الشيعة والخوارج والمتصوّفة) بعد أن تمّ إدماجهم في
الآخر الملّيّ، أي بعد أن تمّ الحكم بكفرهم وخروجهم من الملّة.

لقد تأسّست حجّية الحديث النبوي في الثقافة الإسلامية على جملة من الآيات
والأحاديث والآثار والتخريجات العقلية التي كان مؤدّاها اعتماد المدوّنة
الحديثية من أجل تنظيم الاجتماع الإسلامي وضمان استمراره. ولكن هذا
الاعتماد لم يكن ليتكرّس واقعيا لولا قيامه على مغالطة جوهرية هي التسوية
بين الحدث وأثره، أو بين الحدث وذاكرته النصية المفترضة. وإذا ما أردنا
صياغة ذلك ضمن تركيب أكثر ضبطا ووضوحا قلنا: لقد دعا القرآن إلى اعتماد
القول النبوي بما هو حجّية ملزمة وربط طاعة الله بطاعة الرسول، ولكنّ
الفقه (منذ لحظة الشافعي) جعل هذا الأمر السياقي - الذي يمكن إجراؤه زمن
النبوّة من خلال حضور الشخص النبوي والقدرة على التأكّد من أوامره ونواهيه
- حكما مطلقا، وذلك بتعويض الحضور "الحيّ" للنبي بحضور نصّي أريد له أن
يكون مرادفا للأوّل، مفترضا أنّه الأثر الخالص والنقيّ لذلك الزمن
التأسيسيّ المقدّس(6).

إنّنا في محضر آلية معلومة تلجأ إليها التراثات الدينية على اختلافها في
ضمان استمرار لحظة البدء وإعادة إنتاجها في التاريخ لتجاوز الفراغ الذي
يسبّبه موت المؤسس. إذ "لكي يحافظ أيّ مجتمع سياسي على هويّته بعد زوال
النقطة التي بنيت تلك الهوية عليها، يجب أن يحاول مأسسة ذلك الغياب"(7).
ولكنّ هذه الآلية بتحويلها النقطة العقدية المركزية أو الدالّ الرئيس من
"النبيّ" إلى"الإسلام" (8)، لم تستطع أن تنفصل عن المحدّدات الفرقية
المتحكمة في إنتاج المعرفة ودورانها داخل المجتمعات التقليدية. أي أنّ
الإسلام "المشتق" الذي تقدّمه لا يستطيع أن يتطابق مع الإيديولوجيا
العضوية – التأسيسية، بغضّ النظر عن نوايا ممثلي الثقافة السنّية العالمة
أو طموحاتهم المعلنة. وهذه الملاحظة تدفعنا إلى الإشارة للمأزق النظري
الذي سيقع فيه كلّ من قرأ الإسلام من خارج تحديداته أو تمظهراته الفرقية
باعتبارها وحدة التحليل الأكثر قدرة على فهم آليات إنتاج المعرفة في
الفضاء الإسلامي. بل إننا نزعم أنّ الفرقة هي ما يمثّل المجال الأقصى
لاشتغال المعرفة الإسلامية على الأقلّ في أشكالها الرسمية المؤسساتية.
فليس الإسلام إلاّ استعارة كبرى لم يكن من الممكن بحال أن تجد تجسيداتها
الحيّة خارج المنظورات الفرقيّة.

إنّ هذا" الأصل" المتجذّر في المنظور الخاص بالتاريخ الشامل كما سمّاه
فوكو - ضدا على التاريخ العام – (9)، لا تفعل السّلفيات المعاصرة غير
إحيائه كما هو، ولكن ضمن سياق متغيّر لم تعد فيه المعرفة الدينية هي
المرجع الأوحد أو المرجع الأعلى في ضبط الوجودين الفردي والجماعي داخل
المجتمعات المؤسلمة التي تمّ اختراقها من قبل الحداثة في مظهريها المادي
والرمزي.

