ثمّة
العديد من الالتباسات التاريخية التي يعاني منها تاريخ الإسلام، حتى
صار من الصعب التمييز بين الخرافيّ والأسطوريّ والتاريخيّ
والدينيّ. ويزداد الأمر تعقيدا كلما ازددنا اقترابا من مركز التاريخ
الإسلامي، ونقصد مرحلة ظهور النبيّ، ثم مرحلة الخلفاء الراشدين.
بحيث إن طبيعة التعامل مع أحداث هذه المرحلة التي تعتبر حاسمة وخطيرة
في تاريخ صناعة التاريخ الإسلامي، وبلورة الدين والخطاب الإسلاميين،
صارت مشوبة بالحيطة والحذر، بعدما أحيطت بهالة تحولت بمرور الوقت إلى
منطقة مقدسة في تاريخ الإسلام، وقطعة زمنية محرمة لا يجوز الاقتراب
منها إلا ّوفق شروط وأدوات وآليات تنضبط وفق انتظام معرفيّ يزيد من
تمجيد المُمجّد وتقديس المقدّس.
هكذا صار من الصعب تناول شخصيات ارتبطت بأحداث ذات طبيعة دينية،
بل يزداد الأمر صعوبة، إذا حاول الباحث أن ينظر إلى الأمور من زاوية
مختلفة عن السائد والمكرور..وهو ما يزيد صعوبة المقاربة العلميّة
والموضوعيّة للتاريخ العربيّ الإسلاميّ. فلم يعد مقبولا إعادة قراءة
الأحداث والوقائع، ولا إعادة تفحّص المعطيات التاريخية التي وصلتنا،
وصار من باب الكفر تجريح أو مناقشة بعض القضايا التي من شأنها أن تسقط
الطابع القدسي والميثي عن بعض الشخصيات وإعادتها إلى الواقع التاريخي
وسياقه.. حتى إن اعتمد الباحث المصادر التي لا تدخل في
دائرة"المغضوب عليه" مثل تاريخ الطبري، أو أقوال بعض الصحابة، أو
أحداث ووثائق محسوم في أمر حُجّيتها.
ومن المغالطات التي لم يتخلص منها الإنسان العربي والمسلم، هو
أنه يتعامل مع التاريخ وكأنه كله وقائع دينية منزلة وقد أُريد لها أن
تكون كذلك بأمر إلهي. والحال أنّه حتى إن سلّمنا بهذا فهل يمكن أن
يستمرّ زمن الوقائع الدينيّة إلى ما بعد وفاة الرسول؟ ! وكيف يمكن أن
نسلّم بجواز »العصمة« وعدم النطق عن الهوى حتى بالنسبة للخلفاء؟!
وكيف يمكن أن نمرّ مرور الكرام على حادث السقيفة الذي يعتبر حاسما
في مجرى تاريخ الدولة ومفهوم الولاية/الخلافة؟ ثم كيف نستمرّ في
المحافظة وإعادة صناعة الوهم التاريخيّ والعقديّ والدينيّ في
تغييب واعٍ أو غير واع للصيرورة والسياق التاريخيين؟
والحالة هذه، كيف يستمر المجتمع العربي الإسلامي، ومعه نخبه،
في التسليم بما سلّم به السلف، من قبيل مفهوم"الصحاح"والوقوف عند
المذاهب الأربعة، والتسليم بالنصّ المقدّس الذي وصلنا، كخطاب
يتكون الوحي والسنة، والسنّة كفعل وحديث؟ وكيف يستمرّ الحال على
التسليم بإطلاقية حقيقة كون المصحف هو القرآن والقرآن هو المصحف؟ ثم من
يجعل المعطى النصّيّ الذي وصلنا هو المطلق؟ لا من حيث ترتيبه، ولا
من حيث كليته، ولا من حيث صياغته؟ إنها أسئلة تقودنا إلى وضع اليد على
العديد من السلط الرمزية التي صارت مقدّسا له حرّاسه ومن يدافع عنه
بكل الوسائل، وهم بذلك يكونون قد قدموا إساءة ووأدا غير مسبوقين
للعقل من جهة، وللصيرورة التاريخية من جهة أخرى. من هنا، سنفتح بابا
نعتبره مدخلا ضروريا للنظر في البنى التي صنعت نوعا من الحقيقة التي
هيمنت وما تزال. أكثر أبو هريرة: يعتبر أبو هريرة من أكبر رواة
الحديث عن النبيّ، وما يزيد من سلطته، هو حضوره الواضح في كتب
الصّحاح. غير أن المثير في أمر هذا الرجل، هو مبالغته في
الرواية، من جهة، كما أنّ سيرته تشي بوجود شكوك في صدقيّته،
وفي أمانته، خصوصا أنّ التاريخ يشهد على وقائع وأحداث عكس ما صوره
"المخيال" الديني الأسطوري الذي ظل محكوما بأوهام الإسلام
الشعبي. في كتاب صدر للأستاذ مصطفى بوهندي يحمل عنوان »أكثر أبو
هريرة« يحاول أن يقف عند مجموعة من القضايا التي طرحناها.
