ظلّت نوعية العلاقة بين الفضاء السجني والمحيط الخارجي ومختلف أشكال
التفاعل فيما بينها تشكّل أحد المواضيع الرئيسية التي تشغل اهتمام
المختصين في هذا المجال، وخاصة عند تقييمهم للمؤسسات السجنية والإصلاحية.
كما توجّه الاهتمام أكثر في السنوات الأخيرة إلى مسألة العلاقة بين ثقافة
المجتمع والثقافة السجنية، بل تحولت هذه العلاقة إلى آلية جيدة لدراسة
الظواهر الإجرامية والانحرافية وخاصة لفهم أسباب تفاقم ظاهرة العود وفشل
المؤسسات السجنية.
وما تجدر الإشارة إليه عند تناول هذا الموضوع هو أنّ الفاعل الاجتماعي
(السجين) إثر دخوله للمؤسسة السجنية يكون مزوّدا بما أطلق عليـه
"MorenoJ." بـ"البرمجة الذهنية"، أي ذاك المخزون الثقافي الذي اكتسبه عبر
مراحل تنشئته الاجتماعية واحتكاكه بسائر المؤسسات الاجتماعية الأخرى… ويجد
نفسه أمام ثقافة سجنية متميزة إلى حد ما عن الثقافة السائدة خارج هذا
الفضاء السجني. وهكذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تتفاعل هذه
البرمجة الذهنية الدالة على ثقافة المجتمع مع هذه الثقافة السجنية؟ وهل
يساعد هذا التفاعل والتواجد على خلق جسور للتواصل مع العالم الخارجي، أم
تخلق نوعا من القطيعة بين العالمين: السجني والخارجي؟
ثقافة المجتمع وكيفية تسربها إلى المؤسسة السجنية:
تنتمي المؤسسة السجنية إلى جملة المؤسسات الاجتماعية التي تحدد هوية
وخصوصية المجتمع، وتهدف إلى تحقيق نوعا من التوازن والانضباط الاجتماعي…
لذلك نظر دوركهايم إلى المؤسسة عموما: "كمرادف لكلّ ضبط اجتماعي، فكل ما
هو اجتماعي يكون مؤسسيا، بما أن كل ما هو اجتماعي يكون ملزما، وأن المؤسسة
هي إلزام اجتماعي فعّال" (1). ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الحياة السجنية
من الوجهة السوسيولوجية كعملية ثقافية تواصلية بحكم انتماءها للمجتمع
الخارجي، وبحكم تجسيدها لسلطة القانون وما يحمله من إلزام وانضباط، وتتجلى
أبعاد التواصل الثقافي في عنصرين أساسيين:
ـ"أ"ـ عبر الفاعل الاجتماعي:
يمثل السجين كفاعل اجتماعي أهم عنصر ثقافي تواصلي، لأنه يحمل في داخله
صورة المجتمع الذي ينتمي إليه : قيم، عادات، تقاليد، رموز ثقافية،… وبلغة
أخرى يدخل الفاعل الاجتماعي لهذه المؤسسة السجنية وهو مزوّدا بمخزون ثقافي
وببرمجة ذهنية ساهمت في غرسها كل عناصر المجتمع، إلى أن جعلته "أداة"
ثقافية تربط المحيط السجني الداخلي بالمحيط الخارجي. ولكن فعالية وقوة
تأثير هذه "الأداة" تختلف من فرد إلى آخر بناء على عدة اعتبارات
أساسية والتي اعتبرناها في هذا البحث الميداني كمتغيرات مستقلة والمتمثلة
في "السنّ" و"الانحدار الاجتماعي" و"التجربة السجنية". ففي الجناح © من
السجن المدني بتونس مثلا، قبل غلقه في السنوات الأخيرة(2) نلاحظ قوّة
وفعالية هذه الأداة الثقافية (الفاعل وما يحمله من مخزون ثقافي) ويمكن
إرجاع ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية تتحكم فيها المتغيرات سابقة الذكر:
(*) السنّ: أغلب متساكني هذا الجناح تتجاوز أعمارهم الـ28 سنة وتصل أحيانا
إلى الـ70 سنة ويلعب كبر السن هذا دورا أساسيا في نحت البرمجة الذهنية
والمخزون الثقافي الصلب لدعم الفاعل الاجتماعي، وكما أثبتت الدراسات
المتعلقة بالمواقف فإن من أهم عوامل الثبات وتصلب المواقف لدى الفرد هو
كبر السنّ، لذلك نلاحظ في هذا الجناح التقارب بينه وبين المجتمع الخارجي
من حيث الممارسات الثقافية والممارسات اليومية إضافة إلى القيم
والاعتقادات…
(*) الانحدار الاجتماعي: يساهم الانحدار الاجتماعي بقسط وافر في ترسيخ
نوعية البرمجة الذهنية والمخزون الثقافي الذي يحمله كل فاعل، فأغلبية
متساكني الجناح© ينحدرون من المناطق الاجتماعية الراقية ويحتلون مراكز
اجتماعية مرموقة في الحياة المدنية، الشيء الذي يجعلهم يجهلون تماما
الحياة السجنية وخصوصية الثقافة السجنية…
(*) التجربة السجنية: يتميز أعضاء هذا الجناح © بانعدام التجربة السجنية،
وذلك يعني استبطانهم لمخزون ثقافي مجتمعي نقي إلى حد ما ويجسد بشكل أو
بآخر ثقافة المجتمع الخارجي… كما أن عملية جمعهم في جناح واحد يضاعف حالة
التشابه والتقارب بين المحيطين: السجني والخارجي.