تبدو علاقة الحديث النبوي بالتجربة التأسيسية من أكثر المواضيع التي لم
يفكّر فيها العقل العربي الإسلامي قديما وحديثا، رغم أهميتها الكبرى في
فهم آليات تشكّل المقالات الفرقية وشروط اشتغالها. فغاية ما في الأمر
طغيان الاستعارة "المرآوية" التي كانت وراء التمكين لسلطة المرويّات
النبوية ومن ورائها لسلطة المحدّثين. ويجب أن تحمل المرآوية هنا على معنى
علاقة هي أشبه في طبيعتها بما يسمّيه القدماء بالدور المنطقيّ. فالحديث هو
مرآة الحدث، والحدث هو ما يحضر في الحديث المعترف بصحّته من "صيادلة"
الفرقة أي المحدّثين الذين يمدّون أطبّاءها - أي الفقهاء - بالدواء اللازم
لإصلاح الدنيا والدين. ولا وجود لفائض للحدث أو إمكانا له، غير ما اعترفت
به المرجعيات الفرقية العليا. ولذلك ليست السّرديات "الأخرى" من شيعية
وخارجية واعتزالية إلاّ وهما مزدوجا: وهمًا بالمعنى الوجودي، إذ لا سند
خارجيّ لها ولاختياراتها الكبرى يمكن لها الاعتماد عليه في زمن التأسيس.
ووهمًا مرجعيا لأنّ تلك الفرق المنازعة قد محّضت ثقتها لمن لبّس عليها
الحقائق وأوردها موارد الخطإ والبدعة، بل مورد الكفر والخروج من الملّة.

إننا أمام مفارقة من المفارقات المركزية في النظر المنشدّ إلى المواقع
الفرقية. فهنا تكون الايدولوجيا السّنية في موقع "نقديّ" فذّ يفكّك
الخطابات المنازعة ويردّها إلى محدوديتها السياقية ويفهمها من خلال دوافع
"محايثة" - كالطمع في متاع الحياة الدنيا والتقليد للرؤساء وغلبة الهوى -
وغيرها من الدوافع "الإنسانية" التي تنحصر دائما في "آخر" الفرقة أو
الملّة. وهو ما يعني أنّها مبادئ تفسيرية يتمّ تعطيلها كلّيا عندما توجّه
الأنظار إلى "الداخل" المرجعيّ. فالحديث "وثيقة" صادقة والناقل يكاد يكون
معصوما فهو "سلف صالح محفوظ" قد استطاع أن ينفكّ عن الدوافع البشرية، وأن
يعكس في النّص تلك الملفوظات النبوية التي رغم أنها تؤدي بالمعنى دون
اللفظ، فقد ظلت أمينة لمقاصد "الشارع" وغاياته القصوى. وبهذا يمارس المتن
السلفي المعاصر "إرهابا" مرجعيا متعدد المظاهر وما ذلك إلاّ امتداد لتلك
المغالطة التأسيسية الكبرى: المطابقة بين التجربة التأسيسية وآثارها
النصية المتأخرة والمطبوعة بالإكراهات الفرقيّة والاحتياجات العملية من
أجل تنظيم الوجودين الفردي والاجتماعي في المجتمعات التقليدية.

مثّل الحديث – أو سلطة النبيّ - مرجعية عليا لا يمكن الطعن فيها. ولكنّها
كانت في الحقيقة تعكس واقع التحيين – أي زمن الجمع والتصنيف - أكثر مما
تعكس واقع التنزيل - أي زمن النبوة -. فقد تسرّب إلى الحديث النبويّ مجمل
البنيات الذهنية والبناءات العقائدية والرهانات الاديولوجية - السلطوية
التي عرفها الاجتماع الإنساني في قرونه الأولى بحيث يكون من المتعذّر
أخلاقيا ومعرفيا مشايعة "المحدّثين" في مسلّمتهم الكبرى التي مدارها
إمكانية إعادة بناء الحدث "النبويّ" من موقع غير فرقيّ، أي من خارج
المنظورات الفرقية المتأخّرة وإنكار أن تكون تلك المنظورات في أهمّ
محدّداتها مجرّد انعكاس للواقع الناظم لعملية التصنيف وأنّ "المثقّف"
الفرقي (10) لا يستطيع رغم كلّ ادّعاءاته أن ينفكّ عن شروطه التكوينية
الواعية وغير الواعية.

