قامت
قناة "كولتورا" (الثقافة) باستعدادات واسعة للاحتفال بالذكر الـ 200
لميلاد الكاتب نيقولاي غوغَل: فوضع إيغَر زولوتسكي فكرة مسلسل مؤلّف من
عشر حلقات تحت عنوان "تبرئة غوغل" (بداية عرضه كانت يوم 10 آذار/ مارس
2009)، وتمّ إخراج فيلم وثائقي من حلقتين في ستوديو سيرغي ميروشنيتشينكو
"غوغل. قصة وداع" (يعرَض أواخر نيسان/ أبريل)، وكذلك تمثيليتين
تلفزيونيتين مقتبستين عن قصص غوغل (تعرَضان يومي سبت) هما: "مشهد صامت"،
و"بَشماتشكِن"، من إخراج فلاديمِر ميرزويف، وصيغة تلفزيونية لمسرحيتين
دراميتين، هما: "النفوس الميتة" ويخرجها سيرغي أرتصيباشِف على خشبة مسرح
ماياكوفسكي، و"المقامرون" ويخرجها أليغ مينشِكوف (الرابطة المسرحية "814").
هذه مقابلة مع مدير ستوديو "أوستْرَف" (الجزيرة) سيرغي ميروشنيتشينكو:
لماذا اشتغلت، يا سيرغي فالِنتينَفِتش، بأعمال غوغَل؟ أبطلب، أم لحاجة في نفسك؟إنني أحبّ غوغَل. أنت تعرف أنه قد تكون هناك امرأة ليست أجمل النساء في
العالم، ولكنك تحبها بجنون. قد لا يكون غوغَل أعظم كاتب في العالم، ولكنني
أُحسُّه بأعماق روحي. صحيح أنني لست من يخرج "غوغَل: قصة وداع"، فما أنا
إلا المدير الفني والمنتج في هذا المشروع، فالمخرج هو الشاب أرتور
فيدِنميير الذي تتلمذ على فلاديمِر خَتينينكو. لقد قرّرت أن هذا الفيلم
يجب أن يكون من إخراج الشباب. نحن لم نضع نُصْب أعيننا أن نكون باحثين في
غوغَل، ولم نشاْ أن نشرِّح شخصيته، أو أن نقدم حياته من المهد على اللحد.
إن عملنا ينصبُّ على أفكاره حول ما يجب على الفنان أن يفعله في الحياة.
فالفيلم حكاية عن شخصية الفنان الروسي في العالم، حكاية يقدمها ممثلون؛ في
الحقيقة هي كل ما يدور داخل غوغَل نفسه. (على أن هناك غوغَلين اثنين:
غوغَل القاضي، وغوغَل المتَّهم). وهناك أيضاً شخصيات غير محددة، مثل:
الصديق، الراهب، السيدة… الآن، والمونتاج يدنو من نهايته، يبدو أننا في
استخدام أسلوب عصري، أحياناً أسلوب الـ "كليب". نعم، يجب علينا أن نفكر
بطريقة عصرية. فالتكثيفات الإيقاعية تتحول في لحظة من اللحظات إلى وقفة
صمت، إلى كسر للإيقاع على الطريقة التي سبق أن استخدمها فورمان في "طيران
فوق عش الوقواق"…
أحقاً أن الشباب اليوم يهتمون بـ غوغَل؟أعتقد أنْ نعم. إنني قويّ الإيمان بالشباب. وأظنّ عموماً أنّ جزءاً من
الحياة يجب أن يمنح للشباب. عندي الآن ثالث ورشة في معهد "فغيك"
السينمائي. ثلث الشباب يدرسون عندي. بعد الدراسة يجب أن أرى جيلاً، وهذا
الجيل يجب أن يجد عملاً في السينما. ستوديو "أوستْرَف" الذي أديره مساحة
للشباب أيضاً، أحاول فيه أن أمكّنهم من الانطلاق، وعندما ينجحون أفرح.
وسأفرح الآن أيضاً إذا ما حظيت "قصة وداع" بإعجاب المشاهدين. أمّا إذا لم
ينجح هذا المشروع وصار عُرضة للنقد، سأعرف أنني أتحت للشباب فرصة التجريب،
وساعدتهم. لعلَّ في داخلي رَجُلَ تنوير.