تتجمع هذه المتغيرات الثلاثة لتجعل من الفاعل الاجتماعي في هذا الجناح ©
أداة ثقافية فعالة، تساهم بشكل مباشر في مدّ جسور التواصل الثقافي بين
المحيطين عبر ممارساتهم واعتقاداتهم وتصوراتهم…
ولكن، إذا انتقلنا إلى الجناح المقابل له أي الجناحH بالسجن المدني بتونس،
فإننا نلاحظ تراجع هذه الأداة من حيث الفاعلية والقدرة التواصلية، وذلك
لعدة اعتبارات:
(*) السن: إذ يتراوح معدل السنّ بين19 و25 سنة، ويلعب صغر السن هذا دورا
أساسيا في تحديد نوعية البرمجة الذهنية والمخزون الثقافي الذي يحمله
الفاعل الاجتماعي، والمتميز بعدم الصلابة والقابلية المستمرة للتغيير
والتبديل والتحوير، إضافة إلى التنشئة الاجتماعية غير المكتملة، خاصة إذا
تجاوزنا المفهوم التقليدي للتنشئة الاجتماعية الذي يحدده بمرحلة الطفولة
وبانتهاء تكوينها مع انتهاء هذه المرحلة، إلى المفهوم الذي قدمه
لنا(G.H.Mead) الذي اعتبرها عملية متواصلة تلازم كل مراحل حياة الإنسان
ولا تقف عند مرحلة عمرية معينة… فمن هذا المنطلق الأخير لـ G.H.Mead يمكن
تفسير المرحلة السجنية المبكرة كإحدى المراحل الأساسية التي يمر بها
الفاعل، والتي تساهم في تنشئته الاجتماعية، أين يلعب عامل السن دورا حاسما
في خلق القدرة التأثيرية الثقافية للمؤسسة السجنية على الفاعل الاجتماعي
(في الجناح H )حتى لو افترضنا غياب التجربة السجنية…
(*) الانحدار الاجتماعي: تنحدر أغلبية أعضاء الجناح H من المناطق الشعبية
وخاصة تلك المعروفة بكثرة الانحرافات الاجتماعية، وتساهم هذه البيئة
الانحرافية (كأحد مصادر التنشئة الاجتماعية) في تحديد نوعية المخزون
الثقافي للفاعلين، ومختلف القيم التي زودوا بها قبل دخوله إلى المؤسسة
السجنية، وبلغة أخرى، تقوم البيئة الانحرافية بدور تأهيلي وتكويني للعيش
داخل الفضاء السجني، ومن الملاحظات الدالة على ذلك:
الوشم: أفرزت نتائج المقابلات لأفراد هذا الجناح وجود عددا هاما من
الموشومين الذين أقدموا على هذه الممارسات الفنية خارج السجن، ومن قبل
أصدقاء لهم عرفوا بترددهم على المؤسسة السجنية…
"العنف الموجه من الذات وإلى الذات": وتتجسّد في تجريح الجسد وخاصة
الذراعين والصدر، وقد صرح أغلب المبحوثين أن احترافهم لهذه النوعية من
الممارسات العنفية ابتدأت خارج أسوار السجن…
"الحياة السجنية خارج السجن": وتتجلى في حفظ الأغاني السجنية والإدراك
الجيد لأهم المصطلحات والرموز السجنية قبل دخولهم إلى الفضاء السجني…
وبلغة أخرى تساهم البيئة الاجتماعية والانحدار الاجتماعي لمتساكني الجناح
H في تكوين ونحت البرمجة الذهنية والمخزون الثقافي المتجانس مع الثقافة
السجنية والمخالفة لثقافة المجتمع في العديد من النواحي.