لقد رأى المستشرق الفرنسي جاك بيرك أنّ أكبر مصيبة ابتلي بها العالم
الإسلامي لم تكن نهاية الخلافة الراشدة - كما يرى عموم المسلمين السنّة -
وإنّما القضاء على المنزع العقليّ(11) عبر القمع النظاميّ الذي تعرّض له
الاعتزال في أغلب ديار الإسلام بعد الانقلاب السنّيّ الذي مكّن للمحدّثين
في الأرض وشايع أطروحاتهم، من رفض القول بخلق القرآن وتقديم النقل على
أدلّة العقول، وغير ذلك من المبادئ النظرية والاختيارات العقدية التي طبعت
الفرقة بطابعها ضمن تسييجات دغمائية كبرى. ولكنّ تلك التسييجات لم يكن لها
من الصلابة بحيث تمنع من وجود حركية داخلية. إنّها الحركية التي ضمنت
تعايش المذاهب الأربعة المعتبرة عند أهل السنّة والجماعة، وضمنت كذلك
إدماج الروحانية الصوفية والأنساق الكلامية من أشعرية وماتريدية ضمن
الخطابات المعترف بصراطيّتها، وبالتالي بشرعية دوران نصوصها ضمن المجال
الفرقي سواء أكان في المراكز الحضرية أم في الهوامش والأطراف.

إنّ هذا التعدّد المرجعيّ والمعرفي المتسامح معه بدرجات مختلفة، ظلّ محلّ
اشتباه، بل ورفض صريح من لدن تيّار المحدثين الذين وجدوا تعبيرهم الفقهيّ
– العقديّ في الحنبلية. فمنذ الإمام المؤسس أحمد بن حنبل (ت
241هجرية/855ميلادية)، كان المحدّثون ينظرون بعين الريبة للتصوّف وللكلام.
ولعلّ أوضح دليل على ذلك، موقف الإمام أحمد من التصوّف والكلام مطلقا،
وموقف الحنابلة من الأشعري الذي وضع كلامه صراحة للدفاع عن المحدّثين
وعقائدهم ضدّا على كل المذاهب الأخرى وخاصة الاعتزال والتشيّع. وقد بقيت
الحنبلية مجرّد مذهب من جملة المذاهب السنية بل مذهبا أقلّويا داخل المجال
الفرقي العام(12) ولم يستطع متأخّرو الحنابلة من مثل ابن تيمية وابن قيّم
الجوزية أن يرتفعوا بالقول المذهبي الحنبلي إلى مستوى القول الفرقي السنّي
المقبول من جميع ممثلي الثقافة العالمة من المذاهب الأخرى. فبقي التصوّف
مشروعا، والكلامان الأشعري والماتريدي يدرّسان في الفضاءات التعليمية
السنّية، جنبا إلى جنب مع المدوّنات الفقهيّة الرئيسيّة في الشافعية
والمالكية والحنفية سواء في الأزهر أو الزيتونة أو جامع القرويين بالمغرب
الأقصى. أي في تلك الفضاءات المذهبية المركزية في دلالاتها الرمزية
والمتحكّمة في تشكّل المعرفة الفرقية وضمان استمرارها وإعادة إنتاجها
وتوزيعها، من خلال تحالفاتها السلطوية مع السّلالات المتعاقبة على حكم
المجال الجغرا- سياسي السنّي. ولكن كيف اختلّت هذه التوازنات التاريخية
بين المذاهب الفقهية من جهة وبين المقالات الكلامية والروحانيات الصوفية
سواء في مظهرها النظري الفلسفي، أو في تجلّياتها الطرقية من جهة أخرى؟

لقد استطاعت الوهّابية أن تدفع بالحنبلية إلى موقع الحديث باسم الفرقة
السنية بأجمعها لتنجح فيما فشل فيه سلفها المرجعي الأعظم أي أحمد بن تيمية
الحرّاني. واستطاعت من خلال استرتيجيات نصّية وغير نصيّة أن تنشئ خطابا
"عامّا" أو "كبيرا" تمكّن بالتدريج من أن يتحوّل إلى معيار لكلّ الخطابات
المنتمية إلى الفضاء السنّي. وهو ما عنى معرفيا عودة "للمحدّث"، ولكن بعد
أن أقصى كلّ منافسيه التقليديين على تشكيل المجال المعرفيّ السني
كالمتكلّمين والمتصوّفة والفلاسفة والأدباء وكلّ من تموضع خارج اختيارات
السلف الصالح من أئمة المحدّثين والتابعين والصحابة. إنّنا أمام إعادة
بناء المجال الفرقي الذي سيفعّل المرجعية الحنبلية الجديدة ضدّا على تاريخ
التوازنات التي عرفها أهل السنّة وضدّا على كلّ الفرق الأخرى وخاصة الشيعة
في شبه الجزيرة وجنوب العراق(13).

