-
إيمانويل تود، في كتابكم "ما بعد الديمقراطية " تلاحظون أنّ الدّيمقراطية
مريضة، ذلك أنّه لم تعد هنالك عقيدة جماعية. هل تأمل عودة الدينيّ إلى
فرنسا، كما في الماضي، أم لك حلّ آخر لإحياء الديمقراطية ؟ إيمانويل تود :بما أنّني شخصيا غير مؤمن، فإنّني أنظر إلى الأمر كمحلّل وليس كداعية
أخلاقي. لقد ولجتُ الفراغ الديني عبر السؤال التالي: كيف استطاع "نيكولا
ساركوزي" أن يفوز في الانتخابات ويُصبح رئيسا وهو يقول "أيّ كلام"؟ لأنّه
بالنسبة لي، أرى أنّ كلّ الأنظمة الإيديولوجية المهيكلة للأحزاب السياسية
تآكلت تدريجيّا (شيوعية، ديغولية…إلخ) خلال الثلاثين سنة الأخيرة. إنّ
الأزمة النهائية للكاثوليكية وانهيار معاقلها الأخيرة في فرنسا سنوات 1960
كانت مبعث هذا الانحلال (التفسّخ)، وانتشار الفراغ. أنا لا أطالب بعودة
الدينيّ، ولكنني ألاحظ فقط أنّ هذا الفراغ خلق الكثير من القلق والانزعاج،
ومع أنّه زعزع النظام السياسي وبعض المثقفين غير أنّه لم يزعزع المجتمع
الفرنسي ككلّ.
فيليب فال :أنا لا أتصوّر أنّ هناك أزمة عقيدة، لمواجهة الموت والوضع الإنساني عامّة،
فإنّ الفكر يتعلّق دائما بظواهر لا سيطرة للعقل عليها، إنّه ميل طبيعيّ
لدى الكائن البشريّ، هذه العقيدة يمكن أن تأخذ شكل إله، أو أشكالا أخرى
أكثر ابتذالا: النظريات التآمرية المبثوثة عبر الأنترنات، ومعجزة الأدوية
المعالجة لداء الثؤلول والسرطان وغيرها. إنّ عقيدة الديانات الكبرى مازال
أمامها أيام جيّدة ستعيشها، غير أنّ هذا الامتعاض والفراغ والقلق غير
مرتبطة بغياب العقيدة بقدر ما هي مرتبطة بغياب العلاقة بين السلطة
الواقعية-سلطة الدولة- والمواطن. لقد انتفت العقيدة والإيمان بدور
الاتصالات والحوار. ولم يعد هناك إيمان بدور الوسيط : البرلمانيون،
النواب، الإعلاميون، المحامون… لم تعد هناك حظوة لممثل الشعب الخبير الذي
بمقدوره تخفيف الصدمة بين السلطة وجسم المواطن، بنظري إنّ فقدان العلاقة
يأتي من هنا… والمجتمع هو عبارة عن سلسلة من الوسائط لا يمكن أن نقول
بأنّها مقدّسة لأننا نعيش في فضاء لائكيّ، ولكنّها ضرورية كما يقول
سبينوزا.
إيمانويل تود :إنّ زوال المعتقدات الجماعية، يفسّر عجز الطبقات العليا عن التفكير في
حلول للمسائل التي تشغل الناس وتثير حيرتهم. مثال المساءلات على المستوى
الاقتصادي (الشمولية، اللامركزية، انخفاض الرواتب، الأزمة العالمية) لا
أحد يمتلك الجواب؛ إنّ حلّ هذه المسائل العالقة-انخفاض الأجور، عجز الطلب
العام الناتج عن التبادّل الحرّ- سيكون بمثابة الحماية الأوروبية. ولكن
الحلّ هو جماعي وداخل حالة التشظي والفردانيّة المطلقة التي يعيشها
المجتمع، إنّ العجز عن التفكير الجمعي يشلّ النخب ويمنعها عن وجود مخرج هو
تقنيا غاية في البساطة. في هذه المرحلة أخطر تهديد نواجهه، هو عودة أشكال
الدولة الأكثر استبدادا وشمولية، ليست الدولة الاجتماعية، من اليسار أو من
اليمين، بل الدولة الوحش البارد والمخيف، والذي يفرض فقط حلولا أمنية
نظامية، بدل حلّ المشاكل الاقتصادية.