(*) التجربة السجنية: إضافة إلى ما سبق ذكره، يتميز أفراد الجناحH
بالتجارب السجنية أو التجارب المماثلة لها كالإصلاحيات، الشيء الذي يجعل
الثقافة السجنية عبارة عن امتداد وتكملة لما زودوا به من مخزون ثقافي خلال
التجارب المتقطعة السابقة.
لكل ذلك، يعتبر الفاعل الاجتماعي في الجناحH، أداة ثقافية غير فعالة في
مدّ جسور التواصل الثقافي مع ثقافة المجتمع، ولعلّ عملية تجميعهم في جناح
واحد قد ساهم في ذلك…
-"ب"- عبر قنوات الاتصال:
ونقصد بقنوات الاتصال تلك الوسائل والأساليب والبرامج التي تعتمدها السلط
الإدارية، والهادفة أساسا إلى "إصلاح" وإعادة تأهيل المساجين، و محاولة
الاقتراب بهم من السلوك النمطي المحدد بثقافة المجتمع (الثقافة
النموذجية)، وتتمثل هذه القنوات الاتصالية في:
(*) جهاز التلفزة: تتسرب ثقافة المجتمع إلى المؤسسة السجنية عبر هذا
الجهاز، وما يحمله من برامج إخبارية، ثقافية، مسلسلات… مع التذكير أن
القنوات المسموح بمشاهدتها تقتصر على القناة تونس7 و قناة21، أي القنوات
المعبرة بشكل أو بآخر عن الثقافة النمطية للمجتمع ).
(*) الجرائد: وهي القناة الاتصالية الثانية التي تعتمد عليها السلط
الإدارية لإدخال ثقافة المجتمع إلى المؤسسة السجنية، و لكنها أقل تأثيرا
من جهاز التلفزة، نظرا للمستوى الثقافي والتعليمي المتفاوت للفاعلين
الاجتماعيين، ونظرا لعدم مجانيتها، إذ يخير السجين عادة شراء الشاي
والقهوة على شراء الجرائد…
(*) المجلات السجنية: وتتمثل في مجلتين: الأولى وعنوانها "الأمل" تصدرها
الإدارة العامة للسجون والإصلاح، والثانية وعنوانها "فضاءات" يصدرها السجن
المدني بتونس، وتلعب هاتان المجلتان دورا في مدّ جسور التواصل الثقافي بين
المحيط السجني الداخلي والمحيط الخارجي، من خلال تنوع محتوياتها وثرائها
ومساهمة المساجين في إعدادها وإخراجها، إضافة إلى إجبارية شرائها (بما في
ذلك الذين لا يحسنون القراءة والكتابة)، فعند شراء المؤونة الشهرية
المعبّر عنها في اللغة السجنية بـ"الكونتينة" يجبر السجين على شراء إحدى
المجلتين بـ1500مي… وهذا الإجبار يولّد لدى المشتري (السجين) الرغبة في
الانتفاع بها، فيحاول قراءتها أو الاستعانة بمن يحسن القراءة…
(*) الأعياد الوطنية والدينية: إن ما لفت انتباهنا منذ بداية هذا البحث في
الجناحH هو المعرفة الجيدة للفاعلين بتواريخ كل الأعياد الوطنية تقريبا
(رغم تعددها)، وكانت أولى المفارقات التي حاولنا فهمها، لأنّ الاهتمام
والمعرفة الجيدة بتواريخ الأعياد الوطنية يوحي بالروح الوطنية لدى هذه
الفئة، في الوقت الذي يتميزون فيه بتمرّدهم على كل ما هو وطني وبارتكابهم
لكل أنواع المخالفات القانونية… ولكن، تبين لنا بعد ذلك أن الاهتمام
بالأعياد الوطنية كان سببه اقتران هذه الأعياد بالمناسبات التي يتمّ فيها
الإفراج عن بعض المحكومين أو التخفيف من مدة عقوبتهم… ومع ذلك تضع
المناسبات الدينية والوطنية بصماتها وآثارها الثقافية على المساجين
وتقربهم من الأجواء الاحتفالية خارج المؤسسة السجنية، الشيء الذي جعلنا
نقحمها ضمن العمليات الثقافية التواصلية.
