مصر دولة مدنية أم دينية؟
أحمد منصور -
ahmedmansour@aljazirza.net
يدور
جدل واسع في مصر الآن حول مستقبلها ومستقبل النظام السياسي والدولة
المرتقبة في أعقاب الثورة التي قام بها الشعب المصري في الخامس والعشرين
من يناير الماضي وأدت بداية إلى الإطاحة بالرئيس حسني مبارك بعد ثلاثين
عاما من الحكم المتسلط، ثم القبض عليه وبدء محاكمته هو وعدد من كبار
وزرائه.
ومع تأكيد معظم علماء الدين والمفكرين الإسلاميين والحركات الإسلامية،
وعلى رأسها الإخوان المسلمون، أن نظام الإسلام لا يعرف مفهوم الدولة
الدينية، فإن التيار العلماني، الذي يسيطر على كثير من وسائل الإعلام،
بصحفييه ومفكريه، يصر على اتهام الإخوان المسلمين بكونهم يسعون إلى إقامة
دولة دينية في مصر. القصة، إذن، ليست قصة دولة مدنية أو دينية. وتأكيدا
على ذلك، فإن مصطلح «الدولة الدينية» مصطلح غربي يعود إلى القرون الوسطى
في أوربا حينما كانت الكنيسة تسيطر على مقاليد الحكم هناك وتحكم الشعوب
باسم الرب. فلما ثارت الشعوب الأوربية على الكنيسة وحكمها، أقامت تلك
الشعوب أنظمة أطلقت عليها مسمى «الدولة المدنية»، أي المضادة للدولة
الدينية ـ بالمفهوم الغربي ـ التي كانت تحكمها الكنيسة. ومن ثم، فالمصطلح
والمفهوم ليس له وجود في الإسلام أو حتى في التاريخ الإسلامي، لأن نظام
الحكم الإسلامي حتى دولة الخلافة الإسلامية، وآخرها الخلافة العثمانية
التي سقطت في عام 1924، لم يقم دولة دينية على الإطلاق بل كانت دولة
الخلافة دولة مدنية يحكمها خليفة أو سلطان، وهو مسمى للحاكم، تعلي شأن
العلم بكل أشكاله وفئاته وتحقق العدل والمساواة بين الناس من خلال الشريعة
ونصوصها وليس من خلال الحاكم بأمر الله أو ظل الله في الأرض الذي يسن
القوانين ويشرع الشرائع حسب هواه، وهو ما كان سائدا في أوربا في ظل
«الدولة الدينية». ولعل أوربا ومدنها ومكتباتها تزخر حتى الآن بالعلوم
الإسلامية، حيث كان العالم الإسلامي مهد الحضارة ومركز العلوم. هذه
الحقيقة تقودنا إلي طبيعة ما يحدث في مصر الآن من حديث حول الدولة المدنية
والدولة الدينية ومستقبل مصر ونظام الحكم بها، فالقصة باختصار ـ كما ذكرنا
من قبل ـ ليست قصة دولة مدنية أو دينية، ولكن قصة صراع بين الإسلاميين
والإخوان المسلمين تحديدا، كأكبر جماعة سياسية منظمة في البلاد، وبين باقي
التيارات السياسية، سواء منها التقليدية والقديمة مثل الأحزاب السياسية أو
الحديثة التي أسست بعد الثورة والتي ترى أن فرصة إقامة أرضية لها في
الشارع المصري ضعيفة وبحاجة إلى مزيد من الوقت والجهد، ولهذا فإنه يأتي
على رأس مطالبها تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية حتى تتمكن هذه
الجماعات والأحزاب من تشكيل أرضية وشعبية لها على أرض الواقع تمكنها من
الفوز ببعض المقاعد في الانتخابات البرلمانية القادمة.
