لعلّ
أحد أهمّ هموم كلّ إبداع هو راهنيته. وهذه الراهنية لا تعني أن ينـغرس
النصّ/ الرواية وقد أثبت الزمن والمكان، لكنّها المحايثة بما هي حركة
انسيابية داخل زمن يعود على ذاته أبدا ليتعرّف إليها. فإذا كان همّ
التاريخ هو استحضار الأحداث، وصيغ الربط بينها وسياقاتها، حيث يساق الجميع
إلى مذبح الحدث كالقطيع، فلا تبقى غير بعض النتوءات هم كـهنته وقدّيسوه،
فإنّ النص إلابداعيّ هو إثبات وجود للذوات المهملة ولأنات تفصيلية لا يقوى
على جرفها سيل الكتابة التسجيلية، أنّات تحيى من نزف الجرح المهمل، فيصير
بها ومن خلالها الجرح أعمق، وتصير حياتها داخله أطول. إنّه استحضار لها
كأنّات لازالت تصير، فلا تغدو الكتابة انفصالا عن تسجيلية ما يحدث
وافتراقا عمّا يكون إلاّ كي تستلهم ما يصير. فالإبداع هو تحليقة لا يغادر
الفكر من خلالها الأرض إلاّ ليكون أقرب إليها من سماء القصّ الساذج. فإذ
ينفصل عن مشهد فإنّما ليرسمه في لوحة تؤلّف بين المتنافر والمتناقض من
المشاهد. فتعاليه إنما هو إفلات من ربقة التثبيت ومن عبودية الأفق محدود
الضيق ومن سجن الإطار. وهي مغادرة لسطحية الوقائع والمشهدية البلهاء، لا
لتقف على ربوة الأحداث المتكدّسة في تلّـة من الكتابات، والكتابات على
الكتابات، السيئة والرديئة، لتصطنع صورة جامدة ثابتة تسيّجها المدارسية
وتؤطّرها حدود الكتابةّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ، لتقرأها عيون جامدة تبحث
بين الفواصل وأدوات الربط عمّا قد يبعث بعضا من الحياة، في كلمات يبّستها
شموس الاستهلاك اليوميّ ومعاني نفقت اختناقها تحت وطأة الصفحات ومن غبار
الوقوف. وإنما لتكون نظرة لعيون جديدة تحمل موتها المشتهى بين أجنحة
تحليقتها، فتحاكم المسوّغ من النسخ اللا إنسانية بالازدراء والسخرية
واللامبالاة، وتبصر داخل إنشاءات الإنسانيّ مشاهد ليست مليئة بالحركة،
وإنما هي الحركة لا تختصر الإنسان أو تلخّصه، وإنما تتسع لإمكانات المفارق
والمغاير بعيدا عن خداع المختلف. فلا يعود الإبداع تصويرا أبلهَ للوقائع،
وإنما إعادة رسم وجه الحياة / المـوت منزوعة عنه كلّ المساحيق التي تحاول
تجميل واقع الدم والدموع والكدمات. ويكون النص معولا يحفر في أرض النسيان
والفرح المصطنعين، فيرجّ الثوابت ويحرج هذا الضجيج الأصمّ لعالم معولم لا
يسمع إلا صوتا واحدا، هو صوته الخاص، الذي يأتي صفيرا حادّا يروم اغتيال
همس الإبداع، فينزل المبدع يلوّن الساحات، يجوب أزقّة الأحياء الشعبية،
يغزو مواطن الذكريات، ويؤتي عرضا مجنونا في فنّ كسر سلاسل الممنوع واللا
أخـلاقيّ، ليجمّل بالجنون وجه الشوارع الحزينة، ساعيا خلف الموت يلاحقه،
يطارده، يكاتفه ويواجهه ليكشف بعضا من جماليّته وإغرائه " في انتـظار
الحـيـاة "، وهو مسمّى رواية كمال الزغباني التي نعرض لها في هذا المجال
والصادرة عن أديكـوب للنشر والتوزيع تونس.
