في فيلم "البريء" للمخرج المصري عاطف الطيب، هناك مشهد يختزل مأساة
العديد من المناضلين الصادقين و الشرفاء حين يصطدمون بعمى و عداء
"الشعب" الذي يدافعون عنه و يتكبدون السجن و التعذيب و التضييق من أجله
لكي ينعم بحياة أعز و أكرم. في هذا المشهد، يحاول المناضل و المثقف
رشاد عويس ( صلاح قابيل ) الهرب من السجن الرهيب الذي يقبع فيه مع مجموعة
من السجناء السياسيينٍ ، فيتبعه الجندي أحمد سبع الليل (أحمد زكي) لمنعه
من الهروب و القبض عليه. ينشب صراع جسدي بين الرجلين، فيمسك الجندي
البسيط و الفقير برأس الكاتب و المناضل و يشدخه بحجر ، ناعتا أياه ب"عدو
الدين" و "عدو الوطن"، كما صوره له ذلك جهله و كما لقنه ذلك ضباط الجيش
الذين يأتمر بأمرهم، فيجيبه السجين متحسرا و هو يحتضر : "يا حمار، إنت مش
فاهم حاجة". هذا المشهد يشبه مارأيناه الاسبوع الماضي ، حين حاصر شباب
ملتحفون بالرايات، عبدالحميد أمين، الرئيس السابق للجمعية المغربية لحقوق
الإنسان ، و أشبعوه شتما و سبا ، متهمينه ب"الخيانة" و منشدين في النهاية
النشيد الوطني، انتشاء بانتصارهم على "عدو الوطن".
من الممكن جدا أن هؤلاء الشباب لا يعرفون عبدالحميد أمين و لا رأوه أو
سمعوا عنه من قبل، فالرجل لا يظهر إلا لماما بل و نادرا على القنوات
المغربية. و حين ظهر منذ أشهر في برنامج على القناة الثانية، قال كلمة حق
، يخاف من المجاهرة بها كثيرون من السياسين الذين ابتلانا الله بهم صباح
مساء على القنوات الوطنية، يعيدون كلاما أجوفا، مكرورا، نفر المغاربة من
سيرة الأحزاب و من ذكر السياسة. عبد الحميد أمين، رغم الاختلاف الفكري و
الايديولوجي معه، رجل مبادئ و قيم راقية، دفع ثمنا لها من حريته و جسده و
كرامته. لم يغتن من السياسة، و لم ينهب مال أحد و لم يتجبر و يدس على أحد،
كما يفعل الكثيرون في بلدنا. لم يعرض مبادئه للبيع في سوق النخاسة
السياسي، و لم يساوم و يطلب عوضا عن قناعاته و أفكاره. خيانته الوحيدة هي
لثقافة الخنوع و الانبطاح التي تحكم نخبتنا السياسية.
كم كان مؤلما أن نرى شبابا، يبدو من لباسهم و سمتهم البؤس و ضيق الحال،
يهتفون و يتهمون بالخيانة شخصا أفنى الدهر في الدفاع عن كرامة المغاربة و
حقهم في عيش كريم ناعمين بالعزة و الحرية. كم كان محزنا و محبطا أن ينعت
الشرفاء منا بالخيانة و يهان المناضلون و يبتلون ، بينما يرفع
الإنتهازيون و الفاسدون فوق الأعناق و يهتف بأسمهم كالأبطال. ما فعله
هؤلاء الشباب عندما حاصروا و اهانوا عبدالحميد أمين، يؤكد مايقوله بعض من
ذوي النفوذ و الجاه بأن الشعب المغربي أمي، جاهل، لا يستحق الديمقراطية و
ليس مؤهلا لها، و بأنه "كتجمعوا طعريجة و تفرقوا زرواطة ". هؤلاء الشباب
هم نتاج أزمة و حصيلة ما زرعته سياسات تعليمية و إقتصادية متتابعة، افقدت
المواطن المغربي وعيه و حسه النقدي، و أفقرته فكريا و ماديا، فصار لايفرق
بين عدو و صديق، بين من يدافع عنه و من يستغله.
كم يلزم من التشبت بالمبادئ و القبض على الجمر لكي يرى المناضل هذا المنظر
المؤلم، و لا يفقد شيئا من عزمه و صبره و امله، و لكي لا يفعل كما فعل
الكثيرون من قبله، من إرتماء في احضان الدولة و تحويل تاريخه النضالي الى
أصل تجاري يرتزق منه و يغتني به. كم ينبغي من حب لهذا الوطن و لأهله، و
تمسك عنيد بالقيم لكي لا يتحول المرء إلى كائن إنتهازي أو لامبالي بمصير
بلده، عندما يشاهد شخصا نزيها و نظيف اليد و الضمير كعبد الحميد أمين يهان
و يسب و يعنف، ليس من رجال الشرطة أو الجلادين بل من مواطنين بسطاء،
أعماهم الجهل و افقدتهم الوطنية الزائفة بصيرتهم، يحق فيهم قولة "يا حمار،
إنت مش فاهم حاجة"