لكن مشكلة هذه التجمعات والأحزاب الحقيقية أنها لم تعش بين الناس في مصر
بالشكل الذي يجعلها تفهم طبيعة الإنسان المصري وتكوينه الفكري والثقافي،
كما أنها جماعات نخبوية لا تلتصق بالجماهير وتعتمد على أفكار ومفاهيم ليست
لها جذور أو وجود في الفكر والثقافة العربية، فكثير من منظريها ومفكريها
عاشوا فترات طويلة أو درسوا في الدول الغربية وعادوا بنفس الأفكار التي
تعلموها هناك أو التي تشربوها، فحاولوا على مدى سنين من قبل ويحاولون الآن
مع علو أصواتهم أن يطبقوها على المجتمع المصري، متناسين أن التدين لدى
المصريين شيء متأصل في نفوسهم منذ قدماء المصريين وأن الأفكار التي نشأت
في الغرب لا مكان لها لدى الشعب المصري، وهذه القصة عمرها أكثر من مائة
عام وليست وليدة اليوم، فقد حاول مفكرون مصريون كثيرون في القرن الميلادي
الماضي ـ القرن العشرين ـ أن يصبغوا مصر والشعب المصري بالأفكار التي
تشربوها في الغرب بعدما درسوا هناك، إلا أن أفكارهم ماتت كلها في حياتهم،
والتي طالت منها ماتت مع موتهم، ولا أريد هنا أن أسرد أسماء عشرات من
هؤلاء لم يعد لهم ذكر مع كل الدعم الذي لاقوه، سواء في سنوات الاستعمار
البريطاني الذي فتح المجال لهم إعلاميا وثقافيا أو حتى بعده. من ثم، فإن
هذه الأفكار رغم ارتفاع أصوات المنادين بها سوف تموت على صخرة التدين
الطبيعية لدى الشعب المصري بكل فئاته وطوائفه. وأقول هنا التدين وليس
التعصب، لأن التعصب مكانه محدود في مصر أيضا.
الصوت العالي الآخر في ما يتعلق بـ«الدولة المدنية» هو صوت رجل الأعمال
القبطي نجيب ساويرس الذي أصبح من أغنى أغنياء العالم مع عائلته، من خلال
الثروة التي كونوها في عهد الرئيس المخلوع مبارك، وتحديدا في النصف الثاني
من سنوات حكمه التي امتدت ثلاثين عاما، حيث كان موقف ساويرس في بداية
الثورة غير متوافق مع القائمين عليها، ثم أصبح ضبابيا حينما اقتربت من
تحقيق النصر، ثم سعى بعد نجاح الثورة إلى أن يقطف بعض ثمارها عبر تكوين
حزب سياسي يعمل في نفس إطارِ المجموعاتِ العلمانيةِ التي تعلن عداءها
للدولة الدينية، وهذا أمر يجهر به ساويرس بالليل والنهار، سواء من خلال
القنوات التلفزيونية أو الصحف التي يملكها أو البرامج التي يظهر فيها مع
كثير من الأقاويل غير المحققة التي تشير إلى أن ساويرس يدعم كثيرا من
الأحزاب والتجمعات السياسية الهامشية الأخرى التي تدعم نفس الأفكار وتغني
على نفس الوتر. ومع معرفة الجميع بالعلاقة الوثيقة بين ساويرس ورأس
الكنيسة القبطية في مصر، فإن الأمر لا يخلو من دلالة سياسية.
من هنا، فإن أبعاد المعركة القائمة في مصر حول ما يسمي بالدولة الدينية
والدولة المدنية ليست في حقيقتها سوى صراع بين التيار الإسلامي والتيار
العلماني، بين ميول التدين العام والهادئ والمتوازن لدى الشعب المصري
وفزاعة الإسلاميين الذين يجدون بين هؤلاء المتدينين أرضا خصبة لدعم
أفكارهم. ومع التأكيد على أن الدولة الدينية لا مكان لها في الدين
الإسلامي ولا وجود لها في التاريخ أو الفكر الإسلامي، فإن النسبة الأكبر
تتأثر بالكم الهائل من وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الطرف الآخر من
خلال القوة الهائلة والانتشار الذي يتمتع به العلمانيون في وسائل الإعلام
التي تلعب دورا كبيرا في إشعال المعركة وإشغال الناس بأمر لا وجود له عبر
وسيلة من وسائل التخويف وصناعة الفزع لدى الشعب المصري ولدى الغرب من
الإخوان المسلمين، أو التيارات الإسلامية بشكل عام، الذين من المتوقع أن
يفوزوا بالانتخابات إذا جرت انتخابات حرة أو نزيهة. وهي نفس الفزاعة التي
كان يستخدمها النظام السابق ليخيف بها الغرب حتى يدعمه ويدعم نظام حكمه
الفاسد. القصة، إذن، هي قصة لعب على عواطف الشعب المصري المتدين بطبيعته،
وقصة فئة تعتقد أنها يمكن أن تلعب على عواطفه عبر فزاعة «الدولة الدينية»،
لكن الشعب المصري في النهاية سوف يحسم مستقبله ويحدد نظام حكمه ومن يحكمه
طالما أن الجميع ارتضي الديمقراطية خيارا للمستقبل.