الثقافة السجنية وكيفية تسربها إلى ثقافة المجتمع (الثقافة النمطية):
خلال تناولنا لإشكالية ثقافة المجتمع وكيفية تسربها للمؤسسة السجنية
أشرنا لوجود نمطين من الثقافة داخل الفضاء السجني، يتمثل النمط الأول في
تلك القيم والمفاهيم والاعتقادات … التي تحاول السلط الإدارية فرضها
وغرسها في المساجين، أو تلك التي يحملها الفاعل في ذاته والمعبر عنها
بالبرمجة الذهنية أو المخزون الثقافي وتحديدا تلك المرتبطة بالثقافة
النمطية للمجتمع، حيث لعبت التنشئة الاجتماعية دورا أساسيا في تحديد نوعية
وكمية ما زوّد به السجين قبل دخوله للمؤسسة السجنية. ومقابل ذلك رأينا
النمط الثاني من الثقافة السجنية والمتجسدة في جملة التصورات والاعتقادات
والمفاهيم… التي تفرزها الحياة السجنية والحياة الانحرافية، وتتعاضد كل من
البيئة الانحرافية والمؤسسة السجنية في بلورة وغرس هذا النمط من الثقافة…
فإذا كان النمط الأول من الثقافة يدعم ويقوي جسور التواصل الثقافي بين
المحيط السجني الداخلي والمحيط الخارجي، فإن النمط الثاني يقوم بالوظيفة
المعاكسة أي تمتين الحواجز والعراقيل بين المحيطين، ويتجلى ذلك في عنصرين:
ـ"أ"ـ البحث عن الذات والهوية خارج المؤسسة السجنية:
يتعرض الفاعل الاجتماعي (السجين) خارج أسوار السجن إلى عملية إقصاء من
قبل بقية أفراد المجتمع "الأسوياء"، فتتسع الهوّة بينه وبين النمط الثقافي
السائد والمهيمن، وبالتالي يفقد ذاته وهويته كعضو من أعضاء المجتمع، ولا
يجد أمامه إلاّ خيارين أو حلّين لإرجاع ما سلب منه. يتمثل الحل الأول في
اللجوء والتقرب ممن يماثله في الوضعية أي رفقاء السجن والموصومين
بالانحراف. وتتضح هذه النقطة بشكل واضح في "نظرية التحييد" لكل من Gresham
SykesوDavid Matza والواردة في كتابهما "تقنيات التحييد"، حيث أكّد العنصر
الخامس لهذه النظرية أنه يتم في مثل هذه الحالة اللجوء إلى استمالة ولاء
الآخرين: كمقابل على رفض المجتمع له (والعكس أيضا) يسعى الفرد إلى
الانتماء إلى مجموعات صغيرة منحرفة (تنتمي إلى ثقافات فرعية) كعصابات
الأحداث وعصابات الإجرام، والتي قد تكفل له الولاء والاحترام وتزوده
بالحماية التي حرمته إيّاها جماعة الأسوياء(3)
ونفس هذه النقطة تقريبا توضحه لنا نظرية "الوصم أو ردود الفعل
الاجتماعية"، فمن بين التعريفات الواردة في كتاباتEdwin M.Lemert قوله بان
الجنوح إنما هو عبارة عن انعكاسات لمجموع العلاقات الذاتية الناتجة عن
نشوء العديد من أوجه الصراع الثقافي في المجتمع… ويحدد ذلك في عنصرين
أساسيين: أولا، "عنصر المفاضلة أو التمييز" والتي يتم خلالها إقصاء وفصل
الموصوم، أي وضعه في جهته والمجتمع الذي ينتمي إليه في جهة أخرى. أما
العنصر الثاني، فيسميه بـ"عنصر تحديد أو بلورة الهوية"، والتي تؤدي إلى
إحداث تحوّل في شعور الفرد بذاته أو تقييمه لذاته بعد عملية إقصائه.
فتصدر منه ردود فعل تتفق مع نوعية ردود الفعل الموجهة ضدّه من قبل
المجتمع ودرجة حدّتها، فيتحوّل شعوره بذاته من شخص سويّ عاديّ إلى شخص
منحرف. وتكتمل الصورة أكثر حين انضمامه إلى غيره ممن يشابهونه في الوصم،
وهكذا يرى Edwin M.Lemert أن الضبط الاجتماعي يؤدّي إلى الانحراف لا
