إن
للعمل منزلة شريفة في الإسلام وقد ذكره الله تعالى في القرآن. وحث عليه
خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام, فكان خير العاملين, قالت عائشة رضي
الله عنها: "ما رؤي كان رسول الله ( يخصفُ نعله, ويخيط ثوبه, ويعمل في
بيته كما يعمل أحدكم في بيته"(1), والعمل وسيلة لكسب الرزق من كد يده, وهو
خير له من سؤال الناس, كما أنه وسيلة لكسب الخبرة, وشغل الوقت بما ينفعه
في حياته اليومية, مع إجادة المهنة ليصون المسلم نفسه عن سؤال الناس,
والتذلل لهم, واستجداء صدقاتهم. والعمل خير من الكسل والبطالة التي لها
مساوئ كثيرة, والإسلام دين يحث على الجد وعلو الهمة, والطموح لبلوغ القمة.
ولا ينبغي لأحدٍ الاستهانة بالعمل أو العمال, فهؤلاء يكسبون رزقهم من عمل
أيديهم, وذلك أفضل الكسب قال الرسول (: "ما أكل أحدٌ طعاماً خيراً من أن
يأكل من عمل يده"(2).وسئل رسول الله ( عن أطيب الكسب؟ فقال: "عمل الرجل
بيده, وكل بيع مبرور", كما أن معرفة مكانتهم من باب التكريم لهم
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والبحر (( الإسراء : 70 ) .
ومما يدل على فضل العمل وروده في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ( وعناية
السلف الصالح به, وإفرادهم له بالمؤلفات الخاصة مثل كتاب: "الحث على
التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل".
وفي هذا ما يؤكد عناية علماء الإسلام قديماً بالتأليف في الموضوعات
المتعلقة بحياة الناس اليومية, وحرصهم على ربط تلك القضايا بالجانب
الشرعي, ليكون لها منهج التأصيل الإسلامي.
العمل في القرآن:
ورد ذكر العمل في القرآن كثيراً, بمفهومه الشامل للعمل الدنيوي والأخروي
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (( النحل : 97 ) فدلت هذه
الآية على إكرام الله تعالى للعالمين من الرجال والنساء عملاً صالحاً
بالسعادة في الدنيا.
وقال الله عز وجل: (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب((غافر: 40).
بينما تضمنت هذه الآية الجزاء الأخروي بدخول الجنة للذين عملوا الصالحات,
وقال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون((التوبة:105)
وهذا دليل على عرض الأعمال على الله وعلى رسوله والمؤمنين يوم القيامة,
وقيل: بعد الموت تعرض أعمال الأحياء على الأموات من الأقرباء, فقد روى
الإمام أحمد عن أنس قال: قال النبي ( "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم
وعشائركم من الأموات, فإن كان خيراً استبشروا به, وإن كان غير ذلك قالوا:
اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا"(3).
فعلى المسلم أن يحرص على عمل الصالحات, وأن يخلص نيته لله تعالى في كل عمل
صالح لقوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً((هود:7),
ومن خالف أمر الله بعمل السيئات فيخشى عليه من قوله تعالى: (وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى( (طه: 124) نقل ابن كثير عن ابن عباس قال: هو الضنك
في المعيشة, وذلك في الدنيا أما في الآخرة فجزاؤه جهنم.
وجاءت في القرآن أيات كثيرة تدل على أن الأنبياء كانوا يعملون في عدد من
الحرف والصناعات اليدوية, ومن ذلك قوله تعالى عن داود عليه السلام (وألنا
له الحديد(, لأنه كان يعمل في صنع الدروع قال تعالى: (أن أعمل سابغات وقدر
في السرد((سبأ: 11).
وقال ( :"كان داود لا يأكل إلا من عمل يده"(4).
وموسى عليه السلام عمل عند الرجل الصالح, قال تعالى: (إني أريد أن أنكحك
إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج( (القصص:27) فتزوج ابنته وعمل
عنده عشر سنين, أما نبينا محمد ( فقد رعى الغنم كما ثبت في صحيح البخاري
أنه قال:"ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم, قالوا: وأنت يا رسول الله؟
قال: وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"(5) وعمل في التجارة عند خديجة
رضي الله عنها.
فضل العمل في السنة:
وثبت من حديث المقدام: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده"(6).
