[1]لمْ يَكْتَفِ الشَّابي بكتابة الشِّعر، بل مَارَسَ تَنْظِيرَهُ أيضاً.
ليس غريباً، أن يصْدُرُ كتاب " الخيال الشِّعري عند العرب "، قبل صُدور "
أغاني الحياة ":
كانَ الشَّابي، وهو يعُودُ إلى الماضي، يُحَاولُ وَضْعَ اليَدِ على
مَوَاطِنِ الجُرْحِ في مُمارَسَةٍ شعرية، بَدَا لَهُ، أنَّهُ مِن غير
المُمْكِن أنْ تَظَلَّ العلاقةُ بها، بعِيدَةً، أو أن تَظَلَّ هذه
البِداياتُ، خَارِجَ المُساءَلَة، أو تكون، في أقصى الحالاتِ وأعْتَاهَا،
ذلك الأصل الذي لا يمكنُ للشِّعْرِ أن يكُونَ دونَ العودَة إليهِ، أو
احْتِذَائِهِ.
كَتَبَ الشَّابي، وفقَ اختيارٍ شِعْرِيٍّ، ليس هو اختيار القُدماء، أو
هكذا كان يَتَصَوَّر اخْتِيَارَهُ. فهو كانَ على وَعْيٍ بما هو مُقْدِمٌ
عليه، لأنَّهُ حين اخْتَارَ الخيال، فهو ذهَبَ إلى مَكَانٍ، ظَلَّ بعيداً
عن المُقارَبَةِ، أو هو، حتى في حالاتِ مُقَارَبَتِهِ، لَمْ يخرُجْ عن تلك
العلاقات التي عَمِلَتِ الرُّؤيةُ البيانية على تَثْبيتِهَا، وتَكْريسِ
نَمَطِيَتِهَا.
اخْتِيَارُ الشَّابي للخيال الشعري، كانَ يسيرُ في نفس سياق اختيارِه
النصي، فالرومانسية الشعرية، التي كان الشَّابي أحد مُمَارِسِيها، كانَ
الخيال، أحد المُكَوِّنات البانية لخطابِها، وأحد الأُسُس التي عليها كانَ
مَدارُ اختيارها الشعري.
العودَةُ إلى القديمِ لمُسَاءَلَتِهِ، من هذه الزَّاوية بالذَّات، كانَ
في صُلْبِ عمل الشَّابي، أعني في صُلْبِ اختيارهِ الشِّعري، الذي لمْ
يَكُنْ مُقْتَنِعاً، بالاختيارات الشِّعريَة القديمة، بمُختلَفِ
أعْصُرِها، أو مراحلِ " تَوَسُّعِهَا ". هذه الاختيارات التي ظلَّت
محكومَةً، كما يذهَبُ هو نفسُه إلى ذلك، بنفس التَّصَوُّرِ، ولم
تُغَادِرْهُ إلاَّ لِمَاماً.
ألَيْسَ الشَّابي مَنْ يَرَى، وهو بصدد الحديث عن " الرُّوح العربية "،
أنَّ " كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعاً على غرار واحد ومُصْطَبِغاً
بصبغة واحدة..". أي أنَّ هذا العقل، هو نفسُه، لم يخرج عن طبيعة النَّمَط
الذي ظلَّ يحكُمُ رُؤْيَتَهُ لِلْأَشياء. والعقل هنا منظوراً إليه من باب
الخيال، الذي يرى فيه الشّابي ضرورة لا غنيةَ عنها للإنسان " كالنُّور
والهواء والماء والسماء "، وهو ضَرُوريُّ " لروح الإنسان ولقلبه، ولعقله
ولشعوره، مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً ". لكن الخيال عند العرب،
لم يَتَخَطَّ ظاهِرَ الشِّيْءِ، ولمْ يستطع أن يَبُثَّ الحياةَ في
اللُّغَةِ، التي لا يمكنُ أن تحيا دون خيال.
الخيالُ الذي حَرِصَ الشَّابي على قيمتِه، أو على جماليته، هو " الخيال
الشعري "، وليس " الخيال الصناعي ". فخيال الشَّابي، أو ما يَتَبَنَّاهُ
الشَّابي من خيال، " فيه تنطبع النظرة الفنية التي يُلقيها الإنسان على
هذا العالم الكبير… لأنَّه يضربُ بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشُّعور".