فيليب فال :متى غابت هذه العقيدة الجماعية؟ في آخر العصر الوسيط، إذا لقد انتهى هذا
التاريخ تقريبا منذ خمسة قرون. الإنسانيون الكبار لذلك العصر أدركوا أنّ
الأزلية، الإلوهية الخالدة لا وجود لها: لا شيء أبدي، إنّ الحركة العامة
للكون هي السؤال الأكبر. هذا ما يشهد به مونتانيMontaigne.
وهكذا بدأت الديمقراطية تفكّر بثقافة تستطيع التأقلم مع حركة الحياة هذه،
ومع هذا الواقع المتحرّك والذي يسمح بالحوار. إنّ ظهور ممثّلي الشعب عن
طريق الأحزاب السياسية هو شكل من أشكال تسيير المجتمع الذي يعيش حركية
متواصلة. وهم عنصر ضروري جدّا . مع غياب سلطة ممثليهم، يجد الناس أنفسهم
معزولين في مواجهة السلطة. إنّه لأمر مرعب ذلك أنّنا في حاجة ماسة وملحّة
للتواصل.
إيمانويل تود :إنّ الظاهرة المكثّفة التي سنواجهها تمسّ بالتضحية الاقتصادية للأجيال
القادمة، من الآن فصاعدا سيصنع النظام الفرنسي والبلدان المتقدمة عموما
جمهورا من حاملي الشهائد العليا، مع إمكانية تشغيل متدنية ورواتب زهيدة،
وهذا ما ينذر بانفجار صراعات وصدامات جديدة، وأستطيع القول أنها صراعات
طبقية .
فيليب فال :أريد أن أركّز على نقطة لم تولها الديمقراطية العناية اللازمة: إنّها
المكانة التي ستحتلّها وسائل الإعلام الجماهيرية، والطريقة التي من خلالها
ستوجّه الديمقراطية وتحوّلها عن مسارها. ومن المفارقات، أنّه كلما ازدادت
أهمية وسائل الإعلام نقصت الحركيّة وانخفض دور الوسيط الإعلامي، كل شيء
يبدو وكأنّه يحدث مباشرة موهما إيانا أنْ لا حاجة لنا بالوسطاء. لنأخذ
مثالا خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية؛ قفز مرشّحان عن حزبيهما، ومرّا
مباشرة عن طريق TF1 التي ساهمت في إقصاء الوسيط وتركت "سيقولان روايال"
و"نيكولا ساركوزي" وجها لوجه مع الجمهور.. هذا الانطباع بأنّنا ننعم بأكبر
قسط من الديمقراطية هو طبعا مبهج ومفرح. ولكن في حقيقة الأمر هذا التحول
يمثل تراجعا كبيرا .
- تتكلّمان معا عن غياب مُثُل جماعية، ولكنّ بعض المبادئ
الموروثة عن عصر الأنوار مازلت حيّة بيننا: أنّنا مستعدّون للنزول إلى
الشارع، لو غدا هُدّدت حريّة المعتقد أو حرية التعبير أو حقوق الإنسان،
إنّها معتقدات جماعية قويّة مازلت تهيكل المجتمع الأوروبي، ما رأيكما؟. فيليب فال :أنا متّفق معك تماما، غير أنّ هذا المفهوم فقد قيمته تدريجيا… إذ من
يمثّلون اليسار الراديكالي ينظرون إلى إيديولوجيا حقوق الإنسان ومعاداة
العنصرية على أنّها تمثل الدرجة الصفر في الفكر، إنّه لموقف شاذّ. أن
نفكّر في حقوق الإنسان وعالميتها، أليس معنى ذلك أن نفكّر بعمق ونفعّل
الفكر باستمرار؟ هل هناك ما هو أكثر عمقا؟ هذه النظرية تسير بالتوازي مع
النسبيّة الثقافية وهي أيضا نظرية زائفة. لنأخذ مثالا الشرطية الأفغانية
Malalai kakar التي قتلت منذ شهر تقريبا لأنّها وقفت في وجه العنف الذي
يُمارس ضدّ المرأة في قندهار. لنقارن هذه المرأة –التي عاشت دائما في
أفغانستان والتي تناضل من أجل الحقوق الأساسية والحريات في بيئة ثقافية
معادية- بامرأة أخرى هي Sarah Palin والتي تعيش في أمريكا منفتحة في مدن
كنيويورك… حيث المثلية مقبولة والنساء حرّات… إنّها الأمريكية وليست
الأفغانية هي التي تتمسك بخطاب قادم من عصر آخر تماما. هذا يدعم فكرتي
بأنّ النسبية الثقافية لا معنى لها. هؤلاء الذين يتباكون ويحزنون لزوال
الدين هم عادة أولئك الذين يتمسّكون بخطاب وقائيّ. ففي الوقت الذي تتوجّه
الديمقراطيات إلى التّخلّي عن السيادة القوميّة لكي تندمج في تجمّعات
ديمقراطية أكبر، يتزامن النداء للعودة إلى الدين –كعامل تجذّري جديد- مع
الرغبة في إعادة بناء أمّة حمائية منيعة، وربما أكثر مناعة ضدّ التأثيرات
الخارجية، وهذه التوحدّية الاستيهامية للعالم، والتي تخيف الكثير من البشر.