شخصية غوغَل متضاربة. ما الذي جعلها تحرككم؟إنه أوّل سرياليّ عندنا. أوّل رسول لنا في أوروبا. وهو أوّل فنّان أراد
أن يضاهي بموهبته مستوى التطور الثقافي الأوروبي. لقد فهم وهو في روما أنّ
عليه أن يندرج في سياق واحد مع دانتي، وشكسبير، أن يكتب للعالم كله ولعصور
طويلة. عندما راح يفكر ما هي روسيا وجد نفسه مضطراً لحرق الجزء الثاني من
روايته "النفوس الميتة"… إذا ما حالَفنا التوفيق، فإنّ المشاهدين سوف يرون
قصة معاصرة تبيِّن كيف نصبح في بلادنا مشهورين، ثم ندرك حين نسافر إلى
الخارج أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، وأنه ليس مقدراً للجميع أن يظلوا
فنانين على المستوى العالمي. فـ تركوفسكي، على سبيل المثال، نجح في أن
يظلَّ كذلك، فيما أخفق آخرون.
ألمْ تشاهد برنامج توك شو "المصلحة الوطنية" المخصص ليوبيل غوغَل؟ الرسالة العظيمة للأرثوذكسية الروسية، غوغَل بوصفه تجسيداً للروح
الأرثوذكسية، الابتعاد عن الأرثوذكسية يؤدي إلى الهلاك،… تلك هي الكلمات
التي تردّدت هناك. لعلّه معروف الآن أنّ الإله واحد، وكلّ ما في الأمر أن
الأنبياء جاؤوا في أزمنة مختلفة: غوانتاناما، محمد، عيسى…*
إنني أعيش حياة مؤمن طبيعية. خير الطرق في نظري هو طريق التركيز
والطمأنينة في الإيمان. إن الحطَّ من شأن الأديان الأخرى يثير نفوري.
يكفينا ما هناك من نزاعات، ثم إن التوتر والخصومات الدينية أمور قد تقضي
على روسيا قضاء مبرماً. لقد صوّرت قبل مدة قصيرة مسلسل "السماوي والأرضي"،
وهو مؤلف من عشر حلقات تتحدث عن تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
وعندما كنت أستعد للتصوير تحدثت مع نيافة البطريرك الراحل أليكسي. كان
إنساناً عظيماً. وكنا محظوظين، بوجوده معنا في المرحلة الانتقالية، معنا
نحن العصبيين قليلاً والمحبين. فهو لم يدفع روسيا في أيّ اتجاه، لا إلى
اليمين، ولا إلى اليسار، وإنما إلى البناء فقط. قال لي: صوِّروا ببساطة،
فشعبنا يفتقر كثيراً إلى الثقافة…
*ذكرتُ لكم "المصلحة
الوطنية" وأنا أقصد قول يوري شيفتشوك إنهم، من خلال شاشة التلفزيون،
ينمّون فينا الغضب والحقد على الآخر، الغريب، من ليس منا. وبالمناسبة،
حبّذا لو تصورون فيلماً عنه، فثمة من يعُدُّ شيفتشوك ضمير الأمة…من في زماننا يقدّم مالاً من أجل شاعر؟.. خاصة وأنه لن يستجدي المال
150 مرّة، ولن يغنّي في حفلات اليوبيل. إنني شديد الحبّ لـ يوري شيفتشوك،
وأرى أنّ لكلّ جيل شاعره. ففي 70- ات و80- ات القرن الماضي كان عندنا
فيسوتسكي (شاعر ومغنٍّ وممثل شهير. – المترجم)، أمّا شاعر جيلنا اليوم فهو
شيفتشوك. ليس عندنا الآن أفلام وثائقية عن إنسان فذّ، أو عن بطل. ربما لأن
تصوير فيلم عن يوري شيفتشوك، أو فاليري غيرغييف، أو أليغ ميتفول يتطلب منك
نفسك أن تكون هيرتس فرانك. قليلاً ما يصورون أفلاماً عن مواضيع اجتماعية،