[2]قَدْ يبْدُو الشَّابي مُغَالِياً في موقفه من الشعر العربي القديم، من
" القصيدة "، كما أسَّسَتْ لها الشعرية العربية، من الجاهلية حتى الأندلس،
لكن، حين نتأمَّلُ خلفية رؤيتِهِ، وطبيعة المشروع الشِّعري الذي عَمِلَ
على بنائه، فإنَّ هذه المُغالاة تَنْفَرِطُ وتتلاشى، لأنَّ ذهابَ الشَّابي
إلى الخيال، و إلى الأسطورة.. في هذا الاختيار الشِّعري القديم، كانَ
مَحْكُوماً باختياره الشعري الذي لم يكُن يرى في تجديد الوزن، قيمَةً
أساسيةً، بل إن قيمة الشِّعر لا تحدُثُ إلا بتحويل الخيال مِنْ ظاهِرِ
الأشياء إلى عُمقِها. أي أن يُصبِحَ الخيال تعبيراً عن يَقظَة الرُّوح، و
عن الإحساس بما وراء الأشياء. فالشاعـر العربي، في تعامُلِهِ مع الجسَـد،
لم يُحاوِل " أن يُحِسَّ بما وراء الجسد ".
الخيال بهذا المعنى، هو دال الرومانسية الكبير، وهو ما سَيَعْمَلُ على
إعادة ترتيب النَّسَبِ الشعري، وتحويل الرؤية، من مُجَرَّد لَعِبٍ
بالكلام، واستعادة للذاكرة، و ما تمتليء به من صُوَرٍ وتعابير، إلى نوع من
الانقلاب في الرؤية، ليس إلى الأشياء، بل إلى الإنسان في علاقته بالوُجود.
اللُّغَةُ، قد تكونُ ذات قيمة في الشِّعر، لكن ليس بالمعنى الذي يجعل
اللُّغةَ تكونُ آلَةَ الشَّاعِرِ في قول الأشياء. اللُّغَةُ وفق هذا
المنظور هي الْمَاوَرَاء. هي " الدُّنُوُّ من سراديب الجبال و أعماق
الكهوف و الأودية..". أي ما يُضْفِي على اللُّغة قيمتها الأنطولوجية، و
يجعلها بالتالي، تَنَنَزَّلُ مِنْ ثَنايا الرُّوح، لتُقيمَ في ما
سَيُسَمِّيهِ الشَّاعر، أو في ما هو مُقْدِمٌ على تَسْمِيَتِهِ.
الشَّابي كان واعياً باختياره الشعري، وبتلك التُّخُوم التي هي نوعٌ من
العودة إلى بداية الوُجودَ، أعني الوُجود الشِّعري، الذي كانَ أوَّل
مُواجَهَةٍ خاضَها الإنسانُ مع ذاتِه، ومع ما كان يَعْتَمِلُ في نفسه من
قَلَقٍ، صاحَبَهُ منذ أوَّل هذا الوُجود. فتسميةُ الوُجود، بهذا المعنى،
كانتْ مِنْ مَهامِ الشَّاعرِ، ومن تَبِعَاتِ وظيفتِهِ. لكن، وفي ضوء
التصور الذي ذهبَ إليه الشّابي، تأجيجُ الخيال، يبقى هو الوسيلة التي
سيستعيدُ معها الشِّعرُ عُمقَهُ، ويَعودُ لِـ " أوَّل نشأته "، أي نشأة
اللغة، حين كان الخيال " حقيقة ". لأنَّ " المعاني الخيالية " كما يقول
الشَّابي، " أقرب إلى ذهن الإنسان الأوَّل من المعاني الحقيقية ".
أليسَ الشَّاعرُ، بهذا المعنى البعيد الذي يذهبُ إليه الشَّابي، هو
الإنسانُ الأوَّل. السَّاهِرُ على هذه " الحقيقة الغائبة "، أو على
مُراقبَة، فرق المسافة الذي يفصِلُ بين ما هو خيال، و ما هو حقيقة. "
وصفوةُ القول، يقول الشَّابي، إنَّ الإنسان مضطر للخيال بطبعه، محتاجٌ
إليه بغريزته…و أن اضْطِرَارَهُ إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالاً
وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطوَّرت نظرتُهُ إلى هذه
الحياة ".