وبالعودة إلى زمنه نجد أنّه كان محطّ تشكيك من قبل معاصريه. ولعل
الباحث بوهندي بتتبعه لمسار الرجل، انطلاقا من الجدل الذي دار حوله
وحول رواياته، قد جانب الصواب، واقترب أكثر من الحقيقة التاريخية،
حين استنتج بأن الرجل لم يكن صحابيا، بمعنى لم يصاحب الرسول، بل
إنه توصل إلى أنّ الرجل لم يسلم إلا في عهد عمر بن الخطاب، وهذا
يعني أنه لم يكن ملازما للرسول، كما روّج هو. وقد كان أجيرا عند
آل عفّان وابنة غزوان مقابل أن يشبع بطنه إلى أن تزوج بها وصار إماما
وأميرا، وهذا ما يسقط عنه دعاوي الحفظ التي أكرم بها دون غيره
من الصحابة، والتي كان يتشدّق بها. وإذا كان أبو هريرة قد سوّلت
له نفسه بأن يتظاهر بمصاحبة النبيّ، فإنّ ذلك كان كافيا لكي يجعله
»مدلسا« حيث روى الذهبي بسنده"سمعت الشعبي يقول: كان أبو هريرة
يدلّس"، ثم قال: "قلت تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه، فإن
تدليسهم عن صحابة أكبر منهم والصحابة كلهم عدول". ولعل التدليس الذي
يستوقف الباحث، ليس تدليس الصحابة، وإنما تدليس رجل يدعي أنه كان
صحابيا. وهذا أمر خطير لما يترتب عنه من صناعة للحقائق التي شكلت
الخطاب الديني الإسلامي، من حيث هو شريعة وفقه. والتدليس -حسب
بوهندي- لم يكن عيبا في زمن لم يكن الرواة يُسألون عن شيوخهم.
لكن أبا هريرة الذي لم يكن عالما ولا فقيها ولا حتى كاتبا يمكن
الاعتماد على علمه وفقهه، كان راوية وقصاصا. وقد زاد من قيمته وقدره،
العامل السياسي، بحيث عرف عنه ولايته لبني أمية وآل مروان، وقد
خدمهم ودافع عنهم وعن حكمهم وملكهم. كما عرف عنه عدم أمانته، فقد روى
الطبري أن عمر ولاه على البحرين سنة 20هـ، وبعد ذلك أبلغ عنه
أشياء تخلّ بالأمانة، وهو ما أدّى إلى عزله ليولّي مكانه عثمان بن
أبي العاص الثقفي.
وكان لأيادي بني أمية على أبي هريرة بسبب ما أدركوه من صنيع
الرجل معهم، وقدّروا موالاته فأغدقوا عليه من أفضالهم وغمروه برفدهم
وعطاياهم، ليتحول حاله من فقر إلى ثراء، ومن ضعة إلى علياء. وهكذا
بنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا به. إن سيرته السياسية، وتدليسه،
وتمويهه وتظاهره بصحبة الرسول، كلها أمور تكشف عن القيمة الحقيقة
للرجل، وهو ما انعكس على قيمة الأحاديث التي رواها وطبيعتها، بحيث
يغلب عليها القصص وأخبار الأمم السالفة والبائدة. وهذا في حدّ ذاته
دالّ. ووجب أن نشير إلى أن مجموع الأحاديث التي رواها والتي وردت
في الكتب التسعة تصل إلى 8740 حديثا من مجموع 62169 حديثا أي
ما يزيد على سُبُع الأحاديث. فإلى أيّ حدّ يمكن التّسليم بما
رواه الرجل؟ وكيف نسمح لأنفسنا بأن نضفي عليه سمات القداسة والأَسطرة
ونجعل منه أحد أكبر صُنَّاع الحقيقة الدينية؟