وهم
ترحال ذاك الذي تجعلنا نحياه تلك العملية السحرية التي نتنقل بواسطتها
أمام شاشتنا الصغيرة من صورة إلى صورة، ومن قناة إلى قناة، من لغة إلى
لغة، ومن فضاء إلى فضاء، من لون إلى لون، ومن عالم إلى عالم. وهو نفسه وهم
التحوّل الذي نستشعره عندما ننصاع لغليان حياتنا المعاصرة فننقاد لصخبها
وحركاتها وتنقلاتها.
انه وهم ترحال ووهم تحوّل، لأنّه ليس ترحالا ولا تحوّلا. فذلك الانتقال
السهل الذي يدفعنا أن نسبح في فراغ لانهائي لنعيش أقصى درجات التجزئة
يجعلنا نشعر، من شدّة ارتيادنا للأمكنة أنّنا في اللاّمكان، نرى اللاصورة
ونتكلّم اللالغة و"نفهم" اللامعنى ونعيش اللاتواصل. فهو، سعيا وراء
التنقل، يأخذنا إلى التيهان المطلق، ونشدانا للانفصال، يرمي بنا في
التشتّت اللانهائي، ورغبة في التحديث، يجرّنا إلى التلوّن العشوائيّ. لكن
ما كلّ تشتّت انفصال ولا كل تيهان ترحال ولا كلّ تبدّل تحديث. إذ ليس
يكفينا التنقل كي نرتحل. بل ربما لا يلزمنا وهم الحركة ولا حتى صخبها كي
ننفصل.
ذلك أنّ الترحال، كما يقول دولوز :" لا يعني بالضبط التنقل ولا
الحركة". توضيحا لهذا يقتبس فيلسوف الترحال nomadisme نصّا لتوينبي يبين
فيه "أن الرّحل، بالمعنى الدقيق للكلمة، أي بالمعنى الجغرافيّ، ليسوا
مهاجرين ولا متنقلين، إنهم، على العكس من ذلك أولئك الذين لا يتحرّكون،
والذين يعلقون بالسهوب. إنهم قارون بخطى كبيرة وفق خط هروب لا يبرح مكانه".
خط الهروب، كما نعلم، هو مجموع النقاط التي تتمكن عندها العين أن ترحل
عن اللوحة دون أن تبتعد عنها. إنها النقاط التي تبدو فيها اللوحة كأنما
تنفصل عن ذاتها من غير أن تتحرك. خطوط الهروب هي تلك الخطوط التي يتمكن
الفكر عن طريقها من الترحال، حيث لا يكون الترحّل أساسا تنقّلا وحركة،
وإنما زعزعة للنماذج القارة، وخلخلة للأوثان الفكرية والصور الثابتة التي
تثقل بوزنها كاهل الفكر فتعطل فعاليته وتشل حركته. إنها الخطوط التي
تنقلنا خارج أنفسنا وتجعلنا غرباء لا بين أهلنا وذوينا فحسب، بل غرباء عن
أنفسنا نتحوّل من غير ضجيج تحرّك ولا صخب انتقال.