إيمانويل تود :أنا لا أجد نفسي إطلاقا فيما قيل. كانتروبولوجي أعترف بنفس الوقت بكونية
الإنسان وتعدد الثقافات. لا بدّ من الوعي بأنّ تاريخا كونيا هو بصدد
التكوّن، مع عقلية إنسانية كونية وطموح للتقدم والتحرّر. مع هذا، ورغم أنّ
لي ميلا شخصيّا للحرية والمساواة وقانون أساسيّ للمرأة أفضل وأسمى، فإنني
وبكل تواضع، أعترف أنّ هذا الميل مرتبط بحقبة ما. وفي سبيل أن نتحاشى
الصراعات الأشدّ عنفا، علينا أن نكون قادرين على التفكير بالتنوع، والآن،
علينا أن نكون حذرين ولا نطلب من جيراننا أشياء لا يقدرون على إنجازها
فورا على مستوى التطوّر.
- هذا ما يقودنا إلى مسألة الإسلام؟ الدين الذي أصبح –حسب رأي
إيمانويل تود- العدوّ الذي لا بدّ من استئصاله بالنسبة للملحدين
الأوروبيين… وهو المحرّض الذي حرّك لدى البعض إرادة النضال… فيليب فال، هل
تشعر أنّك معنيّ… وهل لك جواب للذين يتّهمونك بالخوف المرضيّ من الإسلام
L’islamophobie ؟ فيليب فال :بنظري من الصعب جدّا، أن نجد ماهية محدّدة لأيّ ثقافة كانت، إنّ تشويه
ثقافة ما هو انحراف وشذوذ، ذلك أنّنا نجد في كلّ ثقافة درسا ما للإنسانية.
أريد أن أوّضح أن لا مشكلة لي مع الإسلام كممارسة دينية فردية. هذا لا
يمنعني من اتّخاذ موقف سياسي: يمكننا أن ننقد الإسلام، وهو يدّعي –في
مرحلة تبشيرية- قدرته على تسيير المجتمع ويحاول إنتاج قوانين وأحكام
(تنظيم أوقات السباحة، منع حمل الحجاب في المدارس…) الدين في النظم
الديمقراطية عليه أن يكتفي بتوفير الرغبات الروحية للأفراد. ولا يجب أن
يتدخّل إطلاقا في السياسة. خطابي النقدي ينحصر ضدّ هذه الرغبة في أخذ
السلطة. وبما أنّ الاندماج الجمهوري كان ناجحا مع العديد من الفاشلين،
فإنّ نقد التبشيرية الإسلامية ينقلب في هذا الوقت ضدّ صاحبه ويتحوّل إلى:
"تنقد الإسلام؟ إذن أنت مصاب بالخوف من الإسلام، يبدو لي الأمر سخيفا جدّا
ومبتذلا.