يمكن اعتبـار هذا النصّ مثالا لتعـدّد الأصوات في الرّواية؛ فلهجاته
تراوح بين العامّي الواسع من أرياف القصرين بالغرب التونسي إلى ريف قابس
بالجنوب، مرورا بالفصحى ولغة الشارع كقاموس يقوم بذاته، أصوات ذوات
متشظّية مسكونة بالجنون والتهـكّم، بالثوريّة واللامبـالاة، بالجـديّة
والسخرية (عيـسى/ إسماعيل) وأخـرى ناطقة باسم الشهوة والاعتـدال، الرغبة
واحتقـار الجـسد، الفـنّ والمتـعة (عائـشة / فـاديـة)، شخـصيات تحمل لواء
الـدين والسكّين، تتوزّع بين خرجات التعبّد وقضبان السجون (عـمـر/ عـلـي)،
كلّها أصوات وإن تغايرت أو ربّما تنـاقضت فإنّما تحـيـل على بعضها البعض،
تحيل على الواقـع.
يـدفع بنا الزغبـاني إلى استـرجاع وجع رحلة تغطّـي ما يناهز عقودا
أربعة تبدأ في السبعينات مع ارتجاليّـة سياسات اقتصاديّة تحالفت مع قسوة
الطبيعة، ففـقّـرت الريف ودفعـت بـأهله إلى النـزوح إلى " استبـدال فقـر
أبـيّ بفـقر ذلـيـل ". (92)
فأثث النـازحون ما سمّي بالأحياء القصديرية آنذاك، لتُهـذَّب لاحقا
وتصبح أحياءً شعبية طوّح بمتساكنيهـا "الحنـين إلى الجنّـة المفقودة أو
الحلم بالجنّة الموعـودة " (92). ودخل محتشدات الفقر والإهـمال مجمّعات
العمّال الوقتيين وعمّال التنـظيف والبنـاء وعاملات مصانع النسيج وتصدير
الأسماك خاصّة والخادمات. ويبـدو بطل الزغباني موزّعا بين شخوص عديدة نحتت
كيانه ظروف وعلاقات ووقائع، فكان تعبيرة صادقة عن جيل استبطـن آلام شعبه
وتلبّس بشخص الوطن، جيل حوّلته خيباته وآلامه وانكساراته إلى " عدميّ ولا
مبال حتى النخاع " (63). جيل حاولت القوافل الصحيّة والتلاقيح ضدّ
الكوليرا والجدري والسلّ والشلل مساعدته على مقاومة ظروف حياة صحبة فقد
كان يقاتل المرض والموت بطرق بدائيّـة من ضمائد البترول والورق الأزرق أو
ورق الجرائد ضدّ الحمّى، والزيت والحنـّـاء وغيرها من تلاقيح طبيعيّة
وكانت " الشهـلاء، العجوز السوداء، روح الشراقة الغامض (297) صورة مزدوجة
للموت المقيم والمخيّم على رؤوس الجميع وللإمكان امتـداد الحياة ودلالة
على كلّ ما يمكن أن يحلّ بأهل المكان، إنّها أيقونة تحمل كلّ أسرار وأسباب
الفنـاء. كما تحيل على إرادة الحياة، خاصّة لمّا " وضعته عاريا في قفّة من
السعف، ربطتها بحبل وأدلتها إلى البئر في مساء شـديد البرودة "(238)
وكأنّها تختبر إرادة الحياة لديه قبل أن تسرّح بأنّ ذلك الرّضيع الأصفر
الشاحب " أصحّ من الجنّ وأنّه سيعيش طويلا " (238).