وقال (: "وكان نبي الله داود لا يأكل إلا من عمل يده"(7). فعلى الشباب أن
يحرصوا على أن يتدربوا على بعض المهن التي يحتاجها مجتمعهم وتدر عليهم
رزقاً كما في الحديث سئل النبي ( عن أطيب الكسب؟ فقال: عمل الرجل بيده"(8)
والعمل خير من السؤال, قال ( : "والذي نفسي بيده لا يفتح عبد باب مسألة
إلا فتح الله عليه باب فقر" (9).
وعن أبي هريرة: "أن رجلين أتيا الرسول فسألاه فقال: اذهبا إلى هذه الشعاب
فاحتطبا فبيعاه, فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعا, ثم ذهبا فاحتطبا فجاءا, فلم
يزالا حتى ابتاعا ثوبين, ثم ابتاعا حمارين, فقالا: قد بارك الله لنا في
أمر رسول الله ( "(10) , ويؤيده قوله (: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب حزمة
من حطب فيبيعها ويستغني بثمنها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو
منعوه"(11).
قال محمد بن ثور: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام
فيقول: ما يجلسكم؟ فنقول: فما نصنع؟ قال اطلبوا من فضل الله ولا تكونوا
عيالاً على المسلمين. رواه الخلال في الحث على التجارة بسند صحيح. فسفيان
لم ينكر عليهم جلوسهم في المسجد الحرام وهو أشرف البقاع, بل حثهم على طلب
الرزق, والاستغناء عن الناس وصدقاتهم.
ويؤيده قول الله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله( (الجمعة:10).
وطلب الرزق خير من الجلوس بلا عمل مما ينتج عنه الفراغ الذي قد يؤدي إلى بعض الأمراض النفسية, أو ارتكاب بعض المخالفات الشرعية.
فلأن يعمل الشاب في حرفة ولو كانت يسيرة فهي خير له من الكسل والبطالة,
وأن يكون عالة على أبيه وإخوانه يعطونه كل يوم مصروفه, بل ينبغي عليه أن
يجد ويتدرب ويعمل ولو بأجر زهيد فمع الأيام ستزيد مكافأته, ويكثر دخله
الشهري فالسيل من تتابع قطرات الماء.
وما عرف أن تاجراً ولدته أمه غنياً بل سعى, وكافح حتى جمع ثروته فالسماء
لا تمطر ذهباً, بل على المسلم أن يتوكل على الله, ويفعل الأسباب ويبحث عن
مجالات الرزق, وليحرص على الإخلاص, وإتقان العمل ليبارك له فيه, وليس
عيباً أن يعمل الشاب في حرفة مهنية, أو تجارية, أو زراعية, ولكن العيب أن
يجلس بلا عمل فيكون عالة على أسرته ومجتمعه, ولنا في صحابة رسول الله (
قدوة حسنة فلقد كان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق, والأنصار يعملون
في مزارعهم, وما أحسن عبارة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه "دلوني على
السوق"(12) قالت عائشة رضي الله عنها: "كان أصحاب رسول الله ( عمال
أنفسهم"(13).
وأسوق إليك أخي الشاب قصة ابن عم رسول الله ( ورابع الخلفاء الراشدين علي
بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: "جعت مرة بالمدينة جوعاً شديداً فخرجت
أطلب العمل في عوالي المدينة, فإذا أنا بامرأة من الأنصار قد جمعت مدراً
أي حجراً, تريد بَلَهُ فأتيتها, فقاطعتها كل ذنوب أي: دلو على تمرة, فمددت
ستة عشر ذنوباً حتى مجلت يداي"(14) ومعنى مجلت: إذا ثخن جلدها, وظهر فيه
ما يشبه البثور من العمل بالأشياء الصلبة.
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يترفع على العمل عند امرأة, رغم
جوعه الشديد, ولم يذهب يسأل أحداً طعاماً, بل عمل حتى تورمت يداه ثم أخذ
أجرته تمراً.
آمل أن يكون في ذلك حافزاً لتوجيه الشباب نحو الأعمال التي تنفعهم وتعود
على مجتمعهم بالنفع والاستغناء عن خبرات الآخرين, فأبناؤنا أحق بأموالنا
من غيرهم.
وفق الله الجميع لعمل الصالحات, وشغل الأوقات بالمستحبات إنه سميع مجيب الدعوات.