العكس، وإلى بلورة ونمو الثقافة الموجهة ضد الثقافة النمطية لا العكس،
والمساندة بشكل أو بآخر للثقافة السجنية، وتتكون فيما بينهم (المنحرفين)
ما يسمى بـ"الثقافة الفرعية"…
هذا بالنسبة للحلّ الأول الذي يلتجئ إليه الفاعل الاجتماعي بعد إقصائه
وفقدانه لذاته وهويته، والمتمثل في الانضمام إلى فئة المنحرفين، وبروز
"الثقافة الفرعية" الموجهة ضد الثقافة النمطية. أما الحل الثاني والذي
يجبر الفاعل على اختياره رغم مرارته وقساوته، فيتمثل في الرغبة إلى العودة
إلى المؤسسة السجنية، وإدراكه لأهمية الثقافة السجنية مقارنة بثقافة
المجتمع، والتي أصبحت (الثقافة السجنية) ملائمة ومتجانسة مع وضعيته
الجديدة في المجتمع الخارجي، ولا يتسنى له العودة إلى الفضاء السجني إلا
بارتكاب مخالفات قانونية أخرى، يتحصل بموجبها على "بطاقة الإيداع" التي
ستسمح له بدخول مجددا للمؤسسة السجنية… وفي هذه الحالة (العودة الجديدة
للمؤسسة السجنية) سوف تتحول حتما مواقفه ومشاعره تجاه الثقافة النمطية
المجتمعية، وسوف يحاول التخلي عن مخزونه الثقافي وبرمجته الذهنية التي
أصبحت غريبة عنه وغريبا عنها. فإذا كان إثر دخوله الأول للعالم السجني
استعمل كل الميكانيزمات الدفاعية للحفاظ على جزء منها (على الأقل)، فإنه
في هذه المرة ستتحول هاته الميكانيزمات إلى قوة عكسية أي محاربة بقاياها،
ومحاولة كسب وفهم وبلورة الثقافة السجنية…
ـ"ب"ـ انفلات الثقافة السجنية من الفضاء السجني:
لقد رأينا في العنصر السابق الآثار الناجمة عن الإقصاء وردود الفعل
الموجهة ضد خرّيجي السجون، ومدى مساهمتها في بروز ما يسمى بـ"الثقافة
الفرعية"، والرغبة في العودة إلى الحياة والثقافة السجنية، وبلغة أخرى،
رأينا مدى مساهمة الثقافة النمطية في تغذية السجون والثقافة السجنية… أما
في هذا العنصر فسنحاول تناول نفس النقطة، ولكن في الاتجاه المعاكس، أي مدى
مساهمة وتغذية الحياة والثقافة السجنية للحياة الانحرافية والثقافة
الفرعية.
إن التزايد المستمر لعدد السجناء ينتج عنه مشاكل اجتماعية خطرة، يتمثل
أهمها في تكاثر نسبة خريجي السجون والمتأثرين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة
بالثقافة السجنية، وبما أن من خصائص الثقافة الامتداد والانتشار، إضافة
إلى خاصية التأقلم والتي تعني خلق أرضية مناسبة لها… فإن الثقافة السجنية
سوف لن تقف عند خريجي السجون بل، ستنتشر إلى الفئات الأخرى ولاسيما الشباب
منهم، وخاصة المتواجدين في الأحياء الشعبية، حيث تلعب الظروف الاقتصادية
والاجتماعية والتعليمية دورا أساسيا في ذلك(4).
ومن أهم الوسائل الفعالة في انتشار الثقافة السجنية في المحيط الخارجي نجد
" الأغاني الشعبية" (المزود). حيث تحظى هاته النوعية من الأغاني بإقبال
شبابي كبير، تجاوزت في الفترات الأخيرة المناطق الشعبية لتصل إلى المناطق
الأخرى… وما تجدر ملاحظته أيضا هو أن العديد منها كتبت وألفت داخل المؤسسة
السجنية. كما أن أهم نجوم الأغاني الشعبية سبق لهم وأن عرفوا الحياة
السجنية… إضافة إلى كل ذلك، فإن كل فاعل اجتماعي (متخرج من السجن) يستبطن
في داخله الثقافة السجنية التي ستتفاعل إيجابا أو سلبا مع الثقافة النمطية
المجتمعية.