أمّ عن المصائب فحدِّث ولا حرج، إنها قائمة طويلة، ما أبسط ذلك! يكفي أن
تضع قنينة شراب وتصوِّر. ثمّة مشكلة أخرى تمثلت في عادة خلق فضاء للعب
داخل الفيلم الوثائقي فما الأكثر قيمة، هل هي الدمعة الحية، أم دمعة
التمثيل؟ يقولون اليوم: إن الصورة القذرة (أي الوثيقة وحقيقية الحياة،
والبذاءات التي تبثها الشاشة) هي الحقيقة مضاعفة، وإذا ما تعرّى الأبطال:
هي الحقيقة الكاملة. ما يخيفني هو أن الأفلام الوثائقية الروسية انتقلت من
المعايشة إلى التسجيل، وهذا يخلق انطباعاً لديّ بأننا نأكل آخر ذيل
"الدوغما" الأوروبية. موقفي هو أن المخرج الوثائقي ملزم بأن يسجّل
المشاعر، ولكن المخيف هو هذا الميل إلى تشريح تلك المشاعر الوضيعة، التي
لا تسمو بالروح، بل إلى تشريح الغرائز الدنيئة. لسبب ما، السقوطُ الأخلاقي
يشدُّ القصاصين. فمن يتتبّع الانحطاط يحظَ بالاحترام! إننا إذا صرخنا طول
الوقت: "الظلام! الظلام!" فإن الظلام سيأتي، أمّا إذا أشعلنا شمعة في
الظلام انبثق النور.
* إذا صرفنا النظر عن
الجوائز الأخرى، فأنت المخرج الوثائقي الروسي الوحيد الذي حصل على جائزة
أكاديمية التلفزيون الأمريكية "إيمّي" على فيلم "مولودون في الاتحاد
السوفيتي"؟ هذا الفيلم يخلِّف أقوى انطباع لسبب إضافي أيضاً، هو أنك تصور
الأطفال في السابعة من العمر ولكل منهم شخصيته، وفي سن الرابعة عشرة يغدون
"لامبالين"، أمّا في سن الحادية والعشرين فتجدهم جميعاً متشابهين كأنهم
شخص واحد!لعلني كنت أكثر موهبة عندما بدأت أصورهم وهم في السابعة من العمر؟ لا
أريد أن أعتقد بأن الإنسان عندما يكبر يغدو أسوأ. هناك مشكلة واحدة، هي
أننا في بلادنا نهبط بالإنسان على الأرض وهو بين الرابعة عشرة والحادية
والعشرين من عمره، ونجرِّده من الأوهام والإمكانات. نفعل ذلك في اللحظة
التي يفهم فيها الإنسان أنه إذا ابتكر شيئاً، كان على يقين من أن هذا
الشيء لن يتحقق، وإذا تفوّق في الجامعة لن يضمن له تفوقه إيجاد عمل
بسهولة. يجب على الإنسان عندنا حتماً أن ينبت من تحت الإسفلت، عندئذ يكون
شجرة قوية. عند درجة خاصة ومستوى خاص من المنافسة لا تظنّ أنك إذا كنت
ماهراً في شيء وجدتَ من يراهن عليك. أنت محام جيّد وشريف، إذن فالأرجح أنك
لن تكسب كثيراً من المال. كذلك فإن النائب العام الجيد ليس من تتبّع قضية
وعاقب الجاني، وإنما هو من أحسن التدليس للنظام ووضع ضميره في جيبه. لقد
انقلبت القيم جميعها في روسيا اليوم. إنها بلاد تجريبية، والتجربة خارج
الأنظمة والأنساق، لذلك فهي غير قابلة للقراءة. ورغم ذلك أريد أن أقول: لا
حاجة لاختبار صبر شعبنا. صحيح أنه شعب سلافي، ولكنَّ في عروقه دماً قوياً
من التتار والقوقاز، وما من داع لتجريبه. علينا أن نتذكر أن مصير جميع من
يتاجرون بالموتى (بـ "النفوس الميتة") محكومون بمشيئة الله التي تتضافر في
روسيا مع مشيئة الشعب.