تمّ إقرار المغرب "دولة إسلامية" في الدستور المعروض على الإستفتاء، وكان
من تبعات ذلك إقحام عبارات التحفظ على العديد من الحقوق الأساسية التي
ينصّ عليها الدستور في العديد من فقراته، وهي عبارات سيتم اللجوء إليها
كالعادة من طرف الحكومات المغربية من أجل تبرير خرق الحقوق وحرمان
المواطنين منها بزعم "الخصوصية المغربية"، التى ليست في الواقع سوى ترسيخ
الإستبداد بغطاء ديني.
وقد تلا ذلك محاولات يائسة
بذلتها بعض التيارات الإسلامية التي استعملت من طرف اللوبي التقليدي داخل
الدولة، لإقناع نفسها بأنّ "الدولة الإسلامية" دولة مدنية، وهي محاولات
تشبه من يحاول تغطية الشمس بالغربال، فالعصر الذي نحن فيه لم يعد يسمح
لأحد بالعودة إلى الوراء، كما أنّ المفاهيم أصبحت من الوضوح بحيث يصعب
التعتيم عليها بأساليب الخطابة والبلاغة اللفظية، ليس فقط بسبب التراكم
الذي حققه الفكر البشري في السياسة والإجتماع والتاريخ ومختلف علوم
الإنسان، بل لأن تجارب الشعوب والأمم، قد راكمت عبر نماذج مختلفة، خاصة في
القرنين الأخيرين، خبرات عملية كثيرة في أساليب بناء الدولة وحكامة
تسييرها، وقطعت في ذلك شأوا بعيدا أصبحت تبدو معه بعض المرجعيات التقليدية
في التفكير والعمل، مجرد ترداد عاطفي لبديهيات مأزومة منذ زمن بعيد.
تعني "الدولة الإسلامية" عند من ينادون بها الدولة التي تعتمد مرجعية
دينية إسلامية، أي تجعل دينا معينا مرجعية سامية وشاملة فوق كلّ أسس
الدولة ومكوناتها، وهو ما يعني أن تخضع قوانين الدولة لرقابة دينية، وهذا
إخلال بأول شرط من شروط الدولة المدنية وهو سموّ القانون وتساوي الجميع في
ظلّه، فالقوانين مراقبة من قبل سلطة أعلى من القانون وهي السلطة الدينية
التي تعتبر نفسها ذات مرجعية سماوية مقدسة، وهو ما يعني استحالة نقدها
بسبب مصدرها الإلهي من جهة، واستحالة تغييرها بسبب قطعية نصوصها وثباتها،
وذلك مهما تجاوزتها الظروف وواقع المجتمع ومصلحة الإنسان.
ومعنى سمو المرجعية الدينية على القانون أن القوانين لا توضع بمعيار مصلحة
الأفراد والجماعات بل بمعيار تطابقها مع نصوص الدين، وهذا يخلّ بمبدإ
تساوي جميع المواطنين أمام القانون لأنّ القوانين في هذه الحالة توضع
وتفصّل على مقاس بعض المؤمنين بالإسلام، وليس كلهم ما دام ليس كل مسلم
"إسلاميا" متشددا يدعو إلى رقابة دينية على قوانين الدولة. فـ"الدولة
الإسلامية" إذن من هذا المنطلق لا يمكن أن تساوي بين مواطنيها لأنها
تتوجّه أساسا إلى المؤمنين منهم بالإسلام باعتبارهم "جماعة المؤمنين"،
بينما تنكر وجود غيرهم من المواطنين المختلفين الذين يضمّهم "مجتمع"
بالمعنى العصري، ولا تضمن لهم الوجود الطبيعي الفعّال في المجتمع، لأنهم
لا يتوفرون على أية حماية قانونية، كما تسمح الدولة الإسلامية الدينية لأي
مواطن مؤمن بالإسلام أن يتدخل في حياة غيره بمنطق الوصاية، أو أن يتدخل في
تسيير المؤسسات ليطالب بأن يكون السلوك الفردي والتدبير المؤسساتي مطابقا
لمقتضى دينه، وهذا ما يفسر كيف أن جميع تيارات التطرف الديني في المشرق
تعتمد في مرافعتها من أجل أسلمة الحياة العامة عبارة "دولة إسلامية"
الواردة في الدستور.
من جهة أخرى فـ"الدولة
الإسلامية" لا تقبل باحترام الحريات، وهو مبدأ راسخ للدولة المدنية، فحرية
المعتقد والتعددية الدينية وحرية الفكر والإبداع الفني والأدبي تصبح موضوع
تحفظات ثم مقاومة وإنكار إن لم نقل موضوع قمع شديد وحصار واضطهاد. ويعضد
هذا الرأي ويثبته بما لا يدع مجال للشك، أن الذين سعوا إلى وضع عبارة
"دولة إسلامية" في الدستور المغربي، سواء من اللوبي السلطوي أو من حزب
العدالة والتنمية أو حزب الإستقلال، عملوا أيضا في نفس الوقت على حذف
عبارة "الحق في حرية المعتقد" وعبارة تتعهد فيها الدولة بـ"حماية التعددية
الدينية".
فإذا كانت "الدولة الإسلامية" دولة
مدنية فكيف تمنع المبادئ الراسخة للدولة المدنية، وأولها حياد المؤسسات في
موضوع المعتقد ؟ إذ لا يمكن لدولة مدنية أن تحرس دينا معينا ترغم مواطنيها
على اعتناقه وتمنعهم من تغييره وتفرضه كنمط تديّن عام، كما تمنع الدعاية
لأي دين آخر غير دين الدولة، وتعتبر ذلك جُرما يعاقب عليه القانون.
إن المبادئ المميزة للدولة المدنية هي حرية المعتقد وسمو القانون وفصل
السلط، بينما المبادئ المميزة للدولة الدينية هي الرقابة على الدين
ومحاصرة الحريات وتنميط المجتمع في نموذج واحد للتديّن، وقد ظهر بعض فقهاء
الإسلام السياسي على حقيقتهم عندما نسوا أنفسهم في خضم الصراع الإيديولوجي
ـ ومنهم الفقيه المغربي أحمد الريسوني الذي يبعث بفتاواه العابرة للقارات
من السعودية ـ اعتبروا أن دسترة حرية المعتقد ستؤدي إلى مغادرة الناس
للإسلام أفواجا، مما سيجعل أمير المؤمنين بدون "مؤمنين" يحكم عليهم.
فبلاغة الإستبداد تصبح أكثر بيانا في لحظات الحرج التاريخية.