ما يزعج أكثر في الدستور الجديد، وبغض النظر عن نواقصه وإيجابياته، أن نتيجة الاستفتاء حوله معروفة سلفا.
الذين سيقولون نعم، والذين سيقولون لا، والمقاطعون، وغير المبالين، والذين
لن يستيقظوا يوم الجمعة من أجل التصويت، والذين ستشغلهم الصلاة، كلهم
يعرفون أنه سيصبح دستورنا في السنوات المقبلة.
ليس هناك ذرة شك تنتاب الدولة والأحزاب والمغاربة حول النتيجة، وما تسعى
إليه الحملة هو أن يذهب الناس للتصويت، وأن يشاركوا بكثرة، وغير ذلك يبقى
مجرد تفاصيل، لأن نعم للدستور مضمونة، والمشكل الذي يقض مضجع السلطة هو
كيف سنقولها وكم سيكون رقمنا.
هذا المعطى يتنافى
مع الديمقراطية ومع المغرب الذي يبشروننا به، لأن العملية برمتها تبدو
شكلية وفيها تبديد للمال العام وللجهد والوقت، ما دام الجميع يعرف أن نعم
هي التي ستنتصر في النهاية.
تشويق الاستفتاء حول
الدستور منعدم بالمرة، والاختلاف البادي حوله في الشارع وفي المظاهرات لن
تعكسه النتيجة ولن تتأثر به، لأن الدولة ما زالت غير مستعدة للتضحية
بعاداتها القديمة ولم تقتنع بعد بضرورة التخلي عن تكييف المغاربة وتوجيههم
وبث الرعب في نفوسهم، بدل تعويدهم على أدب الاختيار ومعنى الواجب والحرية.
أكثر من ذلك هناك عنف رمزي يمارس على الناس كل يوم للتصويت بنعم، توظف فيه
الدولة التجار والدكاكين وسيارات الأجرة والأطفال والفقراء والمراهقين
لفرض إجماع على الدستور، وعنف آخر واضح وعلني وملموس يمارس على حركة 20
فبراير وعلى مقاطعي الاستفتاء.
ليس لأحد الحق في
مصادرة رأي من يريد أن يصوت بنعم، لكن المزعج هو أن تعتبر الدولة المغاربة
مثل قطيع من واجبهم الذهاب إلى صناديق التصويت عن بكرة أبيهم لتأكيد
ولائهم، والمثير أن هناك في الدولة من لا يزال يعتبر المواطنين أقل ذكاء
وغير مؤهلين ومن واجبها سوقهم بالطريقة القديمة إياها، ضدا على بعض ما
يتضمنه مشروع الدستور الجديد.
غدا، وبعد أن يمر
الاستفتاء بسلام، ويصوت المغاربة بنعم، ليس من حق حزب مثل الاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية أو حزب الاستقلال أو العدالة والتنمية، أن يحتج
على تدخل السلطة لدعم مرشح أو حزب ما في الانتخابات بنفس الطريقة التي تتم
بها الآن حملة الاستفتاء، لأن هذه الأحزاب تبارك الآن ما يجري وتلتزم
الصمت وتسكت عن ممارسات لا يمكن أن يقبلها من يرددون دائما مطالبتهم
بالديمقراطية والنزاهة وفصل السلط ويرفضون تدخل الإدارة، وغيرها من
الشعارات التي يبدو أنها لا تصلح إلا للمناسبات.
هذه الأحزاب تعرف عن يقين أن أقلية بين المغاربة هي التي تصوت في
الانتخابات عن قناعة، وأن هذه الأقلية تشعر الآن بالخذلان، من أحزاب أدارت
ظهرها لها واختارت مجاراة السلطة، ولن تجد في القادم من الأيام إلا تلك
السلطة والرعاع الذين تستعين بهم، مساهمة بذلك في تكريس تخلف المجتمع بدل
توعيته.
يتم كل ذلك وبهذه الطريقة الفجة كي تكون
نعم مدوية، والثمن هو القضاء على نخبة سياسية كانت إلى أمد قريب مرشحة لأن
تلعب دورها أمام غياب وعي مجتمعي سياسي، لينتهي بها المطاف في اصطفاف خلف
السلطة، تاركة للشارع لعب الدور المنوط بها، مع كل المخاطر التي يمكن أن
تترتب عن ذلك، بسبب غياب الوسائط التي تهدىء وتخفف من حدة الغضب والرفض
والاحتقان مع تحويلهفي نفس الوقت إلى ممارسة سياسية واحتجاجية مسؤولة.
صباح يوم السبت القادم إذن سنستيقظ على دستور جديد، لا مفاجأة في الأمر،
وسيعم الفرح وسننعم ببحبوحة العيش مع أول إفطار نتناوله، وعاش الإجماع
داخل التعدد، والخزي للمقاطعين، الذين يرفضون الهدية، وستأتي الانتخابات
بحملة تقلد حملة الدستور، وعاش المغرب الذي يتغير كي لا يتغير، وسحقا
للعميان الذين لا يبصرون ثورتنا الهادئة التي من فرط هدوئها صارت تبعث على
الملل.
إنها العبقرية المغربية، التي لا يجارينا
فيها أي شعب أو دولة يدعيان الديمقراطية، ففي ظرف أربعة أشهر حاذينا
المستقبل والحرية، لنجد أنفسنا وقد عدنا على حين غفلة إلى القرون الوسطى،
مارين بسنوات الرصاص، لنكتشف بعد ذلك أننا لم نبرح مكاننا، وأن المغرب
الحالي فيه كل العصور والأزمنة، وكما هو قريب من أوربا، يحن في نفس الوقت
إلى جذوره ونقاء عرقه، ولأنه عبقري واستثنائي، فهو يتوفر على مواطنين
يقبلون الدستور قبل الاستماع إليه ومعرفة تفاصيله، وآخرين يرفضونه بنفس
الموهبة، وأحزاب لم تعد تعول على هؤلاء المواطنين، وتيقنت أن المجتمع لا
يمكن الاعتماد عليه، تاركة المجال للدولة وحدها كي تتحمل مسؤوليتها وتلعب
كل الأدوار، وحين تشعر الدولة بتهديد ما، تزور زواياها التي لها أتباع
أكثر من كل التنظيمات السياسية، وتردد معها الأذكار والأدعية، لأن الدولة
المدنية كي تستقيم تلزمها كرامات أولياء الله وخوارقهم الذين يعرفون كيف
يصدحون بنعم قوية في هذه البقعة الغريبة من أرض الله.