ولعلّ ذلك الصّراع الدوريّ ضدّ غول الموت المتربّص حتى تحت الجراح
البسيطة – لانعدام وسائل طبيّـة ناجعة- هو ما أقنع جيلا بأسره بأنّه نخبة
طبيعية لن يقـدر حتى الموت على كسرها، إنّها إرادة أسطوريّة تتأسّس
انطلاقا من أجساد موشومة بآثار جروح اندملت مهما كان غورها، ولروح لازالت
توشّى بحصاد الجراح المثمر والمتواتر ليخلق توليفة عجيبة من " الشيطنيّـة،
اللاأخلاقيّة، الجنـون، الملائكيّـة، البشاعة، الرّعـب، القـداسة " (29)
وكانت الكتابة هي إعلان ذلك الموت المؤجّل منذ الولادة، إنّها آخر قطرات
نزف وطن ذبيح نحرته " مدية صدئة في يد جزار أحمق " (218) وطن صلبته "
الرّأس ماليّة الجشعة بمساعدة أسّاسة الأغبياء " (217). وإذا كانت الكتابة
تركيبا إبداعيّا لجثة المبدع / الوطن وتجميعا لأدلة الجريمة وأدواتها،
فإنّ القراءة تصبح تشريحا للجثّة المنثورة بين الصفحات ليبحث القارئ بين
المفاصل وفي العروق عن تفاصيل معاناة وإن خبت فإنّها لم تنطفئ بعد، وإنّما
تومض كمنارة مهملة على شاطئ وإن كان مهجورا فإنّه لم يسقط في النّسيان،
فذاكرة المبدع بعث لأحداث " تترجم بدقّة كارثيّة مضمونة النظام العالمي
الجديد " (206). إنّها استعادة لاضطرابات مثلّت انتفاضات تشبّـث بالحياة،
رغم شدّة النزيف وعمق الجراح التي خرّب بها " الناطقون الجدد وغير
الرّسميين، باسم صندوق النقد الدّولي والنهوض باقتصاديّات العالم الثالث "
(168) نسيج البلاد وحياة أهلها، فكانت أحداث جانفي المتكرّر هي ما ميّز
مسيرة شعب " كلّ لحظات حياته وموته تحدث في جانفي " (202) اختلاجات بقيّة
حياة وإرادة لكسر الصلبان المشهرة في وجه كلّ طوق للحريّة، بداية من جانفي
1978 فيما سمّي بالخميس الأسود، خميس الإضراب العامّ احتجاجا على واقع "
البطالة التي استفحلت مع نهاية السبعينات " (218) وارتفاع الأسعار وتدنّي
الأجور وبالتالي المقدرة الشرائية للمواطن، مرورا بجانفي 1981 و 1982
والتحرّكات التلمذية التي عمّـت البلاد احتجاجا على نفس الأسباب زيادة إلى
وجود " مشاكل كثيرة داخل المعهد (المعاهد) وفي البلاد " (161) ليولد شعار
النقابة التلمذية بعد عشريّة من الانقلاب على النقابة الطلابية ولم نخش "
انهيال العصيّ على ظهورنا " (163)، ولا " الاصطدام بالبوب وبميليشيات
الحزب الحاكم " (163) ليكون تتويجها الدّموي في جانفي النار والرصاص سنة
1984 لمّا " رأينا الشعب الجائع يكسر كل شيء ليحرّر خبزته " (162)، ورأينا
الدبابات تغزو الشوارع، تطحن إرادة الجياع، لتعـدّ عجينة الذلّ والمهانة،
وخاب الذين آمنوا بأنّ " القطيع الأبله " (162) قد يصنع بعفويّته التاريخ
و" أنّها الثورة أخيرا " (168)، لمّا كان مجرّد الإعلان عن عودة الخبز
لأثمانه القديمة كافيا لوضع حدّ لذكريات دمويّة لم تمض عليها سوى سويعات،
وارتفع الخبز فوق ماسورات الدبابات وعلى أسطح عربات البوليس وخرجت "نفس
الجماهير" ترفع الخبزة الطويلة مكان اللافتة العريضة " (168). لقد مثّلت
تلك المرحلة انعطافة باتجاه القضاء النهائيّ على كل ما تبقـّى من بؤر
الرفض والمقاومة الممكنة، وبداية الاستجابة لنصائح النظام العالمي الجديد
القائلة " لا تسعََ طفلنا العزيز إلى نحت شخصيتك وبلورة تجارب أو قيم أو
أفكار حول ذاتك وحول العالم؟ كلّ هذا موجود لدينا وبكمّيـات شديدة الوفرة
