إنَّ أحداً من العرب المعادين لإسرائيل والمنادين، في الوقت نفسه، بالحرية والديمقراطية لشعوبهم من طريق إطاحة أنظمة الحكم الدكتاتورية كنظام الحكم الأسدي البعثي في سورية، لا يُنْكِر أنَّ "حزب الله" اللبناني (الشيعي) هو من أهم قوى المقاوَمة العربية للعدو الإسرائيلي (في لبنان وجنوبه على وجه الخصوص) وأنَّه يتبادل مع هذا العدو القومي الأوَّل للعرب عداءً حقيقياً، وأنَّ وجه الاختلاف بين هذا العداء المتبادل (والذي نَحْرِص على بقائه ونموِّه كل الحرص) و"العداء المتبادل" بين سورية (أي نظام الحكم السوري) وإسرائيل هو نفسه وجه الاختلاف بين "النَّقْد الحقيقي" و"النَّقد المزوَّر"؛ كما لا يُنْكِر ما أبداه مقاتلو هذا الحزب من مقاومة بطولية في مواجهة العدوان العسكري الإسرائيلي عليهم وعلى لبنان، تشبه، لجهة نتائجها "نصراً" على هذا العدو.
لكنَّ كل مآثِر "حزب الله" في صراعنا القومي ضدَّ العدوِّ الإسرائيلي لا تمنحه الحقَّ في أنْ يَقِف ضد ثورة الشعب السوري على الدكتاتورية والاستبداد، وضدَّ حقِّه في أنْ يؤسِّس له دولة ديمقراطية؛ كما لا تَمْنَح الحقَّ لأمينه العام الشيخ حسن نصر الله في أنْ يتبنَّى مواقف ووجهات نظر حُكْم بشار الأسد في شأنْ ما يَحْدُث في سورية، وفي أنْ يُصوِّر هذا الذي يَحْدُث على أنَّه مؤامرة (لإسرائيل يَدٌ فيها) ضدَّ سورية؛ لكونها الدولة العربية الوحيدة التي ما زالت مقاوِمَة للعدوِّ الإسرائيلي، وتَدْعَم كل قوَّة عربية تقاوِمه.
وليس بمحض مصادفة أنْ يَخْرُج حسن نصر الله ليَمْنَح نظام حكم بشار شيئاً من "الشرعية" في جُمْعة نَزْع الشعب السوري (في حراكه الثوري الديمقراطي) الشرعية عن نظام الحكم هذا.
لقد أهدى نصر الله إلى بشار هذه الهدية وهو يَعْلَم (أو لا يَعْلَم) أنَّه، وفي هذا الربيع الشعبي الثوري العربي مُخْتَلِف الموازين والمعايير، لا يستطيع أنَّ يَمْنَح الدكتاتورية في سورية "شرعية (استمدَّها هو من مقاومته الحقيقية والبطولية ضدَّ العدوِّ الإسرائيلي)" من غير أنْ يَفْقِد، في الوقت نفسه، قَدَرَاً كبيراً من شرعيته هو، أي من رصيده الشعبي، سوريِّاً وعربياً؛ فإنَّ الشعوب العربية الآن قد نَضَجَت بما جَعَلَها تَفْهَم "القومي الجيِّد"، أكان حاكماً أم محكوماً، على أنَّه "الديمقراطي الجيِّد"، و"الديمقراطي الجيِّد" على أنَّه "القومي الجيِّد"، فلو أنَّ بشار الأسد حرَّر لها بيت المقدس لن تسمح له بأنَّ يتَّخِذ من هذه المأثرة القومية العظمى ثَمَنَاً يشتري به بقاء نظام حكمه الدكتاتوري؛ فالحرِّية والديمقراطية أوَّلاً!
حتى ضغوط "الجغرافيا السياسية" لا تُبرِّر للأمين العام لـ "حزب الله" أنْ يَقِفَ (وعلانيةً) مع بشار ضدَّ ثورة شعبه عليه؛ أقول هذا إذا ما كان لحُسْن الظنِّ بالدوافع التي دَفَعَت حسن نصر الله إلى أنْ يَقِفَ هذا الموقف مُبرِّراً واقعياً.