إنّنا لا نطرح هذه الملاحظات المتعلّقة بالوهّابية من موقع المحاكمة
الفقهية أو الأصولية، بل من موقع التأمّل التاريخيّ في أثر هذه الحركة
السلفية في تحديد الملامح الكبرى للمقالات الدينية في العصر الحديث.
فالسلفية من خلال إحيائها لتراث الفرقة في تشكيلته الإيديولوجية ذات
النزعة النصيّة والرافضة لأيّة مباينة للإسلام المعياري المتخيّل، قد
أوجدت خطابا "صداميّا" تحكمه جملة من الثنائيات المتجذّرة ضمن ما يسمّيه
جاك درّيدا بالهرمية العنيفة(14). ونحن نرى أنّ الثنائية الأسّية في هذا
الفكر هي تلك التي ترتبط بالمرجعية. فالمحدّثون قد استطاعوا تكريس حجّية
الحديث النبويّ، ليس باعتباره خطاب الرسول بل باعتباره ضربا من الوحي الذي
لا يتعبّد به. وقد استطاعوا بهذا المسلك التأويلي الجامع بين اعتبار
الحديث ضربا من الوحي وبين معنى الحكمة الواردة في القرآن والآيات الحاثّة
على طاعة النبيّ، أن يجعلوا الخروج عن المتون الحديثية المعتبرة ضربا من
الخروج عن الملّة. ولا يبدو هذا المسلك شاذّا أو بدعا من المنطق الفرقي.
ذلك أنّ كلّ التّراثات الجزئية الأخرى من شيعة وخوارج، قد أوجدت مدوّناتها
النبوية المقدّسة. وهي مدوّنات يتطابق فيها الحقّ الفرقي مع الحقيقة
الملّية. بل يصبح النبيّ "المتخيّل" نفسه هو مؤسّس الفرقة والمبشّر الأوّل
بظهورها والضّامن المطلق لصحّة اختياراتها، وذلك في عملية تنصيص للتاريخ
لم تستطع أن تفلت منها أيّ من الفرق المتنازعة(15).

لقد ظهرت على الساحة الفكرية العديد من المشاريع الكبرى التي كان هدفها
التفكير في كيفيات اشتغال "العقل "العربي" أو "العقل الإسلامي"، وتبيان
مواطن الضعف أو العطالة في هذين العقلين. ومهما كانت الدوافع المعرفية أو
الإيديولوجية لهذه المشاريع، فإنّها جميعا لم تقدّر سلطة الفرقة حقّ
قدرها، ولم تنتبه إلى مركزية "الحديث النبوي" في تحديد اختيارات الفرقة من
جهة الأنساق العقدية والمنظومات التشريعية وسلالم القيم المعتبرة "شرعية"
والمسموح لها بالتداول بين المنتمين إليها. فالحديث عن عقل إسلامي هو كلام
غير ذي موضوع أو ضرب من المجاز ما لم يخصّص بحدود الفرقة بما هي وحدة
الفهم والتحليل المركزية في أية محاولة لنقد أنماط التفكير التراثية. وهذه
المركزية لا تتأتّى إلاّ من جهة أنّ السياج الفرقي هو المحدّد الأعظم في
توجيه الخطابات المتنازعة مهما حاولت تلك الخطابات التعمية على هذه
الحقيقة بالاتكاء على الاستعارات التأسيسية المتنازع عليها بين مختلف
الفرق، أي مهما توارت المواقع الفرقية وراء الرموز الملّية الكبرى وخاصة
شخص النبي الخاتم.