الممارسات والأنشطة الفنية:
وهي ممارسات منتشرة في كل الأجنحة والغرف، رغم الاختلاف في المنتوج أو
الممارسات الفنية، وتلعب هذه الأنشطة دورا مزدوجا داخل المؤسسة السجنية،
فمن جهة أولى تعتبر إحدى الوسائل الدفاعية الأساسية لمقاومة الحياة
الروتيبية والضغوطات والاكراهات التنظيمية، ومن جهة ثانية تمثل إحدى
الوسائل "الاتصالية التواصلية" التي تربط الفاعل الاجتماعي بالعالم
الخارجي، ومن بين أهم و أبرز هذه الممارسات والأنشطة الفنية السجنية نجد:
-"أ"- الوشم:
من التعابير الرمزية والفنية المنتشرة داخل الفضاء السجني نجد ظاهرة
الوشم، وتجسد هذه الظاهرة إحدى الوسائل غير الشرعية التي يعتمد عليها
الفاعل الاجتماعي لربط علاقات تواصل بين المحيط السجني والمحيط الخارجي،
ورغم تعدد وظائفها (ظاهرة الوشم)، إلا أنها تؤكد بشكل أو بآخر المعنى
"الاتصالي التواصلي"، و قد ذكر لنا الباحث كاملي بالحاج في دراسته:
"الوشم سيميوطيقا و طقوس (قراءة في لغة الأشكال والرموز"(5) خمس وظائف
للوشم هي:
أولا: الوظيفة السحرية: وتتمثل في الاعتقاد بأن للوشم قدرة فعلية على تجنب
المصائب والآفات المتأتية من العوامل الطبيعية والاجتماعية… كما يزيل
"الحسد" و"العين"، وتضاعف من قدرات الإنسان على استعمال العنف، ويقول
"كاملي بالحاج" : "لقد كان الإنسان القديم يعتقد أن الوشم يقوّي المفصل
الذي وشم عليه"(6)، ولعل لهذه الجذور التاريخية والطقوسية للوشم أثرا على
نوعية الوشام السجنية، فمن بين الصور والكتابات الوشمية التي وجدناها خاصة
في الجناحH بالسجن المدني بتونس: صورة قبر وتحتها كلمة "الموت" لتدل على
قوة وخطورة هذا الذراع الموشوم، أو صورة سمكة أو "خمسة يد" لتدلّ على
تجنّب "الحسد"، أو العبارة التالية "Tout passe"، أو "الصبر" للدلالة على
قدرة تحمّل آلام السجن… وعموما كل هذه الصور والكتابات الوشمية كانت تعبر
عن اعتقاد راسخ في ذهن الفاعل مستوحى من عالمه الخارجي، فهو نوع من
الاتصال والتواصل الاعتقادي الطقوسي الذي يربط المحيط السجني بالمحيط
الخارجي.
ثـانيا: الوظيفة الاجتماعية: لقد أثبتت الدراسات "الفولكلورية"
و"أنثروبولوجية" أهمية هذه الوظيفة الاجتماعية، فعن طريق نوعية الوشم
وشكله الهندسي يمكن التمييز بين القبائل والعشائر، كما يرمز الوشم من
الناحية الاجتماعية على بلوغ سن الرشد و النضج الاجتماعي وإلى اكتمال
الرجولة…
فمن بين الأدوار الأساسية التي يقوم بها الوشم في هذا الفضاء السجني،
التمييز بين المنتمين للمؤسسة السجنية، وبين المنتمين للمجتمع الخارجي،
فمن خلال الممارسات الوشمية يعبر الفاعل الاجتماعي عن أولى ردود فعله تجاه
"الوصم" الاجتماعي تجاهه (الانحراف)، ويعبّر عن رفضه للمجتمع الذي سبق له
أن رفضه (الرفض المقابل)، وبالتالي يعبر عن انتمائه لهذا الفضاء السجني
وعن هويته السجنية الانحرافية، ولعل هذه النقطة بالذات هي التي جعلت السلط
الإدارية السجنية تقحم الوشم ضمن المخالفات القانونية وترفقها بعقوبات
قاسية، وهكذا تمثل الممارسات الوشمية وسيلة اتصالية تواصلية تربط الفاعل
الاجتماعي بالعالم الخارجي، ولكنه تواصل واتصال من نوع خاص، أي من النوع
السلبي الذي يتخذ شكل المواجهة الرمزية من خلال تحديد الهوية والانتماء
الاجتماعي الجديد، ومن خلال رفض كل أشكال التهميش…
ثالثا: الوظيفة الجنسية: يقول كاملي بلحاج بأن الوشم هو: "علامة على النضج
الجنسي وقيمة من قيم الجمال الأنثوي المحرك للرغبة الجنسية، ومن ثم تكون
المرأة غير الموشومة فاقدة لأنوثتها وجمالها ودليلا على البرودة الجنسية
فيها"(7). وتقوم فئة الملاوطين بتعويض الجنس الأنثوي في هذا الفضاء
السجني، حيث يتميزون بنوعية خاصة من الوشام، كالصور الحاملة والمعبرة عن
بعض مفاتن المرأة، والقادرة على تحريك الرغبة الجنسية لدى الفئات الأخرى،
ونادرا ما نجد هذه الصور الوشمية على الذراعين كما هو الحال في الوظائف
الأخرى، ولكن عند الملاوطين تتركز بشكل محدد على الظهر أو الصدر… وهكذا
تلعب هذه النوعية الوشمية الدور التعويضي للممارسات الجنسية وللإغراء
الجنسي، على غرار ما نجده خارج المجتمع السجني.
رابعا: الوظيفة الجمالية: في ظل غياب العديد من وسائل التجميل داخل الفضاء
السجني، يبرز الوشم كإحدى الوسائل التعويضية لذلك، ويكمن البعد الجمالي
والفني في:
- تناسق الأشكال وتناظرها.
- إتقان تجسيد الصور الوشمية.