[3]عودةُ الشَّابي إلى بَدْءِ الأشياء، إلى بَدْءِ تَسْمِيَاتِها، كان أحد
لحظات انفصالِهِ، عن المُقتَـرَح الشعري القديم. إذا كان الشَّاعرُ
القديمُ يُسَمِّي الأشياء صِِنَـاعَةً، أي بتبني ما سمَّاهُ الشَّابي بـ "
الخيال الصناعي "، الذي هو في خَلْفِيَةِ التَّسْمِيَة، ليس سوى رَجْع
صَدىً لِتَسْمِيَاتٍ سابِقة، فالشَّابي كان يَخوضُ الشِّعْرَ، في
تُعَرُّجاتِهِ والْتِواءَاتِهِ، كما يقول، " لأنَّ الآلهة العربية [في
الوضع الأسطوري] لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال ". أو لا تُتيحُ،
بالأحرى للخيال أن يَشْتَعِلَ ويفيضَ من داخل الذات، أي مِنْ جِرَاحَاتِها.
لم يكن نقد الشَّابي مُوَجَّهاً للشعر القديم، أي إلى النص، في حَدِّ
ذاته، فهو ذهَبَ إلى الروح العربية، إلى العقل الذي يَحْكُمُ رؤية العربي
للأشياء. وبغضِّ النَّظر عن تأثير المكان في الشاعر، كما يرى الشَّابي،
فإنَّ قوَّة أطروحتة، هنا تُوجَدُ، وليس مُهِمّاً ما وصلَ إليه من نتائج.
في هذا النوع من النَّقد، الذي يَمُسُّ الأساسات، تبدو خُطورةُ الرؤية.
الشّابي، تركَ البناء جانباً، وذكَّرَ بما في الأساسات من خلل في النَّظر،
وما تلا ذلك من بناءات،
ظلَّت في جوهرها، نوعاً من التَّراكُمِ القائمِ على هشاشَةٍ لا أحَدَ ذَكَّرَهَا، أو عادَ لِمَوْطِنِ الخَلَلِ فيها.
لم يكن الشَّابي ينظرُ إلى الماضي، حين أقدَمَ على تَذْكِيرِ هذا
النِّسْيَانِ، بل كان، في ما هو يقرأُ خَلَلَ الماضي، ينظُرُ إلى
المُستقبل. لا شيءَ في ما قرأهُ، في هذا الماضي، كانَ يُشيرُ إلى
المُستقبل، فهذا الأدب الذي امتدَّ من الجاهلية إلى الأندلس، رغم اختلافات
الأمكنة، والأمزجة، ظلَّ هو نفسُهُ، مُقيماً في نفس البنية، وفي نفس
الأُسُسِ، لم يَسْمُو إلى ما هو أبعد منها.
[4]جذريَةُ نقد الشَّابي للقديم، لِمَا هو مُسَلَّمٌ بِهِ،
ولِلْأَسَاساتِ، جَاء في سياق ما عرفتهُ الثقافة العربية الحديثة مِنْ
نُزوع نحو " الشَّك "، واختبارِ لـ " اليَقِينِـ " ياتِ. صدر الكتاب سنة
1929، أي بعدَ صدور كتاب " في الشعر الجاهلي "، لطه حسين، بثلاث سنوات،
دون ذكر ما صدر من كُتُبٍ، عملت على فتح مُواجهات على أكثر من صعيد.
فرقُ الهواء بين العَملين، كان في المنحى الشِّعري الذي كان الشَّابي
يَخُوضُهُ، أي في مشروعه الشِّعري الذي حَرِصَ على جذريتِهِ، وعلى
نُزُوعِهِ المُستقبلي. كان التَّوَجُّهُ الرومانسي، نوعاً من الوضع
الطَّاريءِ على الشِّعر العربي، وهو ما بدا في رفض شيوخ الزيتونة لشعر
الشَّابي، و تَوَجُّسِهِم من (تطرُّفِهِ)، إبَّانَ مرحلة التَّعَلُّم، و
أيضاً، في إدراك الشَّابي، لِمَا هو مُقْبِلٌ عليه مِنْ عمل استثنائي،
وهذا ما سَيُطَوِّحُ به إلى زَمَنٍ، هو غير الزَّمَن الذي يعيشُ فيه.
سَيُدْرِكُ الشَّابي فَداحَةَ اليُتْمِ، وسَيُقْبِلُ عليه بغُربَتِهِ،
لكنَّهُ آمَنَ بِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ولمْ يَتْرُكْ جِمارَهُ، بل ضَاعَفَ
مِن اشْتِعالِها، حين بَدأ الجُرْحَ بـ " الخيال الشعري.."، قبل أن
يصدرَ ديوانَهُ " أغاني الحياة "، الذي عَمِلَ على جمعه، واختيار نصوصه،
دونَ أن يعيشَ حَدثَ صُدورِهِ.