"حزب الله" يَعْلَم أنَّ الجغرافيا السياسية تُكْسِب أيَّ نظام حكم في دمشق القدرة على خَنْق هذا الحزب، عسكرياً ولوجيستياً، إذا ما أصبح لنظام الحكم هذا مصلحة في ذلك؛ وهذا إنَّما يَفْرِض على "حزب الله" أنْ يتعلَّم كيف يكون على علاقة جيِّدة مع سورية، حاضِراً ومستقبلاً، وليس حاضِراً فحسب، وألاَّ يَقِف مواقف يمكن أنْ تفيده في الحاضر؛ لكنَّها ستُلْحِق به ضرراً كبيراً في المستقبل، إلاَّ إذا فَهِمَ ما يَحْدُث في سورية على أنَّه صراع بقاء مشترَك، يخوضه، وينبغي له أن يخوضه، جنباً إلى جنب مع نظام الحكم السوري ضدَّ ثورة شعبه عليه، وكأنَّ لا خيار لهذا الحزب إلاَّ أنْ يَنْتَصِر مع بشار أو أنْ ينهزم معه.
وربَّما أراد "الحزب"، بمواقفه المؤيِّدة لنظام حكم بشار ضدَّ الشعب السوري، أنْ "يقيِّده أخلاقياً"؛ فهذا الحزب يخشى (أي ربَّما يخشى) أنْ يكون هدف "المؤامرة" التي يتعرَّض له نظام حكم بشار (على ما يُزْعَم) هو إضعاف (لا إسقاط) نظام الحكم هذا بما يَحْمِله على التضحية بـ "حزب الله" من أجل أنْ ينجو هو بجلده، ويتحرَّر من الضغوط التي يتعرَّض لها، والتي ما عاد قادراً على احتمالها.
إذا صحَّ هذا الافتراض فإنَّ "حزب الله" يَخْدَع ويُوْهِم نفسه بنفسه؛ فإنَّ "الأخلاق" هي آخر قَيْدٍ يمكن أنْ يتقيَّد به نظام حكم بشار الأسد.
إنَّ الفرضية التي أراها صحيحةً أكثر من سواها هي أنَّ "حزب الله" يَفْهَم سقوط نظام حكم بشار الأسد على أنَّه نهاية لسورية، دولةً ووطناً وشعباً؛ فإنَّ بعض الدولة العربية مُركَّبة بما يَجْعَل بقاءها موحَّدة من بقاء نظام الحكم فيها، فإذا سقط تمزَّقت وحدتها، وخَرَجَت من أحشائها "دويلات القبائل المتصارعة".
وتَوافُقَاً مع هذا الافتراض (الذي أتوقَّع صحَّتِه) اختار "حزب الله" أنْ يتحالف مع نظام حكم بشار في حربه على شعبه، فإمَّا (وهذا احتمال لن يسمح الشعب السوري بجعله حقيقة واقعة) أنْ يَنْتَصِر معه (وتبقى سورية من ثمَّ موحَّدة) وإمَّا أنْ يأتي تمزُّق سورية (الافتراضي) بما يفيد "حزب الله" وإيران.
في هذا الربيع العربي ما عاد ممكناً الجَمْع بين "القلعة" السورية (التي يَزْعُم نظام حكم بشار الأسد أنَّه يمثِّلها وصاحبها) في مواجهة العدو الإسرائيلي وبين بقاء سورية سِجْناً للشعب السوري؛ فإنَّ الشعب الذي يَجْعَله حاكمه جماعة من العبيد (سياسياً) له ليس بالشعب الذي يَصْلُح لخوض معارك الدفاع عن حقوقه وقضاياه القومية؛ وهل ثمَّة من حاجة إلى التذكير بأنَّ العبيد لا يقاتِلون؟!
وإنَّني لأسال كل أولئك الذين يحامون عن "المقاوِم الأوَّل"، أي نظام حكم بشار الأسد، هل لدى الشعب السوري من الأسباب ما يَحْمله على الثورة ضدَّ نظام حكم بشار؟
إنَّه لأمرٌ منافٍ للسياسة الأقرب في منطقها إلى الفيزياء منها إلى الميتافيزياء أنْ يُحْكَم الشعب السوري في هذه الطريقة (الأسدية البعثية الدكتاتورية) من غير أنْ ينمو في رَحْم هذا المحكوم جنين الثورة على حاكمه؛ فإنَّ هذا الحُكْم هو بحدِّ ذاته سبب ثورة شعبه عليه؛ فلا تبحثوا عن السبب الحقيقي لثورة الشعب السوري في خارج العلاقة بين الحاكم والمحكوم في سورية، وبمنأى عنها؛ فإنَّ كل قوى الكون لن تستطيع أنْ تَسْتَخْرِج لنا من الماء صوصاً!