- القدرة الإبداعية في التصوير…
وتعكس هذه الصور الوشمية حسا جماليا ينطلق من محاكاة الأشكال المرئية في
الواقع السجني، والأشكال المعبرة عن رغبات الفاعلين في التحدي أو الانفلات
من هذه الجدران والقضبان العالية. فعبر الوشم يعبر السجين عن نوعية علاقته
بالعالم الخارجي والعالم السجني من خلال صور وشمية تحمل الكثير من الأبعاد
الجمالية والفنية والإبداعية…
خــامسا: الوظيفة السياسية: وهي أهم وظيفة لا شعورية للوشم، يعبر من
خلالها الفاعل الاجتماعي عن تحديه للنظام الإداري السجني، ورفضه لكل شكل
من أشكال السلطة والضغوطات المجتمعية والسجنية، ويقول كاملي بلحاج في هذا
الإطار: "تتجلى الوظيفة السياسية للوشم لدى فئة الشباب على الخصوص، وهو
يعد تعبيرا رمزيا عن رفض الإنسان للنظام أو السلطة تكون عبارة عن نقاط
ثلاث بين الإبهام والسبابة، في حين يكون شكل الانتماء عبارة عن نجمة
وهلال…" (8). وتتجسد الصور الوشمية المعبرة عن الوظيفة السياسية داخل هذا
الفضاء السجني في:
- صورة لنسر يحلّق في الفضاء: دلالة على الحرية والقوة والسموّ.
- صورة ليدين تمكنتا من قطع سلسلة حديدية سميكة.
- ثلاث نقاط بين الإبهام والسبابة: تعبر النقطة الأولى عن رفض وتحدي
للسلطة الدينية "ما نخافش من ربي" وتعبر النقطة الثانية عن رفض للسلطة
السياسية وتحدّيها "ما نخافش من الحاكم" وتعبر النقطة الثالثة عن رفض
وتحدي للسلطة العائلية "ما نخافش من والديّا"… وتتحدد النقاط في الشكل
التالي:
.
. .
- خمس نقاط توضع على الذراع الأيمن أو الأيسر وأحيانا توضع فوق كف اليد،
لتعبر عن السجن ويكتب تحتها العبارة التالية: "للصبر حدود"، أما شكلها
الهندسي فيتمثل في:
. .
. ـــــــ
. .
ترمز موقع السجين، أما النقاط الأربع فترمز إلى الجدران.
ـ"ب"ـ التصوير:
وهي ممارسة فنية تتميز بانتشارها داخل الفضاء السجني، وبعدم احتكارها من
قبل فئة معينة أو جناح معين، وعلى الرغم من هذا الانتشار وهذه الأهمية،
فإن دلالتها الرمزية تختلف من جناح إلى آخر ومن فئة اجتماعية إلى أخرى، و
تلعب المتغيرات التالية:
- السنّ.
- التجربة السجنية.
- الانحدار الاجتماعي.
- المكانة الاجتماعية خارج السجن.
دورا أساسيا في تحديد دلالتها الرمزية، فمثلا في الجناحH الذي يتميز
متساكنيه بصغر السنّ، وبالتجارب السجنية السابقة، وبانحدارهم من المناطق
الشعبية وبعدم تموقعهم في المواقع الاجتماعية المرموقة خارج السجن… نجد
الترابط الجذري بين الشكل المصور والصور الوشمية، والتي تحمل الدلالات
الرمزية التالية:
"*" أولا: الدلالة الرمزية الجنسية: وتتجلى في تصوير الصور الخليعة أو بعض مفاتن المرأة…
"*" ثـانيا: الدلالة الرمزية العنيفة: وتظهر في تلك الصور التي تعبر عن
العنف المكبوت الذي يحمله الفاعل في ذاته، كصورة السيف أو الخنزير، أو
قبضة اليد ويكتب تحتها "الموت".
"*" ثـالثا: الدلالة الرمزية الانعتاقية: وهي تلك الصور المعبرة عن رغبة
الفاعل في الانعتاق من هذه القيود السجنية، وعن الرغبة في التحرر، مثل
صورة الصقر وهو يحلق، أو صورة اليدين القادرتين على قطع سلسلة حديدية…
و كنقيض لهذا الجناح يمكن أن نأخذ الجناحC والذي يتميز متساكنوه
بالمتغيرات التالية: كبر السنّ، وانعدام التجربة السجنية، والانحدار من
المناطق الاجتماعية المحضوضة، واحتلالهم للمواقع الاجتماعية المرموقة خارج
السجن… حيث يوظف التصوير في إضفاء الصبغة الجمالية للرسائل التي يرسلونها
إلى أقاربهم أو أصدقائهم أو توظف كوسيلة دفاعية، وتتجسد الصور في الأشكال
التالية: صور الورد والزهور، صور العصافير وأحيانا الصور الكاريكاتورية.