عَمَلانِ، معاً، جاءا لِيُؤَسِّسَا لِرُؤْيَةٍ شعريةٍ مُغايِرَةٍ.
نَفَسٌ واحِدٌ كانَ يَجْمَعُ بين العملين، رغمَ فرق الزمن. الشَّابي في "
الخيال الشِّعري "، كانَ يُمَهِّدُ لِمَشْروعِهِ الشعري، وهذا ما
يَتَبَدَّى في مواضِعَ من كتـابِهِ، فيها كان يُقارِنُ بين ما تَتَمَيَّزُ
به " الروح الغربية " من عُمقً، وما كانَت " الرُّوح العربية "، غارِقة
فيه من عَرَضٍ، و لامارتين، الذي قرأهُ مُتَرْجَماً، كان نموذجَ هذا
العُمق، أعني الروح الغربية.
حضور لامارتين، في مقارنات الشَّابي دون غيرهِ، يكشِفُ عن خلفية ما كان
الشَّابي يُؤَسِّس له مِن مُستقبل شعري، سيشرطهُ بغير الزمن الذي عاش فيه.
في يوم الثلاثاء7 جانفي1930، كتبَ الشَّابي في يومياته " أشعُر الآن
أنِّي غريبٌ في هذا الوُجود، وأنني ما أزدادُ يوماً في هذا العالم إلاّ
وأزدادُ غُربَةً بين أبناء الحياة، وشعوراً بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة مَنْ يطوف مجاهل الأرض، ويجوبُ أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدَّثُ
إلى قومه في رحلاته البعيدة، فلا يجد واحداً منهم يفهمُ من لغة نفسه شيئاً.
الآن أدركْتُ أنني غريب بين أبناء بلادي. وَلَيْتَ شعري هل يأتي ذلك
اليوم الذي تُعانق فيه أحلامي قُلوبَ البشر، فَتُرَتِّلُ أغانيَّ أرواح
الشباب المُستيقظة، و تُدرِكُ حنين قلبي وأشواقه أدْمِغَةٌ مُفَكِّرَة
سيخلُقُها المستقبل البعيد.."
[5]في هذه المُذكِّرَة، تبدو تلك المرارة القاسية التي عاشها الشَّابي في
" زَمَنِـ "ـهِ، زمن الخازندار، الشاعر الذي كان نوعاً من الوعي الشعري
المُهَيْمِن، والذي أدركَ الشَّابي أنَّ كتابتَهُ، لمْ توجَد في زمنها، أو
أنَّها كانت نوعاً من رجِّ الأرض القديمةِ، رغم ما تَتَّسِمُ به مِنْ
صلابَةٍ.
المُستقبل كان رهان الشَّابي، وهو أدركَ في وقت مُبَكِّرٍ، أنَّ " المُعاصَرَة حِجَاب ".
[6]قراءة " الخيال الشعري.." مِن منظور الكتاب وحدهُ، لن تكونَ
مُجْدِيَةً. الشَّابي كان واسعَ النَّظر، كانَ في ما كتَبَهُ نَظَراً،
يذهَبُ إلى ما كان يُؤَسِّس له شعراً. زاوَجَ بين مُمارَسَتِيْنِ
شِعْريَتَيْنِ، لم يكن الوعي الحديث، يُؤْمِنُ بانفصلاهما. المعرفَةُ
الشعرية، كما تَبَدَّت في " الخيال الشعري "، كانت إحدى سمات الوعي الشعري
الجديد، الذي خاضَ الشِّابي مآزقَهُ، مُدْرِكاً، في حينِهَ، تَبِعات ما
كان ينتظرُهُ، لأنَّهُ،
كما يقول م. فوكو، فتح جُرْحاً في جَسَدِ ثقافَةٍ، كانت ما تزال تُؤمِنُ بالعافية، وبسلامَة تَشْيِيدَاتِها.
الـ " انقلابُ في الروح العربي "، هو الجُرح الذي أقدم الشَّابي على
تذكيرِهِ، وليس الخيال إلاّ ذلك الباب الذي لا يمكن لأيِّ وَعْيٍ جديدٍ أن
يَحْدُثَ دون تَذْكِيرٍ
بِخَلَلِ تَشْيِيداتِهِ، و ما آلَتْ إليه مِن فَسَادٍ، أو " إضعاف ملكة
الخيال الشعري في النفسية العربية، حتى كانت آثارها على ما رأيتُم ".
الكلام للشَّابي…