وسنحقنك بالجديد منها كلّما شعرت بالضيق أو بالملل من القليل " (206) وكان
الانحراف الأخطر باتجاه مجتمع سوف يتآكله التطرّف والعنف والميوعة والعجز
عن تأسيس أو تأصيل قيم أو مبادئ في " بلاد يحلم كلّ فتيانها أن يكونوا
لاعبي كرة وكلّ فتياتها أن يكنّ مغنّيات أو عارضات أزياء (220)، بعد أن
شوّهت العولمة أحلامهم ووأدت الرّأسماليّة رغبتهم " في تحقيق ذواتهم فرديا
وجماعيّا " (212)، فأصبحوا بذلك أقرب إلى جمهرة من المحبطين يصفـّقون
للبلاغة الجوفاء، فاقدين لكلّ قدرة على الفعل، مجرّد قطيع انفعاليّ ولعلّه
لذلك كان" ينبغي الحديث عن جمهور تونسيّ" وليس عن "شعب تونسيّ ""(206)،
جمهور من القصيرة ذاكرتهم، الضيّقة آفاقهم، لا يحسنون غير إحداث الهرج
والشغب دون أن يمضوا باتجاه الفوضى والتغيير، يخشون كلّ تجديد ويحتمون
بالغيب ويتستّـرون بالثوابت وتتجلّى تلك الميتة من خلال عمليات " الإجهاض
المبكر" (199) والمتكرر للطفل الحلم، للحياة المنبثقة للرّحم، الحبّ
والجنون في مضاجعة ثلاثية بين جمالية مبدعة وعنف المبادئ الثورية وآلام
التهكم والاستهتار على سرير الجنون وبين جدران العزل والتهميش، فكان الحمل
طفلا هو مزيج جنينيّ من الثورة والحلم والحرية، اغتيلت على يدي العلم
(الطبيب) قاتلا مأجورا باهظ الكلفة مهمّته "إعدام مشروع كائن بشريّ"
(199)، خدمة لسلطة بشعة، بشاعة "الفتاة الدميمة الغارقة في ميدعة ناصعة
البياض أكبر من مقاييسها بكثير" (187)، فهي أقرب إلى قبيلة ترتدي رداء
الدولة، وعلى مذبح الأخلاق والعادات والتقاليد.
إنّ بطل الزغباني الذي يواصل " الإقامة على ذلك الخيط الرهيف الفاصل
بين الموت والحياة " (237) لم يكفّ عن معايشة الخيبة / الموت من خلال
تجاربه السياسية، تجاربنا اللذيذة رغم قسوتها " عندما تنهال علينا وعلى
البقية عصيّ البوب وعندما تحرق عيوننا القنابل المسيلة للدموع " (163)،
تجارب من اعتـقلوا وعذّبوا في الأقبية وبين جدران الزنازين، من استشهد
رفاقهم وأصدقاؤهم برصاص البوليس في المسيرات أو تحت لفح سياط الجلادين،
تجارب من اقتيـدوا " لتحويل الصحراء إلى واحة غنـّاء (168)، حين تنقلب
المعايير ويصبح حبّ الوطن تهمة وتأدية الواجب الوطني عقوبتها، عقوبة من
آمنوا بأنّ " الثورة قادمة لا محالة "ورغم كلّ شيء" (182)، وخارج السجون
والمعتقلات عملوا مع بقية أبناء الشعب ولسنوات من أجل إنجاز الحلم، الذي
تعلقت به الحركة الطلابية وهو اتّحاد الطلبة و"إعادة تركيز هياكله لمقاومة
" الخوانجية" الذين زحفوا على الجامعة وعلى المجتمع مثل الجراد الجائع "
(171) وكان الجميع "يفني عمره وجسده من أجل إنجاح المؤتمر الخارق للعادة "
(184)، كان الإنجاز، لكنه لم يحقّق آمال من "سهر عليه شهورا " (171) بل
كان محاصصة قام بها البارونات "الذين " أصبحوا في ما بعد يتباهون بإنجازه
ويقطفون ثماره " (213)، ويبدو بطل الزغباني عندما يقول "تخلّى عني الرفاق
جميعهم بعد دخولي للمستشفى أصبحت بالنسبة لهم مصدرا للخيفة والتوجس "
(213)، إنما يعلن تحوّل كلّ مناضل إلى شاهدة على قبر الأحلام والآلام
والآمال المدفونة تحت لحود إنجاز " المؤتمر الثامن عشر " الخاري للعادة "
(171)، وكانت النتيجة " أن الانقسامات بدأت تظهر في الاتحاد (وأصبح)
المتطرفون يسيطرون على كلّ شيء في الجامعة وفي البلاد " (182).