يعرّف الدكتور المنصف بن عبد الجليل العقيدة الدنيا بأنّها تلك "العقيدة
التي إذا تجاوزتها الفرقة وغالت، كانت في ظرفها وحينها فرقة هامشية"(16).
وهذا التعريف قد يبدو ضعيف التعلّق بالحديث النبوي وسلطته في تشكيل نظام
المعرفة السنّي. ولكنّ التاريخ ينبؤنا أنّ الحديث هو الذي ضبط هذه العقيدة
الدنيا. فالإسلام والإيمان والإحسان والكفر والشرك وعدالة الصحابة وأفضلية
القرون الثلاثة الأولى وانحدارية الزمن وعلامات الساعة الصغرى والعلاقة
بالسلطان وبالمجتمع وبالعقائد الفرعية والمراجع الفرقية العليا وغير ذلك
من المواضيع المعبّر عنها بالألفاظ الشرعية أو غيرها، لا يمكن أن تنفصل عن
سلطة الحديث النبوي. فإجمال القرآن أو سكوته يتمّ ملء الفراغ الناتج عنهما
بالالتجاء إلى الحديث النبوي في مرحلة أولى وبغيره من الأصول كالإجماع أو
القياس – بشرط ألاّ تعارضه – في مرحلة تالية. وهنا تتّسع العقيدة الدنيا
لا محالة ليصبح المعلوم من الدين بالضرورة هو كلّ ما اختارته الفرقة من
مبادئ عقدية وتراتبية مرجعية وتنظيم للمجال السياسي العام. وهذه العقيدة
هي عقيدة غير مقبولة أو معترف بها من قبل الفرق الأخرى. وهو ما يعني أنّ
الفرقة ستلجأ إلى الصّراع من أجل بسط سلطتها على مجمل المجال الإسلامي.
إنّه الصراع الذي لم يكن يعقل أو يدار في المجتمعات التقليدية إلاّ من
خلال المفردات الدينية. ولم تعمل السلفيات المعاصرة والحديثة – منذ الحركة
الوهابية - غير تحيين هذه البنية الذهنية التراثية بدرجات متفاوتة ولكنّها
جميعا لم تستطع أن تنزاح عن خلفيّتها الفرقية المغلقة، بل إنّها قد عملت
على زيادة تضييق الدائرة الفرقيّة باستبعاد كلّ أولئك الذين اعترفت بهم
الثقافة العالمة - من مثل الصوفية والمتكلمين - رغم اعتراضات الحنابلة.

لقد أردنا في هذه المقالة التنبيه على ضرورة تغيير مقاربة العقلين العربي
والإسلامي إن نحن أردنا حقيقة أن نفهم ونفكّك نقديا مجمل الخطابات
المنتمية إلى الفضاءات الإسلامية. فالمحددات الابستيمية أو المليّة لن
تنفع ما لم تنزّل ضمن مبدإ تفسيريّ رئيس هو الفرقة. فما يسمّى بعودة
الإسلام ليس في الحقيقة إلاّ عودة لسلطة الفرقة في أشكالها الأكثر
انغلاقا. وهذا الحكم لا يخرج من موضع التقويم "الفقهي" أو الأخلاقي بل من
موقع التحليل التاريخي لمجمل التوازنات التي عرفتها الفرقة السنية في مجمل
تاريخها. هل كان القدماء أكثر حكمة منّا عندما رفضوا أن تحصر المرجعية ضمن
رمز ثقافي أو مرجع معرفي أوحد سواء أكان هذا المرجع هو الفقيه أم الأصوليّ
أم المفسّر أم المحدّث؟ هل كان تشتيت المراجع وتنسيب الحجّية هو ما ضمن
للفرقة أن تتكيّف مع ما طرأ عليها من أحداث ومعارف استطاعت أن توازن بينها
ضمن تركيبات كلّية ناجحة إلى هذا الحدّ أو ذاك؟ هل كان الاختلاف الفقهي
والكلامي هو ما ضمن ألاّ تهيمن أيّ من التشكيلات الايديولوجية الجزئية على
مجمل الفضاء الفرقي؟ إنّها أسئلة نطرحها أمام ما يشهده الاجتماع الإسلامي
من محاولة لفرض فهم موحّد وصدامي على كلّ الفرقة السّنية، بل على كلّ
الفرق الإسلامية. هذا الفهم السلفي لن يستطيع الوعي النقدي "عقله" ما لم
يتبيّن ما يؤسّسه في مستوى مسلّماته العقدية وبداهاته المعرفية واختياراته
المرجعية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي بحث في مغالطات التأسيس :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

دور الحديث النبويّ في تشكيل المجال الفرقي بحث في مغالطات التأسيس

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: