الفِكر الحرّ:
ـ ما لا يَتَقَيَّدُ بِـ"حَدٍّ".
[ لِنأخُذ مفهوم "الحدِّ"، هنا، بالمعنى الذي تُعطيه له "السُّنة"، وهو
المفهوم ذاتُه الذي سَيَسْتَشْرِي في كُلّ الجسد الفكريّ عند العرب،
وتحديداً عند أصحاب الظاهر].
ـ وهو إبداعٌ دائمٌ، وتَدَفُّقٌ، لا يفتأ يُغيِّر انْسيابَهُ.
ـ ما لا يقبل الهُدْنَةَ، والثبات.
ـ فهو فكر مُتَرَنِّحٌ، يَتَّسِمُ بقلقٍ دائمٍ.
حين نَخُوضُ الدروبَ المُعْتِمَةَ، ونذهبُ صوبَ تلك التُّخُوم البعيدة
التي طالما تَمَّ تَجَاهُلُها، أو طَمْسُها، فنحن نكون قد وَضَعْنَا
يَدَنا على الجُـرح، أو شرعنا في لَمْلَمَةِ تلك النَّار الكامنة التي
بَقِيَ اشْتِعالُها مُؤَجَّلاً منذ أَمَدٍ بعيد.
وفق هذا المعنى، يكون الفكر الحرّ:
ـ اسْتِباحَةً، أو سِباحَةً، في لُجِّ بحر، ما فتئت أمواجُهُ تشي بأهوالها.
مَنْ يُفَكِّر، مُتَحرِّراً من قيود " السنّة "، ومن " الكتاب "، فهو
يستبيح أراضيَ، مجهولاتُها فادحة، والنتائج، لا محالةَ، ستكون باهِرةً،
ليس بمعنى الوصول إلى حقيقة ما، بل بما تَتَّسِمُ به هذه الاستباحة ذاتها،
من جُرأةٍ في خَوْضِ المجهول.
المجهول هنا، هو ما يَتقَصَّدُهُ هذا الفكر، ويسعى إليه ما دامت
المعلومات، هي ما نكتفي به، كلما خُضنا أرضاً من الأراضي المُعْتِمَة في
فكرنا.
الفكر الحرّ، إذن، هو:
ـ تلك الصَّدمات التي تُشْعِلُ فِتَنَ العقل، وتُضيءُ بعض ظُلَمِه، أو ما ظلَّ ساكناً، مُقيماً في انسيابه.
ـ وهو رَجَّة، تُتيح قَلْبَ المفهومات، والقيم والمعايير، كما تكشف عن
عطب مفهوماتٍ، طالما، استعملناها، دون أن نُذّكِّرَ نِسْيَانَها، أو
نُراجعَ، في أقل تقدير، بعضَ ما قد صار ضمن بنائها، نوعاً من "الأصل"، أي
"الحصر" و"التضييق "، أو " الضغط "، كما يذهبُ إلى ذلك عبد الله العروي.
أن أكون حُرّاً، معناه، أن أُغيِّرَ منظوري للأشياء، وألا أبقى أسيرَ منظوراتٍ، ربما صارت، لفرط استعمالها، نوعاً من تكريس المألوف.
لا أذهبُ هنا، إلى إلغاء ما مضى، أو إلى اختراقاتٍ قد تبدو خَرْقَاء،
بل أسعى إلى قراءة ما يجري من منظورٍ لا يشرط رؤيتَه بما تَأَصَّلَ، أو
بما تَمَّ تأْصِيلُهُ، أو "تأسيسُه" بتعبير ابن طباطبا العلوي، أعني تلك
القراءات التي باتت لِفَرْطِ استعمالها، تَحْجُبُ عنَّا ما نقرأه، وتطرح
نفسها كبديل عـن "أصل"، حَجَبَتْهُ وطَمَسَتْهُ، أو سَعَت إلى حَجْبِهِ
وطَمْسِهِ، حتـى لا تَتَكَشَّفَ تناقُضاتُه، أو تَشِي بما يَعْتَمِلُ فيه
من تَفَكُّك وانْحِلالٍ.
قراءاتٌ تطمس النص، وتَحُلُّ محلَّه. كلّ قراءة بهذا المعنى، هي طبقة
تَحْجُب ما قبلها، أو تَجُبُّهُ وتلغيه. طبقة فوق طبقة أخرى، ما يجعل النص
يتلاشى، يضيع ويَمَّحِي، في مقابل ما يَحُلُّ محلّه، أو ينوب عنه في إبلاغ
المعنى والقصد.
طريق واحد، هو ما يُفضي إلى النص، ولا داعي لفتح مزيدٍ من الطُّرُق.
كُلَّما تعدَّدَت الطُّـرُق، ضاع السَّالِكُ، أو أُصيبَ بدُوارٍ، القراءةُ
الواحـدةُ لا ترغبُ في حُدُوثِه، لأنه، في حال حُدوثه، قد يُفضي إلى ما لا
ترغبُ "السنّة" فيه.
الفكر الحرّ، دُوَارٌ، ضَياعٌ، ومتاهات، تُضاعِفُ طُرُقَها، أو تحفر مزيداً من الطُّرُق والمسالك.
لا مكان للهُدنة في هذا الفكر، بل ثمَّة تَرَنُّحٌ يشي بقلقٍ دائم،
وبِتَصَدُّعاتٍ و شُقوقٍ، لا تُفضي إلا لمزيد من التَّصَدُّع والانشقاق.
الفكر الحرّ انشقاق، ولا يَحْدُثُ أن يكونَ "سنّةً" أو "إجماعاً".
الإجماعُ طُمأنينة، ومعنىً، به يَحْدُثُ الإجماعُ و يَتِمُّ، أو هو ما
يضمن اتِّساقَ الجماعة، و ينأى بها عن الانشقاق.
من يأخُذ الانشقاق هنا، بمعنى الفُرقَة، والتَّشَرْدُم، فهو حتماً سيكون أسيرَ فكر الإجماع..
الفكر الحرّ انطلاقٌ، أُفُق، وانشراحٌ لا نهائي صوب ما لم يَتَكَشَّف
بعدُ، أو ما يبدو مُتَكَشِّفاً، فيما هو مُعْتِـمٌ، مُلْتَـمٌّ، ومُفْعَمٌ
بمزيد من الفداحـات والأسرار.
لا بداهةَ في هذا الفكر، وهو ليس فكرَ قناعةٍ واسْتِسْلامٍ. فالظاهِرُ
يَفْضَحُ باطِنَهُ، واليَدُ المحمومةُ، كما يقول فوكو، هي اليدُ التي
تُواصلُ حَفْرَها في هذه الطبقات المُعتِمَة، المُتَكَتِّمَةِ. يَدٌ لا
يَهْدَأُ لها بالٌ، ولا تُسَلِّمُ بسُهولَةٍ.
كُتِبَ هذا النص على هامش كتاب " السنّة والإصلاح " للمُفكِّر المغربيّ عبد الله العروي، الصادر حديثاً عن المركز الثقافي العربي