ومهما كان الشكل المصور، فإن الفاعل الاجتماعي يتخذها بطريقة واعية أو
لاواعية للتعبير عن نوعية العلاقة التي تربطه بالعالم الخارجي: الرفض
والتحدي أو الرغبة في الخروج إليه والحنين لكل ما يربطه بالمحيط الخارجي…
-"ج"- كتابة الشعر:
إن من أهم ما لفت انتباهنا في هذا البحث الميداني هو الاهتمام الكبير من
قبل كل السجناء وفي كل الأجنحة بالشعر، وبإتقان الكتابة الشعرية، وخاصة
دلالة هذه الكتابات. ومضمونها.. وعموما يمكن تصنيفها إلى صنفين:
أولا: الكتابة الشعرية باللغة العربية الفصحى: وهذا النوع من الشعر يكاد
يحتكره الجناحC، نظرا لمستواهم التعليمي وإتقانهم ومعرفتهم المسبقة ببعض
شروط الكتابة الشعرية. ولكن هذا لا يعني نفيها كليا في الأجنحة الأخرى.
ثـانيـا: الكتابة الشعرية باللغة العامية (الدارجة): وهو أكثر أنواع الشعر شيوعا وانتشارا، وينقسم بدوره إلى نوعين:
* شعر الفرح: أحيانا يبقى هذا النوع من الشعر على شاكلته الشعرية وفي أغلب
الأحيان يلحن ليتحول إلى أغنية شعبية، أو يتم تركيبه على وزن إحدى الأغاني
الشعبية المشهورة.
* الشعر المزموم: ويتمثل في نوعية مميزة من الشعر، يعبر من خلالها السجين
عن أحزانه وآلامه الشخصية الناتجة عن عزله عن محيطه الخارجي، أو آلام
السجن ومرارته، وعادة تتحول كل هذه الأشعار المزمومة إلى أغاني سجنية…
ـ"د"ـ الغناء والطرب:
لا تكاد تخلو أية غرفة من غرف المؤسسة السجنية من المطربين، الذين يحتلون
أماكن ومواقع اجتماعية مرموقة بين السجناء، ويقومون بوظيفة مزدوجة:
أولا: إدخال البهجة والسرور في نفوس بقية الفاعلين من خلال تلك الأغاني
الشعبية (المزود) التي يحفظونها ويتقنون أداءها، أو الأغاني التي وقع
إنتاجها داخل السجن… وتبرز أهمية هذا النوع من الأغاني بأكثر وضوح حين
يتعطب جهاز التلفزة أو حين انقطاع الكهرباء(9) أو في حالة وجود شخص متّهم
في تهمة الزنا وأتمّ عقد زواجه مع قرينته داخل السجن، ففي هذه الحالة،
يقيم له السجناء حفلا يشابه كثيرا حفل الزواج خارج هذا الفضاء السجني
(الزغاريد، أغاني الأعراس…). فعبر هذا النوع من الأغاني يحاول الفاعل
الاجتماعي إزالة الطابع الانعزالي لهذه المؤسسة. وإزالة كل الحواجز
النفسية التي تفصله عن العالم الخارجي، ونسيان ما يجب نسيانه.
ثانيا: التصعيد: و تتمثل في إثارة الآلام السجنية أو التذكير بالارتباطات
العائلية (خاصة الأم)، والضغوطات والإكراهات السجنية… ويكون ذلك عبر ما
يسمى بالأغاني "المزمومة" والتي تحمل بعدا تشاؤميا، ولكنها مطلوبة وتحظى
بإعجاب أغلب السجناء، ومن أشهر هذه الأغاني نجد أغنية "نيراني جاشي شاعلة
ميقودة"، ومن بين مقاطعها يمكن أن نذكر:
"… بعد إلّي هوى نجمنا وغاب، الأيام دال بدالة
السجن وفراق الأحباب، والصبر لله تعالى
والله نصبر، واش ينفع التخمام في اللي مقدر
مكتوب ربي على الجبين مسطر، وأيام الحبس مسطرة ومعدودة
… الدهر فرقنا ومن العكس يا ناس دونــــــــي
سبب ربطيتي جات من الغير في السابقة يكرهونـــ ـي
تقارو عليا معاريف، وفي الكونفة خرجونـــي
خرجت قبالة، من حبس الجديد كونفة للزنزانـــــــــــة
شوفو المربوط يا ناس واش إجرالـــــــــــه
واللي عمل سوابقة مجبــــــــــــودة… "
وكثيرا ما يتفاعل السجناء مع هذا النوع من الأغاني إلى درجة البكاء… ولعلّها لهذا السبب سميت بالأغاني المزمومة التشاؤمية