إيمانويل تود :التركيز على الإسلام في فرنسا يمكن اعتباره انزياحا لعداء اللائكيين
القديم للكاثوليكية. في العمق، الاختلاف بيننا في التقويم هو حول أهمية
وضخامة الأخطار المحدقة أكثر منه حول القيم والمفاهيم. الخطاب المعادي
للإسلام يرتكز على الخلط بين الاختلاف الثقافي والاختلاف الزمني. الاختلاف
الموجود اليوم بين أوروبا والعالم الإسلامي لا ينمّ عن اختلاف في الطبيعة
والجوهر بين المسيحية والإسلام. الواقع هو ما يلي: المسيحية اندثرت
والإسلام يستعدّ بلا شك للاندثار… والبلدان الإسلامية تعيش أزمة حداثة،
وقد تزعزعت معتقداتهم وهذا ما نتج عنه ظهور فئة من الأصوليين. ومع ذلك
فأنا مقتنع بأنّ هنالك مبالغة في تقدير التهديد الناجم عن ذلك، لأنّ
الإسلام التقليدي معرّض لتهديدات أكبر وأخطر بكثير من التهديدات التي
تعترض سبيلنا نحن، وهنا يكمن قلقهم واضطرابهم: قلق المابعد، قلق الفراغ،
والذي نواجهه نحن في أوروبا. إن واقع توازن القوى هو في صالح هذا العالم
بدون إله، والذي يواصل تفعيل الأزمة والتشريع بها.
فيليب فال :في أيّ لحظة يعبّر الواقع عن ذاته؟ في اللحظة الحاضرة، ولهذا فنحن مجبرون
على التفكير في الحاضر… التاريخ والسياسة ليسا عبثيين. إذا اتبعنا طريقة
تحليلك نستطيع القول إنّ الأساطير الألمانية ستنهار بين فاغنار "wagner"
وهتلر … ليكن. غير أنّ هذا الانهيار مرّ بمرحلة من العنف الشديد
والاستفاقة التي كانت علامة الانهيار كانت من الرعب بما لا يوصف، وقد وضعت
أوروبا كاملة في حمّام من النار والدم. وإذا كان الإسلام في طريقه إلى
الاندثار هذا لا يعني أنه لا يحمل شظية من العنف ناتجة عن قلقه.. يوم 11
سبتمبر 2001 هاجم بن لادن "سدوم" التي تهدّد النقاوة التي يحلم بها. هذا
يعني أنّ الإسلام قادر على ترويع العالم والتسبّب في خسائر فادحة وهو ينظر
إلى نهايته… وبما أن الواقع لا يتمثّل إلاّ في الحاضر فإننا مجبرون على
التفكير في الصدمة الحالية لهذا العنف الكامن. أن نقول ذلك لا يعني أننا
مصابون برُهاب الإسلام .
إيمانويل تود :نعم… ولكن أنا أفكر دائما في مفهوم الأزمة الانتقالية. في مراحل محو
الأمية، وانخفاض معدلات الولادة تحدث العديد من الأزمات العنيفة. غير أنني
أنبّه مسبقا إلى إجراءات البوليس والوحدات السرية منه إلى الصراعات
الإيديولوجية… حاليا، هناك خطر كبير جدّا يهدّد باكستان –على حافة
الانفجار- ونحن مخطئون حين نركّز على إيران. علينا أن نبقى في إطار
التاريخ الواقعي المحسوس وقادرين على تشخيص الحالة… مازلت أُصرّ –إذن- على
أن طبيعة الإسلام لا تمثّل تهديدا استثنائيا، وأننا نغالي كثيرا في
تقديراتنا… في سياق عالم متطور يعيش حالة انبجاس داخل منظومته
الديمقراطية. ولأسباب داخلية صرفة فإنّ أولوية اهتمامنا ليست الإسلام.
المشكلة هي نحن. نحن في حالة فراغ بدون مشروع في مجتمع "يغتال"، اقتصاديا،
أبناءه (متعدّدي الأصول) في الضواحي.
ف.فال :إنّ مجتمعاتنا لا يمكنها التحرّك سياسيا واقتصاديا وفلسفيا ومعنويا
وثقافيا وتقنيا وفنيا، إلاّ بفضل شرح الأوضاع وتحليلها… إنّ ذلك هو ما
يجعل الحياة ممكنة ومتواصلة. إنّ مشكلة الإسلام الخصوصية هو أنّه يعيش"
فترة تعلق بالنّص" حتّى وإن كانت هذه الأزمة هي أزمة علمنتِه فإنها علامة
احتضاره. علينا أن نتصرّف اليوم بكلّ رويّة وحكمة ممكنة في وجه الاعتداءات
والتوسّعات التي تمارسها السلفية الدينية.
الأحد نوفمبر 17, 2013 1:24 pm من طرف فدوى