إنّ عيسى أو إسماعيل بطل الزغباني، وإن كان بادي السخرية والتهكم،
مغرقا في السلبية واللامبالاة، فإنما لأنّه "استبد بروحه ضرب من اليأس
العميق، يسبب ما عاشه وما عايشه من إحباطات ونكسات فردية وجماعية (205)،
ثمّ لأنه كان مسكونا بكلّ جروح الإنسان وعذاباته، لأنه لم يكن أبدا محايدا
تجاه ما كان يحدث حوله " (205)، لقد عايش آلام أرياف، خانها الساسة
وأجدبها العطش وقسوة الظروف الطبيعية فتحوّلت أراضيها " إلى مشروع خراب
دائم وأكيد " (218)، فنزح أهلها باتجاه المدن والمناطق الصناعيّة التي
ذبحت جمالية مناطق عديدة من الوريد إلى الوريد، فتحوّل سكانها إلى "جمهرة
من المصدورين والمسوّسة عظامهم " (218)، ليجدوا أنفسهم يؤثثون محتشدات
تعشّش داخلها فيروسات الدعارة والإجرام والتطرف كأدوات مكنت " من تحويل
القهر إلى عنف " (92)، وأغرقت المجتمع في مشاكل جديدة أنتجتها الرأسماليّة
الزاحفة على البلاد بأسرها عبر مشاريع " وقع قبل ذلك منعها لا فقط في
العالم المتحضّر بل حتى في دول العالم الثالث التي دافع أهلها بشراسة عن
حقهم في الحياة في مناطق أقل جمالا وقيمة بيئيّـة وتاريخيّة"، من قريته
التي تحوّلت " إلى كائن شائه ليس بالقرية ولا بالمدينة بل مزيج منفـر
منهما " (188)، في منظر عمّ البلاد من شمالها إلى جنوبها ليصبح سكانها
بدورهم كائنات مشوّهة مثلتها عائلة فادية الرسامة، إذ أصبح الأب "عبدا
للخمرة"، والأمّ أرملة يدخل عليها في كل يوم شبح زوجها الميّـت " (93).
وابنة كبرى تنفق من جسدها على العائلة وكأنّ " قبول أبيها للأموال … يعني
بالضبط حكما قاطعا ونهائيا بأنها مومس " (118)، وأخ يبحث " عمّا يمحو أو
يغطي ذلّـه أمام السمعة التي أصبحت تحظى بها أخته " (96)، وبما أنه يمتاز
بقوة العضلات فقد تحوّل إلى " منحرف أو خليقة كما يقال " (96)، كما أنّ
استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية قد مهّـد كذلك لوجود ظاهرة أخطر هي
ظاهرة التطرّف التي أصبحت تهدّد " ضعيف البنية " محدود الذكاء " (94)،
لتتطور بعد ذلك وتأخذ " بعدا شاملا وعالميا وإنه ينبغي على الفلاسفة الحفر
فيها أكثر " (182).
لقد ولـدت مجمل هذه العوامل متضافرة لدى البطل التراجيدي للزغباني "
نقمة عاجزة على مختلف أشكال الاستبداد والنفاق اليوميين " (208)، استبداد
كلّ هذه الأشكال الكليانيّـة الظالمة بداية بالفقر وانتهاء بالعولمة
والنفاق الذي مثلته مختلف قيادات الاتجاهات السياسية واليسارية منها خاصة،
حين تمكنت الدولة من " جعل الذين يحلمون بالثورة يساعدونها على مراكمة
المزيد من الثروة " (168)، لكنّ نقمته العاجزة هذه بعد أن صادرت منه كلّ
أسلحته سواء بالعزل أو المنع بالعنف، أو من خلال الرقابة، التي يعبر عنها
النص من خلال وضع الحريات والصحافة حين يتحدث بسخرية " حول التطورات
البطيئة والأكيدة للديمقراطية التعدّدية في تونس وحول الخطوات الواثقة
التي قطعتها حرية الصحافة " (174). لم تكن قادرة على مصادرة إشفاقه على
الشعب الذي لم يكن " سيدّخر جهدا لو أتيحت له الفرصة للقيام بعمل ما من
أجل تحسين وضعه " (206)، وما تعريته للجسد / الوطـن ليخطّ عليه الإبداع
لوحة، وتتحوّل العملية الإبداعية في القراءة من تشريح لجثـة إلى رسم /
وشـم، ولتعبّـر " تقـلصات الألم " التي عبرت جلده مع حركات القلم فوقه "
(158) عن الحياة التي لم تفارق هذا الجسد لحظة. بل لعلّ لقاء بطلة
الزغباني بيوسف الطفل الذي أعادها إلى " عالم طفولتها المليء بالأخيلة
والأحلام " (220)، ثمّ من خلال احتفاظها بالجنين، مؤشّر على ما يزرعه النص
من تفاؤل كخلاصة لكمّ هائل من الميتات المبشرة بولادة جديدة قد تكون هي
الحياة.